تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
في عام 1971 نشر جون رولز كتابه “نظرية العدالة، وهو أهم إعلان ودفاع عن الليبرالية السياسية في القرن العشرين. اقترح رولز أن بُنية المجتمع هي التي ينتجها مجموعة من الجهات الفاعلة العقلانية إذا كانوا يعملون خلف ـ”حجاب الجهل”، أي بشرط ألا يكون لديهم معرفة مُسبَقة بجنسهم وأعمارهم، وثروتهم، ومواهبهم، وعِرقهم، وبمستواهم التعليمي في المجتمع المُتخيَل. ولأن لا أحد سيعرف مُسبقًا إلى أين سيؤول حالهم في المجتمع، فإن الأفراد العقلانيين سيختارون مجتمعًا يَكفل للجميع حقوقهم الأساسية، بما في ذلك تكافؤ الفرص بينهم. ونظرًا لأن تكافؤ الفرص الحقيقي (وليس “النظري”) يتطلب وصولًا أساسيًا إلى الموارد، كالمأوى والرعاية الطبية والتعليم، فإن الجهات الفاعلة العقلانية، كما يتصورها رولز، ستعيد توزيع [الثروات والإمكانيات] في مجتمعها، مما يضمن مستوىً لائقًا لحياة الجميع.
في عام 1974، رد روبرت نوزيك على مقترح رولز بكتابه “الفوضى والدولة واليوتوبيا”. إذ جادل بأن المجتمع العادل هو ببساطة مجتمع ناتج عن سوق حر غير مقيد، وأن المهمة الشرعية الوحيدة للدولة هي ضمان عمل السوق الحر من خلال إنفاذ العقود وحماية المواطنين من العنف والسرقة والاحتيال. (جادل نوزيك بأن سياسة إعادة التوزيع الظاهرية المتمثلة في جعل الناس يدفعون مقابل هذه “الدولة الحارسة” [دولة تنحصر وظيفتها في توفير الأمن لمواطنيها]، هي ليست عملية إعادة توزيع في حقيقتها، لأن مثل هذه الدولة ستنشأ بشكلٍ طبيعي من خلال التفاوض الحر.) فإذا كان شخص ما (يستخدم نوزيك عادةً اسم ويلت تشامبرلين، لاعب كرة السلة الشهير) قادر على إنتاج سلعة أو خدمة عليها إقبال كبير، ويدفع الآخرون له بحرية مقابل تلك السلعة أو الخدمة، فهو يستحق إذن ما تحصَّل عليه من ثروة. وبنيله تلك الثروة، فهو لا يدين لأي أحد بأي شيء، لأن ثروته تراكمت من خلال التبادل الطوعي مقابل السلع والخدمات التي أنتجها. ويؤكد نوزيك أن أي محاولة “لإعادة توزيع” ثروة هذا الشخص، طالما كسبها من خلال التبادل الحر في السوق، تُعتبر “عملاً قسريًا.”
يمثل رولز ونوزيك قطبا الخطاب السياسي الغربي السائد: ليبرالية الرفاهية وليبرالية عدم التدخل، على التوالي. (قد لا يبدوان كطيفين أيديولوجيين واسعين، إلا أنهما يشكلان الاتجاهين السائدين بالنسبة لك.) بشكلٍ عام، لا تزال المجتمعات الغربية تميل إلى آراء رولز أكثر من نوزيك: فهي تميل إلى توفير أنظمة للرفاهية الاجتماعية، وإلى أن تُعيد توزيع ثرواتها من خلال الضرائب. لكن منذ سبعينيات القرن الماضي، بَدأت بالميل أكثر إلى نوزيك بشكلٍ مطرد. تتماشى مثل هذه التغييرات المتسللة للنظام الغربي، كتآكل دولة الرفاهية وخصخصة القطاع العام وزيادة حماية الشركات، مع نظرة أخلاقية للعالم يكون بموجبها السوق الحر هو التجسيد للعدالة. وتتزامن هذه الزيادة في التفكير النوزيكي مع زيادة دراماتيكية في انعدام المساواة الاقتصادية في الولايات المتحدة على مدى العقود الخمسة الماضية، فقد تضاعفت دخول أعلى 1% من الأمريكيين بنسبة 275% في الفترة ما بين عامي 1979 و2007، في حين أن الطبقة الوسطى، التي تمثل 60% من تعداد الأمريكيين، لم ترتفع دخولها إلا بنسبة 40%. إذا كانت عمليات السوق الحر دائمًا أخلاقية، أي الإدراك الملموس لمبدأ أنك لن تحصل على أكثر ولا أقل مما تستحقه؛ فلا يوجد من حيث المبدأ خطأ في انعدام المساواة المتمثل في البين الكبير بين نسبتي الزيادة تلك.
إن الأزمة الاقتصادية الحالية ليست استثناءً من الاتجاه نحو إضفاء صبغة أخلاقية على السوق النوزيكي. في النقاشات الأخيرة في مجلسي الشيوخ والنواب حول قسائم الطعام [برنامج المساعدة الغذائية التكميلية]، التي يتلقاها واحد من كل ستة من الأمريكيين حوالي ثلثيهم من الأطفال أو المعوقين أو المسنين، قدَّمَ الجمهوريون مطالبتهم بخفض الإعانات الغذائية على نحوٍ كبير على أنها قضية عدالة وإنصاف. حيث قال السناتور جيف سيشنز، جمهوري من ولاية ألاباما، في خطابه: “إنها أكثر من مجرد قضية مالية؛ إنها قضية أخلاقية أيضًا”.
نشر الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد ن. جريجوري مانكيو مؤخرًا مسودة بحث بعنوان “الدفاع عن الواحد بالمئة”. كرَّر مانكيو في مسودته (دون استشهاد به على نحوٍ غريب) حجة نوزيك حول حق الأثرياء في الاحتفاظ بأموالهم، مشيرًا إلى المبدأ الأخلاقي المتمثل في عبارة “الجزاء العادل” [مصطلح يعني أن المرء سينال جزاءه المستحق في نهاية المطاف] باعتباره ما يجعل التوزيع بيد السوق أمرًا أخلاقيًا في الأساس. وفي إصدار حديث من مجلة فوربس، اقترح أيان راند، ورائد الإصلاح هاري بينسوانجر إعفاء أولئك الذين يكسبون أكثر من مليون دولار من دفع الضرائب، ومنح الأعلى ربحًا منهم في كل عام وسامَ شرف كمكافأة (وحافز) لإنتاجه الكثير من القيمة السوقية. مرة أخرى، أوضح بينسوانجر أن: “القضية الحقيقية ليست مجرد قضية مالية، بل هي قضية أخلاقية”.
غالبًا ما يُصوَّر الاستشراف النوزيكي على أنه ذي حس أخلاقي سليم. لكن هل هو كذلك فعلاً؟ سأطرح هنا أربعة أسئلة للذين يميلون لقبول حجة نوزيك التي تُقر أن المجتمع العادل هو ببساطة مجتمع يعمل فيه السوق الحر دون قيود. يستهدف كل سؤال أحد مقدمات حجة نوزيك أو نتائجها. فإذا كنت ستقبل حجة نوزيك، فعليك أن تُجيب بالإيجاب على الأسئلة الأربعة التالية. لكن، فعل ذلك ليس سهلاً كما قد يبدو للوهلة الأولى.
إن أجبت بنعم، فأنت تعتقد إذن أنه لا يمكن أبدًا إجبار الناس على اتخاذ إجراء ما من خلال ظروف لا تنطوي على الإكراه الجسدي المباشر لشخصٍ آخر. لنفترض أن ثمة امرأة وأطفالها يتضورون جوعًا، وكانت الطريقة الوحيدة لإطعامهم، بخلاف السرقة، هي الدعارة أو بيع أعضائها. فبما أنها تقوم بهذه الأفعال التبادلية دون إكراه جسدي مباشر من شخصٍ آخر، بل بسبب قهر الجوع وانعدام البدائل؛ إذن فهي تملك زمام حريتها.
إن أجبت بنعم، فأنت تعتقد أن أي تبادل حر يستحيل أن يكون استغلالاً، وبالتالي يستحيل أن يكون غير أخلاقي. لنفترض أنني ورثت عن والديَّ الثريين قطعة أرض كبيرة شاغرة، وأنك جاري الفقير الذي لا يملك أرضًا. فعرضت عليك الصفقة التالية: يمكنك العمل في الأرض، وإجراء كل الأعمال الشاقة من حرث وبذر وري وحصاد، وسأدفع لك دولارًا واحدًا كأجر يومي لمدة عام واحد. بعد ذلك، سأبيع المحصول مقابل 50 ألف دولار. ولأنك تجد أن عرضي هو أفضل خيار مُتاح لك، فستوافق على هذه الصفقة. نظرًا لموافقتك على هذا التبادل، فلا يوجد أي مشكلة أخلاقية فيه.
إن أجبت بنعم، فأنت تعتقد أن ما يستحقه الناس متعلق إلى حدٍ كبير بالحظ. لماذا؟ أولاً، لأن ثمة قِلة من الناس محظوظة بما يكفي لترث ثروة من والديها. (لا يغيب عن أذهاننا مِيت رومني ، رجل الأعمال الشهير الذي نصح الشباب الأمريكي: “اقتنص الفرصة، توجه إليها، وخاطر … اقترض المال إذا توجب الأمر من والديك، وابدأ مشروعًا تجاريًا”. نظرًا لأن إعطاء المال لأطفالك هو مجرد مثال آخر للتبادل الحر، فلا حرج في تراكم الثروة والامتيازات في أيدي هذه القِلة. ثانيًا، قدرة الناس على إنتاج السلع والخدمات المطلوبة في السوق منوطة إلى حدٍ كبير بظروفهم الخاصة التي ولدوا بها: ميولهم الوراثية، ومستوى تعليم والديهم، ومقدار التمييز العرقي والجنسي الذي تعرضوا له، ونيلهم للرعاية الصحية والتعليم الجيد.
علاوة على أنها متعلقة بالقيمة السوقية للمنتج في وقتٍ معين؛ فقد توفي كل من فان جوخ، وويليام بليك، وإدغار آلان بو، وفيرمير، وملفيل، وشوبرت وهم مفلسين. فإذا كنت نوزيكيًا حقيقيًا، فستعتقد أنهم نالوا ما استحقوا.
إن أجبت بنعم، فأنت تعتقد أن المتطلبات الأخلاقية الوحيدة هي تلك التي نضعها على أنفسنا بحريتنا، لنقل من خلال قطع الوعود أو إبرام العقود. لنفترض أنني أثناء توجهي إلى المكتبة رأيت رجلاً على وشك الغرق في نهر، فقررت أن الغبطة التي سأنالها بسبب إنقاذ حياته لن تفوق تكلفة البلل والتأخير اللذان سأتكلَّفهما. لذلك سأمضي في طريقي. فبما أنني لم أبرم عقدًا مع الغريق، فأنا لست ملزمًا بإنقاذه.
أعتقد أن معظمنا سيجد صعوبة في الإجابة بنعم على جميع هذه الأسئلة الأربعة. (حتى نوزيك نفسه، في كتابه آنف الذكر، وجد صعوبة في الإجابة بنعم على السؤال الثالث). من الناحية الفلسفية، لدينا البرهان بنقض الفرض (Reductio ad Absurdum) [إثبات صحة المطلوب بإبطال نقيضه، أو فساد المطلوب بإثبات نقيضه]. وعليه، فوجهة نظر نوزيك تُشير إلى ما ينافي المنطق من منظور أخلاقيات المنطق السليم: فالشخص اليائس الذي يبيع أعضائه أو جسده يفعل ذلك بكامل حريته، وأنه من الجيد أن يُدفع لشخص ما مبلغًا زهيدًا بينما يتربح آخر بشكل كبير من عرق جبينه، وأن المرء يستحق ما يناله من ثراء لا بسبب جهده الخاص، بل بسبب ظروف ميلاده التي هيأت له أسباب الثراء، وأنه لا حرج في أن يمضي الإنسان بعيدًا عن آخر وهو على وشك الغرق. وبالتالي فوجهة نظر نوزيك يجب أن تكون خاطئة: فالعدالة ليست مجرد ممارسة غير مقيدة للسوق الحر. و”أخلاقيات” السوق الحر ليست شيئًا له علاقة بالعدالة.
قد يعترض البعض على أن الحالات المذكورة هي حالات متطرفة، وأن كل ما تظهره هذه الحالات هي أن السوق يحتاج إلى بعض التغيير والتبديل لكي يكون أخلاقيًا تمامًا. ولكن الإقرار بأن الحرية تعني أكثر من الموافقة، وأن ثمة حالات من الاستغلال غير العنيف، وأنه لا ينبغي مكافأة الناس ومعاقبتهم بناءً على ظروف خارجة عن إرادتهم، وأن لدينا التزامات أخلاقية تتجاوز تلك التي نتحملها تعاقديًا؛ هو إقرار بفساد بُنية نظرية نوزيك من أساسها يُفقد مؤيدو السوق الحر أُسسهم الأخلاقية.
لكن، لماذا كل هذا القلق بشأن الأضرار الأخلاقية للنزعة النوزكية؟ ففي النهاية، وكما قررنا سلفًا، إن معظم المجتمعات الغربية لا تزال رولزية في تنظيمها، حتى وإن ازدادت ميلاً للنوزيكية في أيديولوجيتها؛ فمثلاً، في الولايات المتحدة، هناك حظر قانوني على ما يمكن أن يبيعه الناس، وهناك شبكة أمان لمساعدة أولئك الذين يعانون من ضيق الحال، وروح مدنية تمنعنا من ترك الناس يغرقون أمام أعيننا. الإجابة الأولى المباشرة لهذا الاستفهام: بطبيعة الحال، هي إن الواقع المادي يتشكل بسرعة من خلال الأيديولوجية، وهذا ما تظهره النقاشات الأخيرة حول الرفاهية في الولايات المتحدة.
والإجابة الثانية هي أن معظم المجتمعات الغربية تشكِّل بالكاد يوتوبيا رولزية. فقد يُحظر قانونيًا على الأفراد بيع أعضائهم، لكن هذا لن يعالج الظروف اليائسة التي قد تجبرهم على هذا الصنيع. كما أن القانون لا يمنع الناس من الوقوع في براثن الفقر بسبب الاقتراض والديون، أو الاستغلال من خلال شركات تسوية الديون التي تَعِد بمساعدتهم على الهروب من تلك البراثن، أو فقدان منازلهم بعد شراء قروض عقارية لا يستطيعون سدادها. وبالتأكيد لا يوجد حظر ضد الأعمال الوضيعة والمُذلّة التي يقوم بها الفقراء مقابل تعويضات هزيلة من الشركات المتخمة بالثراء. قد تقدم دولة الرفاهية السريعة التآكل شبكات الأمان الأكثر هشاشة لأولئك الذين يمرون بأوقات عصيبة، لكنها لا تحرك ساكنًا لمعالجة نقص الحراك الاجتماعي الناجم عن الارتفاع الكبير لحالة التفاوت واللا مساواة. ورغم أنه قد يُعتقد أن المرور بجانب رجل يغرق أمرًا سيئًا، فإن ترك أطفالٍ يقاسون الجوع لا يُعتبر مسموحًا به فحسب، بل هي “قضية أخلاقية” أيضًا، على حد تعبير السناتور سيشنز. قد لا تكون هذه الحقائق مثيرة للغضب من الناحية الأخلاقية تمامًا كالمرور بقرب غريق، لكنها، بالتأكيد، تتعارض مع مفاهيمنا المنطقية للإنصاف.
لرفض الرؤية النوزيكية علينا أن نفكر فيما تتطلبه العدالة فعلاً، بدلاً من قبول المقولة السائدة بأن السوق يمكن أن يتولى رعاية أخلاقنا بالنيابة عنا. إذا كنت لا تزال نوزيكيًا راسخًا، فخيارك الوحيد هو أن تتحمل -على مضض- المسؤولية وتتقبل النتائج غير المنطقية لوجهة نظرك، فهذا على الأقل أكثر اتساقًا مما لدينا اليوم: أيديولوجية تتباهى بحسها الأخلاقي السليم!
الكاتبة: آميا سرينيفاسان زميلة في قسم الفلسفة بكلية أول سولز بجامعة أوكسفورد، وهي مساهمة دورية في مراجعات لندن للكتب.
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
Questions for Free-Market Moralists
Amia Srinivasan
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”