تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
يُعد الفيلسوف الأمريكي توماس ناجل أحد أبرز فلاسفة العالم، إذ يتميَّز بقدرته الخاصة في الكتابة حول أصعب الأسئلة بدقة ووضوح. أثار كتابه الأخير “العقل والكون” الكثير من الجدل، كما أشار بنفسه مؤخرًا في مقالة خصَّ بها (The Stone) ملخصًا فيها حجته الرئيسة. استقطب ناجل بكتابه بعض المؤيدين الجُدُد – غير المرحب بهم دائمًا – والذين ادعوا أنه: “مهّد الطريق لوجهة نظر دينية للعالم!”، بينما عارضه واستنكر طرحه بعض مؤيديه المتحمسين القدامى مؤكدين أنه: “مهّد الطريق لخزعبلات دينية”. لكن ارتباط حجته بالدين كان ارتباطًا عَرَضيًّا جانبيًّا، وجُلَّ اهتمامه كان منصَّبًا على متطلبات النظرة الميتافيزيقية الشاملة.
اشتهر جيه إل أوستن بقوله إن الفكرة الفلسفية، عندما تُتقن كتابتها، تكتمل صياغتها مع نهاية الصفحة الأولى. وناجل يتقن كتابة الفلسفة بشكلٍ جيدٍ جدًا، فبمجرد أن يؤطر المواقف المحتملة من الصعب دحض حججه. إن الخلل، رغم ذلك، من وجهة نظري، يكمن في الإطار نفسه.
تطلَّعَ نيوتن في تساؤلاته التي تضمَّنها كتابه البصريات إلى صياغة رؤية للكون تُفسر كل شيء وفق عدد صغير من المبادئ الفيزيائية. وما زالت تلك الرؤية النيوتينية تحظى بشعبية واسعة عند الكثير من العلماء الذين تحولوا إلى الفلسفة في سنواتهم الأخيرة وأعلنوا عن حلمهم بصياغة نظرية نهائية للكون. لم تكن هذه الرؤية، رغم ذلك، مُقنِعة للكيفية التي تتقدم بها العلوم منذ القرن التاسع عشر، أي منذ عصر داروين. ولم يقدم داروين نفسه مجموعة رئيسية من المبادئ الجديدة التي يمكن استخدامها لاستخلاص استنتاجات عامة حول الحياة وتاريخها، بل وضع إطارًا يبني من خلاله خلفاؤه نماذجًا لظواهر تطورية مُحدَّدة. تقع آلية صياغة النماذج في قلب المكونات الكبرى في العلوم، بما في ذلك الفيزياء. فليس هناك نظريات كبرى، بل أجزاء وقطع متفرقة تولّد رؤى موضعية حول الظواهر ذات الاهتمام الخاص. يمكن أن نصف الأمر كما وصفته نانسي كارترايت بمصطلحها الكاشف الذي استعارته من جيرارد مانلي هوبكنز، عندما قالت بأننا نعيش في “عالم مُرقط”. (2)
يرغب ناجل في معرفة الكيفية التي تحتوي بها الصورة النيوتنية العقل والقيم. ويعد النهج الصحيح لمعالجة شواغله هي إدراك الطريقة التي استرشد بها علم الأحياء استرشادًا ثريًا من خلال مساهمات علمي الفيزياء والكيمياء، دون الحاجة إلى ملاءمة أي صورة. يُعد علم الوراثة الجزيئي أحد أعظم الانتصارات التي حققها العلم الحديث، رغم أنه لم يقدم تفسيرًا لأي جزيئات أخرى سوى الجينات. ستكون حياة أولئك الذين يحللون بيانات تسلسل الحمض النووي أيسر بكثير إن توفرت معلومات عن جزئيات أخرى. يُعتبر مفهوم الجين، في المقابل، مفهومًا وظيفيًا إلى حدٍ ما؛ فالجينات عبارة عن أجزاء من الحمض النووي DNA ترمز للبروتينات أو الحمض النووي الريبي RNA، (هذا إذا ما تجاهلنا الفيروسات القهقرية Retroviruses).
يقدم علم الأحياء الجزيئي، بالمثل، تفسيرًا بالغ الوضوح للكيفية التي تتناسخ بها الجينات لتنتقل إلى الحمض النووي الريبي المرسال: تدخل جزيئات مُعيَّنة في ارتباط مع الكروموسومات، فيُعاد تكوين الحمض النووي بحيث تمكن “قراءة” التسلسل ويُنتَج جزيء الحمض النووي الريبي بالتسلسل الصحيح (عادةً). ما هي بالضبط حالات الارتباط أو إعادة التكوين؟ لا تقدم الكيمياء الحيوية إجابة عامة حول ذلك، لكن في حالات مُحدَّدة يمكن التحقق من مدى القرب الذي يجب أن تكون عليه الجزيئات وتحديد ذلك، إلا أن الحالات عمومًا متنوعة بشكلٍ متمايزٍ للغاية.
يرغب المفكرون المأسورون بالصورة النيوتينية للعلوم في أن يوفرَ العلم أساسًا عامًا للظواهر العامة. لكن الحياة ليست كذلك؛ فلا فرصة لنجاح فكرة الوحدة. إذ نحتاج لمجموعة واسعة من النماذج المختلفة في عددٍ كبيرٍ من تفاصيلها، لفهم العمليات الأساسية التي تحدث في الكائنات الحية كالانقسام، والانقسام الاختزالي، والوراثة، والتطور، والتنفس، والهضم والكثير غيرها. ويتطلب شرح التفسيرات استخدام الاستعارات (مثل “قراءة” الحمض النووي)، أو صياغة المفاهيم التي لا يمكن تحديدها على وجه العموم والدقة في لغتي الفيزياء والكيمياء الصارمتين (مثل الارتباط الوثيق). وستتفرَّع، رغم ذلك، الظواهر التي ستُفسَّر إلى عددٍ من المجموعات المختلفة.
لا يفسر عالم الأحياء الجزيئية وجود الحياة، لكنه يفسر وظيفة مُعيَّنة في الحياة (عادةً في سلالةٍ مُحدَّدةٍ من نوعٍ مُحدَّد). لقد تساءل أسلاف ناجل في القرن التاسع عشر عن الكيفية التي يمكن بها وصف الحياة من الناحية الفيزيائية والكيميائية. ولم تُعالَج هذه الأعجوبة الخاصة مُعالجةً مباشرةً من خلال الإنجازات البيولوجية الاستثنائية للعقود الماضية، بل تبين أن هؤلاء الأسلاف كانوا يطرحون السؤال الخطأ؛ لا تسأل ما هي الحياة (بصوت نيوتيني عميق)، بل أمعِن التفكير في الأنشطة المختلفة التي تتشارك فيها الكائنات الحية وحاول إعطاء فهم تدريجي لكل نشاط على حدة.
قدَّر ديوي المفكر الذي أدرك المغزى الفلسفي لنظرية داروين أفضل من أي شخصٍ آخر في القرن الأول بعد نشر “أصل الأنواع”- شيئيْن حاسميْن في الجدل الذي انخرط فيه ناجل.
أولاً، الفلسفة والعلم لا يجيبان دائمًا على الأسئلة التي تُطرح عليهما، بل في بعض الأحيان يتخطيانها. ثانيًا، بدلاً من التساؤل عن ماهية الحياة والعقل والقيمة، علينا التفكير في ماهية عمل الكائنات الحية والعقول، وما الذي يحدث في الممارسات البشرية للقيم. لقد حدث بالفعل هذا التحول في منظورنا للحياة. قد تكون المقاربة الألطف من استبعاد حجة ناجل الذي أعرب عن قلقه بشأن افتقارنا إلى فهم فيزيائي كيميائي للحياة، هي مناقشة الطرق المختلفة التي فهمنا بها بعض الجوانب المختلفة للحياة.
يملك العقل قدراتٍ عديدةً وواسعةً، تمكَّن علم الأعصاب وعلم النفس بطرقٍ مُبشرة من اسكتشاف عددٍ منها رغم مزاعم البعض بوجود “مشكلات صعبة” لن يستطيعوا التغلب عليها على الإطلاق. يُشجع هذه المزاعم ميلٌ غير حذر لبعض العلماء الذين يكتبون وكأن أعقد وظائف الحياة العقلية، الوعي مثلًا، يمكن تفسيرها مع أول إطلالة للشمس.
لقد بدأ مسار التفسير الجزيئي للوظائف العضوية في مجالٍ متواضعٍ نسبيًا؛ لون العين في ذبابة الفاكهة. وسيكون من المفيد أن يحاكي علم الأعصاب اليوم جهود علماء الوراثة العظماء في أعقاب إعادة اكتشاف أفكار مندل بحيث تنطلق الدراسات بأسئلة يمكن تتبعها على نحوٍ أكثر، مثلًا: كيف يوجه العقل حركة العضلات؟، ثم نترقب إلى أين يمكننا الوصول. إن حالفنا الحظ، في غضون قرن أو ما شابه من الآن، سيبدو قلقنا بشأن فهمنا للحياة أمرًا غريبًا تمامًا كمسألة الطريقة التي يتلاءم بها العقل مع العالم المادي.
يعتقد الكثير، بمَن فيهم ناجل، أن المسائل المتعلقة بالقيم صعبةٌ بشكلٍ خاص. يجب، في رأيي، اتباع الاستراتيجية نفسها هنا. ثمة ممارسات بشرية للقيم، وهي ممارسات معقدة ولها تاريخ طويل ومتشابك، لكن بتحليلها إلى مجموعة من الوظائف الأساسية، فقد نأمل في فهم كيفية دمج بعضها في منظورٍ طبيعي. وقد حاولت الشروع في هذا المنحى شخصيًّا في عملي المتعلق بالأخلاق والتطور.
يتقيَّد ناجل بمنظورٍ فلسفي مُحدَّد حول العلم، كان شائعًا في يومٍ ما، وتبيَّن أن العمل به خلال العقود الأربعة الماضية غير ملائم لقطاعات كبيرة من العلوم المعاصرة الناجحة. يختفي، بسبب هذا المنظور، خيارًا حاسمًا عن ردود ناجل: إن العقل والقيمة، الظاهرتان اللتان تهمانه، ليستا وهمًا بحد ذاتهما، بل الوهم هو أن نعتقد أنهما يشكلان موضوعات مستقلة باستطاعتنا أن نقدم تفسيرات موَّحدة حولها. إن المستقبل المحتمل للعلم في هذه المجالات هو التجزئة، وتوفير مجموعة ضخمة متنوعة من النماذج. قد يقع على عاتق بعض علماء الأعصاب، في وقتٍ لاحق، شرح وهم فكرة “الوحدة”، التطور الأخير الذي سيُضاف للتفسيرات الناجحة لكثيرٍ من المجموعات الفرعية للأنشطة والوظائف العقلية. أو قد يتضح لنا، بحلول ذلك الوقت، أن فكرة الوحدة -المفترضة- في موضوعي العقل والقيمة كانت نتيجة هفوة فلسفية يمكن تقبلها واستيعابها في سياق مرحلة مُعيَّنة من مراحل التطور العلمي، رغم قناعتنا بخطئها.
—
(1) عنوان المقال مطابق لعنوان رواية للكاتب النيجيري غينوا أتشيبي، صدرت باللغة الإنجليزية عام 1962 في المملكة المتحدة، وهو مقتبس من قصيدة “العودة الثانية” للشاعر الإنجليزي ييتس Yeats.
(2) عنوان كتاب لفيلسوفة العلم الأمريكية نانسي كارترايت Nancy Cartwright، التي تعارض فيه رؤية عالم موحد منظم بالكامل وفق نظرية واحدة، وتقترح بدلاً من ذلك خليطًا من قوانين الطبيعة.
الكاتب: فيليب كيتشر هو أستاذ جون ديوي في الفلسفة في جامعة كولومبيا ومؤلف لعددٍ من الكتب، تتضمن “المشروع الأخلاقي” وكتابه المقبل “وفيات في فينيسيا”، وهو مؤلف مشارك لكتاب “الفلسفة والعلوم: مقدمة جديدة.”
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
Things Fall Apart
Philip Kitcher
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”