تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
مواجهة الموت يمكن أن تكون مفتاح تحرّرنا ونجاتنا
نحن خائفون، نحن قلقون وعاجزون عن التركيز ولا نستطيع العثور عليه، وعقولنا تغدو وتجيء من تحديثٍ لآخر. نتابع الأخبار لأننا نشعر أنه يجب علينا ذلك، ومن ثم نتمنى أننا لم نفعل لأنها أخبار مخيفة وحزينة. تبدو غفوات النهار تلقائية ومتقطعة ونادرًا ما يطول النوم، لكنه حين يفعل فإننا نستيقظ أحيانًا في هلعٍ مميت، ومع أعراض وساوس مَرَضية نشعر أنها حقيقية لكننا ندرك أنها ليست كذلك، ثم نشعر بغباء أناني أنه ما كان علينا أن نمر بذلك في المقام الأول. نقيس درجة حرارتنا، وننتظر، ثم نقيسها مرةً أخرى، ويستمر ذلك. تتحوّل مشاعر انعدام الحيلة والملل إلى غضبٍ عاجز حيال ما جرى فعله، والأهم من ذلك، ما لم يجر، أو ما جرى بلا إتقان ولا مسؤولية ولا صدق.
إن فكرة الموت وحيدًا جرّاء مرض تنفسي مرعبة. وسيصعب تحمل معرفة أن هذا ما يحدث لآلاف الأشخاص الآن وهُنا، إذ فُقِدَت الكثير من الأرواح وتدمرت الكثير من سبل العيش. وتبدو مجازات الحرب مُهترئة ومُخادعة. يتلاشى ما كنا نسلم بوجوده من البنى الاجتماعية والعادات وأنماط المعيشة، فقد بات الآخرون مصادر محتملة للعدوى وبتنا نحن كذلك أيضًا: إننا نتحرك ووجوهنا تكسوها الكمامات ونحرص على التباعد.
كل واحدٍ منا منعزِّل في سفينة الأشباح خاصته، وتبدو الأجواء هنا في نيويورك صامتة على نحوٍ مخيف، تنتشر ” الميمات ” memes ونشعر بالمرح للحظة ونحن نشاركها مع أصدقائنا لكننا سرعان ما ننسحب إلى الانعزال عاضين على أسناننا قليلاً. بعد مضي أسابيع على هذا الوضع الجديد، تنحسر الحمى الأولى للتواصل واشتياقنا للمكالمات الطويلة مع الأصدقاء القريبين أو البعيدين إلى شيء أكثر حزنًا وأكثر تجهمًا وأكثر جدية في مجمله. إذ ندرك أننا ماكثون في هذا الوضع لمدة طويلة، لكننا لا ندري ما يمكن أن يعنيه ذلك.
كيف نستطيع أن نتكيَّف مع هذا الأمر، أو كيف ينبغي لنا ذلك؟
كان للفلاسفة علاقة حب طويلة ومُعذَّبة مع التباعد الاجتماعي، بدءًا من سقراط واحتجازه في زنزانته؛ ومرورًا برينيه ديكارت وهروبه من أهوال حرب الثلاثين عامًا (التي كان مشاركًا فيها) حين لاذ بغرفة ذات فرن صغير في هولندا ليتأمل في ماهية اليقين؛ وحتى آخرين كبويثيوس، وتوماس مور، وأنطونيو غرامشي، جميعهم كانوا جزءًا من هذا التقليد الطويل للعزلة والتفكير.
لكن ماذا عن الفلسفة ذاتها؟ لقد سُخر منها طويلاً بسبب عدم جدواها العملية، وسجلها الحافل على مدار 3000 عام من الفشل في حل مشكلات البشرية الأكثر عمقًا. إذن، كيف لها أن تساعدنا خلال هذه اللحظة بالغة الصعوبة؟ هل يمكن للفلسفة أن تقدم إضاءةً ما، أو حتى عزاء، في هذا الواقع الجديد المحطم والموسوم بالقلق والحزن وشبح الموت المرعب؟
ربما أن تتفلسف يعني أن تتعلم كيف تموت، وهو ما قاله ميشيل دي مونتين كاتب المقالات الفرنسي في القرن السادس عشر ومبتكر صنف المقالة الأدبية مقتبسًا من شيشرون، الذي كان بدوره يفكر في سقراط الذي حُكِم عليه بعقوبة الإعدام. قال مونتين إنه طوّر عادة التفكير في الموت، لا في مخيلته فحسب، لكن الموت كان حاضرًا معه باستمرار، في الطعام الذي كان يتناوله وفي الشراب الذي كان يحتسيه. قد يبدو هذا مرضيًا لمن قضوا وقت عزلتهم في الطهي وفي الشرب أكثر من المعتاد ولكنه بالتأكيد ليس مرضياً. حيث يكمل مونتين فكرته بهذه الجملة المذهلة: “إن مَن تعلم كيف يموت فقد تخلص من الاستعباد”. هذه فكرة رائعة فالعبودية تتألف من القيد الذي يفرضه علينا الخوف من الموت، فالفزع من فنائنا هو ما يبقينا عبيدًا.
والحرية على النقيض من ذلك، تتألف من تقبل فنائنا وأن مصيرنا إلى الموت. ولا يتحقق الشعور الصادق بالحرية إلا حين ندرك أن اقتراب الموت المحتوم الذي لا مفر منه يومًا بعد يوم وساعةً تلو الأخرى هو ما يشكِّل حياتنا. من هذا المنظور، فإن الحياة الطيبة التي يعيشها المرء، أي الحياة الفلسفية، هي تلك الحياة التي ترحب باقتراب الموت. فالوجود متناهٍ، والموت يقيني، وهذا ربما ليس جديدًا؛ لكن على الحياة الفلسفية أن تبدأ من توكيد متحمسٍ بمحدوديتنا، كما قال توماس إليوت عن الكاتب المسرحي اليعقوبي جون ويبستر “يجب أن نرى الجمجمة تحت الجلد”.
لكننا لا زلنا خائفين، ولا زلنا قلقين، فلنحاول التفكير في ذلك من حيث التمييز بين الخوف والقلق. لقد عرفنا، على الأقل منذ زمن أرسطو، أن الخوف هو رد فعلنا على تهديدٍ حقيقي داخل العالم. لنتخيل أن لدي خوف غير طبيعي من الدببة، فلو ظهر دب ضخم عند باب شقتي سأشعر بالرعب (ومن المحتمل جدًا الدهشة) ولو أن هذا الدب تراجع فجأة إلى الشارع، فإن خوفي سيتلاشى.
وعلى النقيض من الخوف، فإن القلق لا يتعلّق بموضوع محدد. إذ لا دُب هناك. إنه حالة تنسحب فيها حقائق هذا العالم المُحدَّدة وتغيب عن الأنظار. حينئذٍ سيشعرنا كل شيء بالغموض والغرابة، إنه شعور بالوجود في العالم ككتلة واحدة، الشعور بكل شيء وعدم الشعور بشيءٍ واحد على وجه الخصوص. سأحاجج بالقول بأن ما نشعر به جميعًا الآن هو هذا القلق العميق.
إن طبيعة الوباء غير المألوفة هي أن الفيروس، على الرغم من كونه واقعيًا تمامًا، فإنه خفي عن العين المجردة، وينتشر في كل مكان. لقد شكِّل كوفيد 19 نفسه في بنية الواقع: إذ أنه مرض موجود في كل مكان وفي لا مكان، معروف على نحوٍ غير دقيق ومع ذلك غير قابل للعلاج. ينتاب أغلبنا الشعور بأننا نسبح في بحرٍ من الفيروسات لعدة أسابيع الآن، وربما لعدة أشهر. لكن ربما يكمن تحت رجفة الخوف قلقًا أعمق، وهو قلق فنائنا وانقياد وجودنا نحو الموت، وربما هذا ما قد نحاول التمسك به كشرط لحُريتنا.
أعتقد، إنه لأمر بالغ الأهمية أن نقبل القلق ونؤكد عليه، وألا نختبئ بعيدًا عنه، أو نلوذ بالفرار أو نتهرب منه، أو أن نفسره من خلال علاقته بموضوع أو سبب ما. فهذا النوع من القلق ليس اضطرابًا يحتاج المعالجة الطبية، ناهيك عن العلاج لتخديره. إنه قلق يحتاج أن نعترف به، ونعيد صياغته وشحذه ليكون العربة التي تقودنا نحو الحرية. لا أزعم أن هذا الأمر سهل لكن يمكننا أن نحاول الانتقال من المزاج العادي للقلق بوصفه أمرًا يصيبنا بالشلل، إلى أمرٍ معزِّز يمكّننا من امتلاك الشجاعة.
يميل معظمنا في أغلب الوقت للتكيّف مع ما يسير وكأنه حياة أبدية زائفة. نتخيل أن الحياة ستستمر وأن الموت لا يحدث إلا للآخرين. يُختزَل الموت وفق ما يسميه هايدغر بالإزعاج الاجتماعي أو عدم اللباقة الفجة. يتألف عزاء الفلسفة في هذه الحالة من الانسحاب من عادات إنكار الموت في الحياة الطبيعية ومواجهة قلق الموقف بشجاعة ثاقبة النظر وواقعية متزنة. إنها مسألة تفعيل هذه الواقعة بحماس كأساس لاستجابة مشتركة، لأن الفناء هنا علائقي. لا ينحسر الأمر في موتي فقط وإنما موت الآخرين أيضًا، أولئك الذين نكترث لأمرهم، البعيدين والقريبين، الأصدقاء والغرباء.
وجدت نفسي قبل أسابيع قليلة أتحدث بكل اطمئنان عن أدب الوباء: ” الديكاميرون” لبوكاتشيو و”يوميات عام الطاعون” لديفو و” الطاعون” لكامو. كنت أعتقد أنني ذكيًا، حتى أدركت أن الكثير من الأشخاص الآخرين كانوا يقولون الأشياء نفسها تمامًا. وفي الحقيقة، فإن المفكر الذي جذبني بعمق هو عالم الرياضيات الفرنسي واللاهوتي اللامع بليز باسكال من القرن السابع عشر، وبالتحديد كتابه “خواطر”.
كتب باسكال أن عدم القدرة على الجلوس بهدوء على انفراد داخل غرفةٍ ما هو مصدر كل مشاكل البشرية؛ إذ كتب عن التقلب، والملل، والقلق كصفات تحدد الوضع الإنساني؛ وكذلك قوة العادات التي تشبه الآلات، والضوضاء المزعجة للفخر البشري. ولكن الأهم من كل ذلك هي فكرة باسكال التي شدتني: أن الإنسان مجرد هباءة، وأنه “الأضعف في الطبيعة” قد يُمحى ببخار، أو بقطرة منقولة في الهواء.
يا لشقاء البشر، هكذا يذكرنا باسكال. فنحن مخلوقات ضعيفة، هشة، سريعة التأثر، اتكاليّة. ولكن- وهنا المنعطف الحاسم – تكمن عظمتنا في شقائنا؛ فالكون قادر على سحقنا، وبإمكان فيروس صغير تدميرنا، لكن لا يدرك الكون أيًا من ذلك، والفيروس هو الآخر لا يكترث؛ أما نحن فعلى النقيض نعرف أننا فانون، وأن كرامتنا تتكوَّن من هذه الفكرة التي قالها باسكال: ” فلنكافح، فلنفكرٍ بشكل جيد، هذا هو مبدأ الأخلاق”. وأرى أن هذا التشديد على هشاشة البشر وضعفهم وسرعة تأثرهم واعتماديتهم وشقائهم، هو نقيض الكآبة أو أي تشاؤم أحمق. إن هذا هو مفتاح عظمتنا: فضعفنا هو قوتنا.
الكاتب: سايمون كريتشلي هو أستاذ الفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية ومؤلف العديد من الكتب، التي تتضمن أحدثها “المأساة والإغريق ونحن” وهو وسيط هذه السلسلة.
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
To Philosophize Is to Learn How to Die
Simon Critchley
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”