تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
أنجبت زوجي طفلة، وأنجبت الطفلة فكرة جديدة.
لطالما ناسبتني الفلسفة أكثر من الأبوة. كنت أتخيل حياتي سلسلة من التأملات والقراءات والرحلات الهادئة. لم أفكر كثيرًا في الأطفال، رغم أنني رأيت أنه سيكون لي طفل في وقت ما. لم تكن الأبوة أمرًا أربطه بحياة كرستُها للفلسفة.
لكن، تغير كل ذلك عندما وُلدت ابنتي في عام 2014، بعد ثلاثة أشهر من مناقشتي رسالة الدكتوراة. في فترة الصيف، أصبحتُ أبًا وفيلسوفًا. اندمج الاثنان في داخلي وخلقا هوية جديدة عليّ تمامًا. فقبل ولادتها، كان اهتمامي في المقام الأول منصبًّا على الفلسفة السياسية، فقد انجذبت إلى مسائل العدالة الاجتماعية والسياسية، والليبرالية، والشرعية. بعد ذلك، وعندما كانت طفلتي مستقرة في رحم أمها، بدأت مجموعة جديدة من الاهتمامات والأفكار تنمو في ذهني. عندئذ، أنجبت زوجي طفلة، وأنجبت الطفلةُ فكرةً جديدة.
تتيح الأبوة -التي كنت بصدد تعلُّمها- العديد من المسارات للتأمل. يسأل الفلاسفة عادةً مجموعة كاملة من الأسئلة حول الأبوة: هل هناك مبرر أخلاقي لإنجاب الأطفال؟ ما هي الأبعاد الأخلاقية لتربية الطفل؟ الآن بعد أن وجدت نفسي أبًا وفيلسوفًا، بدأت أطرح أسئلة مماثلة: كيف أربي طفلتي؟ كيف يمكنني أن أكون أبًا صالحًا؟
كما يعلم معظم آباء الأطفال حديثي الولادة، فإن الأشهر الأولى من الأبوة هي مزيج من الغبطة والخوف والإحباط، وفوق ذلك كله الأرق. في تلك الساعات الأولى من الأشهر الأولى من الأبوة، تعثّر اهتمامي الفلسفي في سؤال واحد محدَّد: ماذا ستكون ابنتي عندما تكبر؟ ماذا ستكون هويتها؟ عندما لاحظت ملامحها الجسدية الصغيرة، ظللت أفكر في المستقبل المحتمَل الذي سيواجهها. هل ستكون قادرة على أن تصبح من تريد أن تكون؟
هناك خلفية من واقع السيرة الذاتية تحكم هذا السؤال. لقد وُلدت في البوسنة والهرسك لعائلة مسلمة علمانية، وعشت في بلادي معظم السنوات الثلاثين الأولى من حياتي. وعندما بلغت سن الرشد وقت وقوع نزاع عرقي وحشي في أوائل تسعينيات القرن العشرين، انزلقت في هوية ثقافية قيل لي إنها تخصني. ولقد خلَّف اضطهادي لأني مسلم في داخلي مقاومة شخصية وثقافية. وبناءً عليه، تبنيت هذه الهوية واحتفيت بها في الوقت الذي لم يحتفِ بها أحد. وشيئًا فشيئًا أصبحت مسلمًا. حملت الهدف على عاتقي واعتنقته أنا. لكني تنبهت وشيكًا إلى أن تبني إحدى الهويات باتخاذها شكلًا من أشكال المقاومة يمكن أن يُجاوِز بالمرء أبعدَ الحدود. فحال تلك الهوية شبيه بأحد الألبسة الضيفة المصنوعة من ألياف البوليستر؛ إذ سرعان ما أَحدَثت بالجلد حكَّة، وعليه تُقتُ إلى ارتداء لباسٍ يُريحني أكثر.
لقد أسهمت الفلسفة إسهامًا قيِّمًا في عملية تشكيل ذاتي. فلقد ساعدتني في التعرف على هويتي وقبولها، ومنحتني كذلك الأدوات التي أحتاجها لتغيير اللباس المثير للحكَّة بلباس أكثر ملاءمة. ولقد كانت حنة آرنت من أوائل المفكرين المُلهِمين المُدلين بدلوهم في هذه العملية. فعندما اطلعتُ أول مرة على تصوُّرها للحرية، تعرَّفت في الحال على نفسي في ضوء أفكارها. فهي [آرنت] ترى أن الحرية تعني القدرة على البدء من جديد. إنها تتجسد في قدرة الإنسان على العمل، وهي ميزة نالها إنسان العصر الحديث. يكمن أصل الحرية الأصيل –في نظرها- في مفهوم “الولادة”؛ في حقيقة أن كل ولادة جديدة تمثل إبداعًا جديدًا في العالم. والحق أن الأطفال [من حيث ولادتهم] حَدَثٌ جديد بالكلِّية، ومن ثم تجسيدٌ حقيقي للحرية ودليل إرشادي لبناء عالمنا الاجتماعي.
إن المثال التاريخي المفضَّل لدى آرنت عن الولادة هو الثورة الأمريكية؛ فقد كانت فعلًا راديكاليًّا لجلب الحرية إلى العالم. أدركت أن شوقي إلى العالم الجديد كان شكلًا من أشكال الشوق إلى ذاتٍ جديدة. فبمجرد الاستقرار في مَوِطن الإبداع الدائم، مدينة نيويورك، كنت أمام بداية أخرى: أمام بدايتي الطفولية [الجديدة].
لطالما فكرت في حنة آرنت خلال ليالي السهر، حين كانت ابنتي تتأقلم مع الحياة خارج الرحم. وأذكر أني سألت نفسي: إذا كانت ابنتي إبداعًا جذريًّا في هذا العالم، فكيف يمكنني مساعدتها في الحفاظ على حالة الإبداع وألا يخمد تفردها؟ كيف يمكنني تربية هذا الكائن الصغير الجديد لتكونَ نفسها، لا أي شخص آخر؟ ما الذي يمكنني فعله لتربية ابنتي على أنها كائن متفرِّد، وليست مجرد امتداد مُطابِق لي، أو لخلفيتي، أو للعوارض الثقافية التي عنَّت في الزمن الذي وُلدت فيه والمكان؟
كانت لياليّ الطوال ثرية من جوانب عدة. أولًا، أدركت أن آرنت كانت على حق؛ فالأطفال شيء جديد جذريًّا ويجب معاملتهم على هذا النحو. ورغم أنه من الصعب أحيانًا فهم هذا الأمر -خاصة بالنسبة للآباء الجدد الذين يسعدون بالتعرُّف على ملامح شبه المطبوعة على المولود الجديد “انظري يا عزيزتي، إن أنفها يشبه أنفي”- فإن هذا الفهم ضروري من الناحية الأخلاقية والعملية. فبغض النظر عن الجينات التي ورثتها من والدتها ومني، فإن ابنتي هي إنسانة فريدة من نوعها، ولا يمكنني توقُّع –ناهيك بتشكيل- هيئة ذاتها المستقبلية. فهل ستؤكد هويتها توقعاتي؟ ليس لي الحق في توقع ذلك.
لقد عايشتُ العديد من خيبات أمل الآباء التي يعانونها عندما يكبر أطفالهم على هيئةٍ لا يرتضونها لهم؛ إذ يستاء الآباء عند ملاحظتهم لميول مثلية عند أبنائهم، والأمهات يُصَبْن بالأسى عندما ترفض بناتهن دين الآباء. تعد علاجات تحويل الجنس والعلاقات المنفصلة بين الأطفال المتحولين جنسياً وأولياء أمورهم مثالاً جيداً على توقعات الوالدين التي خرجت عن المسار. كنت أعرف أنني أريد أن أكون أفضل من ذلك. ولكن كيف؟
لكي يكبر الأطفال كبشر حقيقيين وليسوا كنتاج لتوقعات آبائهم، يجب أن يتعلموا أن يفهموا أن الهويات مبنية على أسباب، بعبارة أخرى، على مبررات معقولة. إن مفهوم الهوية ذاته مشتق من مفهوم الأسباب هذا.
إذا كانت الهوية الشخصية نوعًا معينًا من الإيمان بالنفس، فهي دائمًا نتاج للعلاقة الكائنة بين وعي الشخص وبين مجموعة من الحقائق. وفقًا لهذا، يمكن أن تكون هناك أنواع مختلفة من الأسباب لتحديد الهوية، اعتمادًا على طبيعة بعض الحقائق المختلفة. ويعتمد بعضها على الطريقة التي نتشكَّل بها جسديًّا. إذا كان الطفل يشعر براحة أكبر تحت تصنيف جنسي يُعاكِس (أو يقع في تصنيف بين بين أو يُجاوِز) نوعه البيولوجي عند الولادة، فهذا سبب يجعل هويته تتحدد بهذه الطريقة. وتستند الأسباب الأخرى إلى الحقائق التاريخية والبيئية والتجريبية.
إذا تعلم الطفل نهجًا آخر للحياة، في المدرسة أو من خلال التنشئة الاجتماعية، وقرر تبنيه، فيجب على الوالدين احترام رغبة الطفل الذي قد يكون لديه سبب وجيه للابتعاد عن ثقافة أسرته. إن منع الأطفال من التصرف بناءً على الأسباب التي يعرفونها، دون النظر في مدى صلاحيتها، هو سلوك يفسد قيمة العلاقة القائمة بين الآباء والأطفال ومعناها.
ثانيًا، أدركت أن الأبوة تمرين مثالي لمعرفة الذات؛ إذ تُتاح للمرء فرصة اكتشاف ذاته. فلقد ساعدتني أبوتي على فهم وجهة نظري الفلسفية. كما أعانني التفكير في الأسباب التي يمكن أن تدعم الذات المستقبلية لابنتي على فهم الأسباب الكامنة وراء هويتي الفلسفية والشخصية. بعبارة أكثر تحديدًا، نظرًا لأني مهاجر يعيش في الولايات المتحدة، فإني أمثل جنسيتين وثقافتين.
وهذا التجسيد مسؤول إلى حد كبير عن أنواع القضايا الفلسفية التي تثير اهتمامي. ورغم أني أعيش في الولايات المتحدة، فإني أقف على الحد الفاصل بين الثقافتين. لا أتوقف أبدًا عن الانتماء لهذين النظامين المرجعيين كليهما: البوسني والأمريكي. وهذه الثنائية هي ما يمثل حالتي الأساسية في الوجود. لذلك أظل على دراية مستمرة بأساليب الثقافة. وبما أني دائم الملاحظة لهوامشها، فإني أواصل طرح الأسئلة حول متنها.
حتى فكرتي عن حق الطفل في الهوية الأصيلة، هي الأخرى تجسد ازدواجية التقاليد الفلسفية التي تدعمها. على سبيل المثال، كانت الأصالة تقليديًّا دعوة حاشدة للرومانسيين الذين اعتقدوا، مثل روسو، أن تقدُّم عصر التنوير يقوّض أصالة الأفراد. لقد وُلدنا جميعًا نماذج أصلية ولكننا نموت ونحن نسخ مكرَّرة. وتتشكل الفترة بين ولادتنا وموتنا من خلال الحضارة التي تصوغنا بطرق غالبًا ما تتعارض مع مكوِّنات ذواتنا التي وهبتنا إياها الطبيعة. ولطالما راقتني رؤى روسو ومونتسكيو ومارشال بيرمان وغيرهم من المفكرين الذين رغبوا في تعزيز قضية الوجود الأصيل.
ومع ذلك، فإن الإصرار على أن الشخص يصبح أصيلًا من خلال الأسباب وتقييمها يعكس الأساليب والأفكار التي توجد عادة في تقاليد مفكري عصر التنوير. فعلى عكس الرومانسيين، أنا أعتقد أن استخدام العقل والترويج له يساعدنا على أن نكون أنفسنا حقًّا. هذا لأن الاغتراب الذاتي إنما هو نتاج عقلٍ مجافٍ للعقلانية. فأنا أرى –كما يرى جون لوك- أن الهوية نتاجٌ للوعي والعقل. وبناءً عليه، لا يمكننا امتلاك الأصالة إن نحن لم نتحلَ بالعقلانية.
ليالٍ بلا نوم مع مولود جديد ورائي. تبلغ ابنتي الآن من العمر 4 سنوات، ولها هوية خاصة بها وإرادة قوية لجعل الأمور تسير في طريقها. ومع ذلك، فإن الخوف من المستقبل المجهول يمكن أن يسيطر عليّ في منتصف الليل ويجعلني أتساءل عن كل شيء، مما يعكر صفو احتمالات أن أهنأ بالراحة الهادئة. لا أكاد أخلص إلى أيٍّ من أغاني المناغاة؛ فكل ما يمكنني فعله هو التحديق في الفراغ، دون أمل في أن يبادلني هو التحديق.
لكنني عندما أراها تنام بهدوء، أدرك أنه لا ينبغي الخوف من الفراغ. إنه ليس دوامة من انعدام المعنى الذي سيقودنا إلى الجنون. إن الفراغ بوابة ننفُذ منها إلى أنفسنا. وبناءً عليه، من حقنا أن نشغله بما نريد؛ بالأحلام أو المخاوف أو الطموحات. إنه فرصتنا الوحيدة لنصبح ما نحن عليه حقًّا؛ أن نصبح آباءً لأنفسنا.
الكاتب: أستاذ مساعد في جامعة مدينة نيويورك، في الكلية المجتمعية لمنطقة مانهاتن.
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
Becoming Parents to Ourselves
Eldar Sarajlic
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”