مقدمة:
إن المدقق في تأريخ المعتقدات الدينية وما صار يسمى فيما بعد فلسفة الدين يجد نزعةً تنويرية نحو إفراغ العالم من الفعل الطقسي كالذي نجده قديمًا من عدّ الطقوس علامةً على التدين الشعبي، وفي عصر التنوير نجد سبينوزا يقدم مثالًا صارخًا في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) حيث يقيم علاقة ضرورية بين الطقس والتديّن العامي البسيط، وكل ما نجده لدى الفلاسفة السوكولائين وفلاسفة الانوار ينص على أن الفيلسوف لا يفعل إنما هو تأملٌ محض، وقد أرتبطت الطقوس بالحقل الديني كما نجد في الديانات الكبرى حيث لا يكفي أن تؤمن فحسب بل لابد وأن يرتبط هذا الإيمان بفعلٍ طقسي ما، ولو نظرت إلى كل الفرق والمذاهب لن تجد بينهم أحدًا دون طقسٍ ما، فالصوفي يُكثر من التسبيح والرقص والغناء، والممارسة الجسدية للعبادة أساسية فضلا عن طقوس التحضير للعبادة كالطهارة والتأنق وغير ذلك، هناك طقوس لدى كل الأديان شرقًا وغربًا جنوبًا وشمالًا، ما بين بخورٍ وتراتيل وتسبيح ورقصٍ وصلاة وتضحية وغير ذلك الكثير. في أريد في هذه المقالة أن أدافع عن فعل الطقس أو الطقسية، وذلك من زاويتين الأولى معرفية أو لنقل إبستمولوجية بينما الثانية جمالية، فحين نفرغ من هذه المقالة نُثبت بأن الحقيقة ذاتها لا تنفك عن فعل الطقس، ومن ثم الحقيقة والجمال واحد، مما يعني أن الطقوس فعلٌ جمالي يكشف لنا وجه الحقيقة، ولكن ماذا نعني بالطقس؟ ولكن قبل أن نبدأ في تحديد ماهية الطقس أجد من الضروري ذكر مناسبة هذه المقالة حيث كنتُ أستمع لمحاضرة حول مدارس علم النفس الحديثة والمعاصرة ولفتني أن طُرقهم في العلاج تعتمد على إرث فلسفي شرقي وديني، ولكن ما يفعلونه يُعد في نظري خطيئةً انحدرت من فلسفات الأنوار وهو إفراغ العالم من الطقوس أي عظامٍ بلا جسد.
دلالة الطقس:
لا يمكن الحديث عن الطقس دون الحديث عن ماهية الحقيقة، الحقيقة بوصفها موضوعًا في الخارج مثاليةً كانت أم واقعية هي أكبر فضيحةٍ في تأريخ الفلسفة قديمًا والفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، وصعود العلم الحديث في القرن السادس عشر ساهم في ترسيخ هذا المفهوم للحقيقة أي الحقيقة الموضوعية، ما المعضلة في الحقيقة بوصفها تطابق مع ما هو في الخارج؟ عندما نفصل الحقيقة عن الإنسان بوصفه كائنًا طقسيًا بإمتياز يكون ليس من المهم أن تصبح الحقيقة مؤلمةً أو سعيدة فالحقيقة هي الحقيقة وكل ما عليك هو تقبلها، وخير مثالٍ على الوقوع في فخ هذه الحقيقة الميتافيزيقية هو نيتشه حيث أعتبر بأن الحقيقة والواقع مؤلم ومن ثم لا يهم ما على الإنسان فعله أي على الإنسان أن يتكيف مع الحقيقة لا الحقيقة تتكيف مع الإنسان! وفي نظري الحقيقة هي من تتكيف مع الإنسان. حين أعتبر نيتشه الحقيقة مطابقة للواقع أرهق ذاته ومن جاء بعده غير أن في ذلك ادعاء ثقيل يكشف ماهية الواقع المطلقة، لنقول بطريقة أخرى هنا ندافع عن حقيقة تكيفية لا موضوعية بمعنى الحقيقة هي ما يجعل الإنسان أكثر سعادة هو ومن في الكون بأسره ليس اعتمادًا على ماهية الواقع بل اعتمادًا على غائية الإنسان من العيش، نعود فنسأل: ما الطقس ؟
بلا شك أن كل طقس يتطلب فعلًا جسديًا، لذلك في البدء يكون الجسد، إلا أننا إذا أردنا تحليل بنية الطقس وتفكيكها نقسمها إلى ثلاث عناصر متشابكة ومترابطة فكل طقسٍ هو جسد- طبيعة – فكرة ولا يمكن فصل هذه العناصر عن بعضها، إلا أن ما حدث من خلال ما يقدمه لنا تأريخ الأفكار شيئًا من الفصل الحاد بين هذه العناصر الثلاثة، حتى وصلنا إلى نقدٍ جذري للجسد والطبيعة والإبقاء على الفكر الكسول الذي لا يتأمل إلا في ذاته. لو نظرت نظرةً سريعة إلى تأريخ الفلسفة منذ أفلاطون تحديدًا أي بداية الخروج عن السياق الشرقي نلاحظ أن هذا الفيلسوف لم يكن حاسمًا فيما يخص الفصل بين ما هو نظري وما هو عملي فمثلًا هو يدعوا للحب والموسيقى والوجد والعرفان والأهم من ذلك كله أن الفلسفة عنده لازالت إتيقية بمعنى أنها أسلوب حياة للعيش السعيد فكل هذا النسق يصب في سؤال: كيف نعيش؟ أو كيف ينبغي أن نعيش؟ الإجابة على هذا السؤال أخذت تدريجيًا منحنى أكثر تجريدًا من خلال احتقار الجسد والطبيعة، حتى وصلنا إلى تلك التعاريف التي تعج بها كتب الفلسفات القروسطية شرقًا وغربًا حيث تشدد على أن الفلسفة تأمل نظري ومحاكاة للإله الذي هو أيضًا لا يتأمل إلا ذاته بقدر الطاقة البشرية، هذا الفيلسوف الكسول فصل ذاته عن العالم وعن الطبيعة وتنازل عن الجسد، من ذلك الطقوس فما نجده منذ عصر التنوير تحديدًا نقدًا شرسًا للطقوس في الأديان وهو أمر قديم حتى لدى بعض الفلاسفة في الحضارتي الشرقية والغربية، كالذي يقول يكفي أن تحج عقليًا! ما أريد قوله ببساطة أن الطقس كفعلٍ جسدي لا ينفصل عن “العقل” إذ أن المعرفة هي اشتباك بين الاثنين، فالفيلسوف الكسول هو فيلسوفٌ أرستقراطي برجوازي نخبوي نبيل أكثر من اللازم، بينما الفيلسوف الفاعل هو من يشتبك مع العالم من خلال الطقس والسلوك الرمزي، على خلاف هذا كله نجد في الشرق لدى الهند واليابان وغيرهم صلةً وثيقة بين النظري والعملي وهو ما لم يدركه فطاحلة الفكر غربًا وشرقًا حتى صاروا يقيمون ويحكمون على هذا التراث بأنه لا يمت للفلسفة بصلة وكم هي تهمة فجة! إن هؤلاء يسقطون تصورٌ ما على حضاراتٍ أخرى ويقومون بمحاكمتهم بطريقة مضحكة جدًا نجد مثل جورج سارتون مؤرخ العلم يمايز بين ظهور الرياضيات في الشرق والغرب من خلال مقولتي نظري/عملي التي رسخها أرسطو بعنف، فيقول هذه رياضيات بدائية لأنها عملية وتابعه في ذلك راسل، بينما رياضيات أقليدس وجماعته نظرية محضة، وحسب قراءتي لماهية الإنسان أجد ذلك ذمًا لا مدحًا، وهذا الأمر ليس حكرًا على الغرب بل كثير من حضارات الشرق تعتمد رؤيتها على هذه المنطلقات، وهذا محزنٌ جدًا لأنك حين تطلع على إرث حضارات أخرى تكتشف لعنة الحضارات الفاوستية كما يسميها اشبلنغر هي حضارات لديها هاجس هيمنة والمعرفة سلطة وقوة، تأمل مثلًا في فنون العمارة القوطية والباروكية والعمارة اليابانية نجد الأولى فيها عنف ضد العالم كبيرة الحجم، طويلة الأعمدة، حادة الزوايا، مليئة بالرسوم والأيقونات الخ على ضد العمار اليابانية قبل الحداثة حيث تقترب الأشياء من الارض وبسيطة جدًا، على كلًا نقول أن هناك فلسفات قوية وحقة رغم أنف كل مركزية عرقية، وهذه الفلسفات تعي جيدًا بأن ما هو نظري لا يكفي لخلاص الإنسان من معاناته الدنيوية، فكونها لم تختار الميتافيزيقا بصيغتها الأرسطية والإبراهيمية لا يعني أبدا أنها ليست فلسفات، نحتاج إلى ثورة قبلية ضد كل الأفكار المسبقة بكثرة الاطلاع ولو شئت قُم وأحمل وعاء تسول حتى تحطم كل ما فيك.
نبذة شرقية:
لدى الهند والصين واليابان وغيرهم فلسفاتٍ عدة للأسف لم تنال حظها من البحث عالميًا، بل بعضها يُنظر له بوصفه مجرد رياضة مثل الكونغ فو والتايكوندو والكاراتيه والجودو الخ إن هذه الفلسفات تقوم على غائية نبيلة وهي: على الإنسان أن يضبط ذاته وانفعالاته. ألم يخبرنا أفلاطون وأرسطو والرواقية والأبيقورية والكلبية بأن سيطرة العقل على الانفعالات هو خلاص الإنسان! إذن كلاهم يتفق على النتيجة، ولكن هنا نرى الابداع الشرقي حيث سلكوًا طريقًا مختلفًا عن بقية الحضارات مع أبيقور مثلًا حتى تسيطر على ذاتك يكفي وضع حجج منطقية وقولها للدماغ! وقطعًا هذه وسيلة كسولة، بينما في هذه الرياضات كما في الساموراي لا يمكن السيطرة على الذات دون إقحام الطقوس والفعل الجسدي، المحارب هو محاربٌ لذاته أولًا ثم للأخرين. داخل هذه الرياضات هناك تفاصيل دقيقة لا تُحترم في بعض السياقات، فمثلًا لابد من تحية معينة عند بداية أي قتال، ثم هناك في التايكوندو مثلًا شيء يطلق عليه “بومسيه” وفي الكاراتيه”كاتا” وهي مجموعة من الحركات الوهمية يقوم بها المقاتل في الاتجاهات الأربعة، هو لا يقاتل أحد هو فقط يتحرك وينسجم مع جسده وأنفاسه، هذه الأفعال للأسف تُفرغ من شحنتها من خلال جعلها فقط للبطولات ونيل الأوسمة إنهم يجلسون على ركبهم يحفظونها كما لو كانت قصيدة أو السلم المرونق! لا هي ليست كذلك هي دمج قوي بين الفكر والجسد للتحكم فعليًا بالانفعالات.
على الجانب الأخر في الهند نجد هذا الأمر حاضرًا بقوة في فلسفاتهم والتي تسمى خطأً تحت مركزية الاديان الإبراهيمية أديان وهذه المفردة لا يوجد لها مقابل في السنكريتية، إنه يطلقون عليها دارما أي طريقة عيش وأسلوب حياة، فكيف بمن تأثر بميتافزيقا الوجود الأرسطي أن يفهم الدارما؟ هو قطعًا سيقول هذه شعوذات ودجل لأنه واقع في روحانية كسولة تهمش الجسد وترى في العقل والروح أهم ما في الحياة، والمضحك تجد هذا الموقف عند المادي القح وعند الثيولوجي وغيرهم، نعود للهند أقول نجد لديهم مثلًا اليوغا والتي هي الأخرى بدأت تدخل بوصفها نمط حياة لطبقةٍ معينة إلا أن الجميل لا تزال تحتفظ ببعض طقوسها، اليوغا تعني الوحدة والتوحد فكيف بجسدٍ يتحرك أن يحقق الوحدة؟ لأن هؤلاء القوم أدركوا أمرًا عميقًا وهو أن النظري لا ينفك عن العملي بل هذه القسمة غير حاضرة لديهم، عليك موازنة جسدك مع دماغك، عليك ضبط أنفاسك مع حركة أفكارك، على الجسد أن يتوازن حتى يتوازن “العقل” علينا ضبط الجسد حتى نضبط الانفعالات الخ لذلك تجد الجسد لدى الشرق حاضرٌ بقوة بينما في السياق الغربي لم يظهر إلا مع فلسفات ما بعد الحداثة! لنأخذ مثالًا أخر الشاكرا يوغا حيث تصف بأن أول شاكرا هي شاكرا الجذر أو الجذع وهي الأرض هي الجسد وتنص صراحة على أن الجذور لابد وأن تبنى وتنغرس بقوة حتى يمكن بلوغ شاكرا التاج وهي أعلى القمة فبدون الفعل لا يكون النظر، ما علاقة كل ذلك بالطقوس؟ الجسد طقس حين يقوم بكل تلك الرقصات، والطقس مهم جدًا للدخول مباشرةً إلى أعماق أعماق الإنسان والحياة، علم النفس حديثًا كالعلاج بالتقبل والجدلي واليقظة أخذوا هذه المفاهيم وأفرغوها من شحنتها الطقسية لماذا؟ امتداد للكسل ولاحتقار الجسد وكل ما يمثله، حتى أصل لليقظة أفضل عيشًا داخل بيتٍ ريفي فوق جبل تحيطه الأشجار وأشم رائحة البخور يوميًا، وطابع المشاركة بين الأخوة البشرية على أن أدخل عيادة كئيبة يقنعني باليقظة والكتابة على الورق.
دفاعًا عن المادية:
كنتُ في حوار بين فريقين الأول يمثل المادية والثاني الروحانية، وعندما يقوم المنسق بالتصويت على الأسماء كان الكل يتحرج من اتباع المادية فصرت تسمع جُمل من هذا القبيل ” لا أعوذ بالله أنا روحاني” أو ” تخيل مادي” وكان بعضهم يستحي من ماديته، لا أُخفيكم أرتفع الدم في داخلي وكادت تنفجر أوداجي فما هذا التبجح في خيانة المادة؟ المادة هي من سمحت لك بالوقوف أمامنا وهي التي أعطتك حقك في الوجود بدايةً، هي من تُعطيك لذة المتع الحسية والان تتعامل معها وكأنها عار!
علي أن أقول أمرًا أخر في غاية الأهمية وبطريقةٍ شديدة الوضوح: الروحانيات ليست حكرًا على أي ايديولوجيا. عندما يمارس المادي سلوكيات وأفعال تُعرف عادةً بأنها روحانية فلا يعني ذلك أنه خرج عن ماديته، بل على الضد تمامًا هو يدرك أهمية الطقس والجسد والدماغ من ثم هو يمارس التبخير والامتنان وخدمة الأخر سواءً كان شجرة أم إنسان، بل هو أكثر تخلقًا من ذلك الذي يخدمني لغاياته الخاصة، إنه يخدمني للحياة ذاتها فحسب دون القفز فوق ظهري من أجل خلوده الروحي، المادي يمارس الصلاة واليوغا والدعاء والامتنان لانه مادي وليس لأنه روحاني وهذا حقه، لكن في العمق علينا التخلي عن هذه الثنائية إلا أن هذا موضوع يطول شرحه.
خاتمة:
لقد تأثر فلاسفة كُثر بالأطروحة القائلة بأن الطقوس سلوكٌ للعوام والفيلسوف هو من يتأمل ذاته فحسب، إلا أن الشرق قديمًا كان حريصًا على دمج الجسد في عملية ضبط الذات ومعرفتها، وهذا ما نجده في الأديان الإبراهيمية كالصلاة والعبادة والتسبيح وغيره، إذن دفاعًا عن حق الإنسان بالطقوس نقول هي ليست حكرًا على دين ما ولا على مثالية أو مادية، ودفاعًا عن حقنا بأن نكون كائنات طقسية نعيد فتح ملف العلاقة القوية بين الجسد والدماغ أو العقل من أجل خلاص الإنسان من معاناته، بقي أن أقول إن فعل الطقوس عملية جمالية، فحين تتجهز بالطهارة أو تلوين الذات والتبخير وحين تنحني احترامًا وامتنانا، وحين ترقص على مدار اليوم وتعزف الأوتار وتصاب بنشوة عجيبة تحدث عنها نيتشه وبلغها كما لم يبلغها أحد من قبله أليس ذلك ظاهرةً جمالية؟ إذن لا نُفرغ العالم من الطقوس لا نريد هياكل عظمية دون لحمٍ ودم، نحن في عصر جدلية الزومبي ودراكولا!