د. معجب الزهراني
جاء الكتاب الأول في مشروع صحيفة اللوموند الفرنسية عن الكتب الفلسفية الأساسية عن إفلاطون، وضم ثلاثة نصوص شهيرة هي ” الوليمة” و ” فيدر” و” مرافعة سقراط “، وتتمثل أهميتها في جانبين رئيسين. الأول منهما يتصل بنوع الخطاب الذي يتخذ من الشكل الأدبي – المسرحي ذريعة لطرح قضايا الفكر المتنوعة للتأمل والجدل دون التصريح بالرأي مباشرة، فضلا عن فرضه على المتلقي . والوجه الثاني يتمثل في محتوى هذا الخطاب ذاته، حيث سمح الحوار بين مجموعة من الشخوص أو الأصوات لهذا المفكر الرائد بطرح قضايا الحقيقة والفضيلة والعدالة والحب والجمال .. من زوايا متنوعة توسع مجال التفكر وتحد من سطوة منطق الحسم الذي هو آفة كل فكر وكل علم وإن جهل الجاهلون وأنكروا. ولو استعملت مصطلحات أثيرة لدي لقلت أن أهمية هذه الكتابة الفلسفية تكمن وتتجلى في هذه ” الحوارية ” التي هي سمة محايثة للخطاب شكلا ودلالة، كما تمثل غاية من غاياته بما إن تنمية الحوار حول الظواهر والقضايا هدف أبعد وأعلى لكل مفكر متفلسف محترف.
وهناك مفارقة طريفة تخص افلاطون وتستحق تحديدا وتعليقا. فهذا ” المفكر المؤسس ” لم يعرف بفلسفة تخصه، وكل ما يقال عن ” الأفلاطونية ” – وربما الأفلاطونيات – القديمة والمحدثة هو من قبيل التأويلات اللاحقة لنصوص كان يطيب لكاتبها أو ” مؤلفها ” أن ينسبها إلى أقنعة مسرحية كثيرة ، أهمها أستاذه سقراط ، ولا يصرح برأيه الشخصي المباشر إلا في النادر من الأعمال والعبارات. وسيرته تلقي الضوء على الأمر من وجوه. فالسيد ” أرسطوكليس”، وذا هو اسمه الحقيقي، جاء من عائلة أرستقراطية مقتدرة ، وكان قوي البنية ماهرا في المصارعة، ولذا لقب ” أفلاطون “. ولولا محبته لأستاذه سقراط وفجيعته بموته المأساوي لما انحرف عن مسار الحياة الهنية والرياضة الشعبية المعتبرة في عصره إلى مجال الفلسفة الخطرة ليغير طريقه وطريقته بشكل جذري وبهذا أستحق أن يعد أحد أهم آبائها المؤسسين لها خطابا ومؤسسة !. فالأستاذ كانت له طريقة فلسفية تخصه، ولأنه جرب أن ينشرها عبر تعليمه الناس مهارات الجدل العقلاني المنطقي بطريقة مباشرة في الأماكن العامة فقد دفع الثمن غاليا. لقد أتهم بإفساد عقول الشباب، وثار عليه كثيرون من أهل أثينا، وبتحريض ماكر من رجال السلطة الذين عادة ما يطيب لهم تقليد الآله التي تحكم في كل شيء وكل أحد دون سؤال أو مساءلة . وحين تمت محاكمته رسميا وطلب منه التراجع عن آرائه وممارساته فضل أن يتجرع السم ليموت دفاعا عن تلك “الحكمة ” التي تعلم الإنسان إدراك الحقائق والفضائل، وتغريه بالتمسك بها والدفاع عنها ضد خطاب الجهل الذي عادة ما يسود بين عامة الناس فيسهل تسييرهم.. ولو إلى الهاوية. ولا بد أن هذه الحادثة المأساوية الشهيرة التي هزت أثينا أثرت في تلميذه الشاب أبلغ الأثر ولذا قرر أن يواصل المهمة، لكن بأسلوب آخرأكثر تطورا وحذرا وتعقلا. فلم يكن هناك فضاء محدد للتعلم، ولم يرد تكرار تجبربة أستاذه الفاجعة ولذا بادر إلى إنشاء ” أكاديمية ” للفتيان والشباب لا يلتحق بها غير من يحب الفلسفة ويحرص على تعلمها بإرادته واختياره.
ونظرا لعدم وجود متون مكتوبة تعزز عملية التعلم وتنظمها فقد بدأ الخطة التأسيسية الثانية ، وأعني تأليف تلك النصوص التي تجمع بين التخييل الأدبي والتنظير الفكري كما قلنا من قبل. ولا ندري إن كان إفلاطون قد لجأ إلى هذه المبادرات كي لا يعاني قمعا أصاب غيره، وذا عين التعقل ولبه، أو أنه أراد للفلسفة أن تبقى نشاطا خلاقا منفتحا على اجتهادات من يأتي بعده وبعد كل فيلسوف مهدد بالموت كأي إنسان. الشيء المؤكد أنه نجح في الانتصار لأستاذه النبيل فحفظ له أهم أفكاره وأطروحاته بفضل الكتابة التي تقاوم الزمن. وانتصر للفلسفة إذ خصص لها فضاء تربويا تعليميا وضع له منهاجا يضمن استمرارها وانتشارها في أي مدينة تحب الحكمة. كما انتصر لكل محبي هذا النمط من المعرفة النظرية التي كان يراد لها أن تحيط بكل شيء لتكون “أم المعارف” ومولدتها الأهم . ولعل ذروة النجاح تتمثل في تشكيله لوعي أحد أبرز تلاميذه، ونعني أرسطو الذي كرس الجهد السابق وطوره بشكل حاسم، ولذا لقبه حكماؤنا ب” المعلم الأول ” وكم هو مستحق لهذا اللقب الدال على أهميته.. وعلى وعي يقظ متقدم لحكمائنا دونما شك.