يخطيء من يظن أن الفلسفة لا تعيش بين البشر. فهي حاضرة في فرنسا ، وفي عموم أوروبا والغرب، في مفردات اللغة العامة وتعبيراتها اليومية، ولكل منها نصيب ولابد. وهي فاعلة في علاقات الحياة اليومية فكرة وقيمة وقانونا ولا غنى لأحد عنها. ولا يكاد يمر أسبوع إلا وتقرأ أوتسمع أو تشاهد مادة ثقافية غنية بالأفكاروالأطروحات الفلسفية المبسطة أو المعمقة . حتى صاحبنا الجليل ابو الوليد محمد بن أحمد بن رشد تجد له حضورا متصلا في الندوات والكتب والمجلات والبرامج الحوارية لا يقارن بحضوره في مدننا وبلداننا. ولكي نوضح الأمر ونخفف من وقع التعميمات نقول إن هؤلاء البشر ليسوا فلاسفة بالفطرة، ما يعني أنهم ليسوا استثناء بين البشر. لكنهم يتعلمون طرق التفكير النقدي والجدل العقلاني المنظم منذ مراحل مبكرة في حياتهم المدرسية . وحين يكبرون ويتقدمون في التعليم يختار نفر منهم التخصص في الفلسفة بغرض أن يعلمها للتلاميذ لاحقا أو بأمل أن يبدع فيها ويضيف إليها جديدا يغني حقلها ويطور خطابها . ومن لا يقدم منطق الحجة البرهاانية المقنعة على منطق الحيل البلاغية الماكرة في أي مقام يفقد مصداقيته لأنه سيقع تحت سلطة المتلقي اليقظ حتما. ولا أعني فئة المتخصصين فحسب، بل ملايين القراء والمشاهدين و المستمعين الذين لا تخدعهم بلاغة القول المرسل – إفتح فمك يرزك الله – ولا يعدون الصمت حكمة في كل حال وحين!. كأنني أقول إن من لا يتنبه لمدى حضور الخطاب الفلسفي في المجتمعات الغربية لن يفهم الكثيرعن ثقافاتها السائدة، العادية والعالمة والعالية. فالنظريات الفكرية الكبرى ليست موجودة في الكتب والمجلات وأروقة المعاهد والجامعات فحسب، لأن جزءا أساسيا منها يتنزل في شكل مقولات وسلوكيات تتجسد وتتشخص في مختلف أشكال التواصل بين الذات وذاتها، بين الذات وآخريها، بينها وبين المؤسسات الخاصة والعامة، بدءا بالعائلة والمدرسة وانتهاء بالمدينة والدولة التي لم تسم” دولة الدستور والقانون” صدفة واعتباطا والفلاسفة هم أول من تفكرها وميز بين أشكالها وأغرى بأفضلها . وبصيغة مجردة أقول أن منتوجات الخطاب الفلسفي، وفي صيغه العلمية خاصة، تحضر في الوعي والمخيال الجماعي العام لتحدد رؤية الإنسان للمكان والزمن والشيء الكائن في العالم من حوله.
نعم لا شك أن الحماقات والجهالات والضلالات المعرفية موجودة في كل ثقافة، لكنها ليست هي الحاكمة بأمرها هنا كما في بعض المجتمعات التي يبدو إنسانها تائها حائرا يعجز عن تفسيرهبوب الرياح وسقوط المطر وعلل النفس والجسم بشكل معقول صحيح. الديانة المسيحية والتراث العبراني لعبا أدوارا قوية في تشكيل الوعي والمخيال الجماعي الغربيين منذ أن تبنت روما هذا الموروث المشرقي عقيدة رسمية للدولة في القرن الثالث الميلادي. لكن الأثر الحاسم من قبل ومن بعد ظل من نصيب الفلسفة ونماذجها العليا الذين كانوا يعدون بالعشرات قبل ظهور الأنبياء وكتبهم السماوية بقرون طويلة . وتزداد هذه الحقيقة التاريخية العامة وضوحا ورسوخا حين نذكر بأن دينامية التحولات الكبرى في أوروبا مدينة للثورات الفكرية المتلاحقة منذ ما سمي” عصر النهضة ” حيث أعيد اكتشاف ” المعجزة الإغريقية” إلى الآن، وعلى الأخص منذ القرن الثامن عشر حيث كان عصر التنوير فلسفيا بامتياز. فهذه ثورات فكرية ومعرفية وعلمية وجمالية لم تكن لتتحقق وتترجم في شكل إبداعات فنية واختراعات تقنية دون تلك الفلسفة ” التي كانت الأم الشرعية لكل العلوم حقيقة ومجازا، ولا تزال تشكل مرجعية ضرورية للعلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية كلها في هذا السياق الحضاري ذاته. ولن أستعيد أطروحات من ذهب إلى أن لحضارة أثينا العظيمة جذورا فينيقية أو مصرية، كي لا يتشعب الموضوع ويشتت القراءة . الشيء المؤكد أن عمارة الفلسفة التي نعرفها اليوم شيدت في سياق زمني – مكاني محدد، وهذا ما يعول عليه. وحتى في هذا السياق قد يكون للفلسفة آباء كثرخارج أثينا، لكن سقراط وإفلاطون وأبيقور وفيثاغورس وأرسطو هم اللذين أسسوا الخطاب ودشنوا التقاليد، ورسموا مسار فنون الجدل حول قضاياه الكبرى ( ولكل طريقته بالطبع ).
لهذا السبب كانت هذه الأسماء الأعلام في طليعة المشروع الذي بدأته صحيفة لوموند خريف العام ( 2007)، ويتمثل في إعادة نشر وتوزيع الأعمال الفلسفية الكبرى لأهم المفكرين الغربيين، وعلى مدى عام كامل. فقد قررت هذه الجريدة اليومية الوسطية الرصينة أن تحتفل كل يوم جمعة من كل أسبوع ، وبالتعاون مع دار نشر ” فلاماريون” الشهيرة ، بعلم من أعلام الفلسفة وذلك بإصدار أهم كتبه أو أهم كتاباته لتصل مع ملحقها الثقافي ، وبقيمة رمزية، إلى الجمهور العريض من القراء أمثالنا . ولأن ابن رشد علمني شيئا من محبة الفلسفة منذ أيام الجامعة فقد قررت اقتناء كل الإصدارات لأنها ستشكل موسوعة فلسفية تزهو بها مكتبتي وقد ينتفع بها غيري تاليا، ومن موقع المحب لاغير.