تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
اللعب أسمى أشكال النشاط البشري. هذا –على الأقل- ما اقترحه فريدريش نيتشه في: “هكذا تحدث زرادشت” عندما وصف تطورًا من ثلاث مراحل للروح البشرية. أولًا: النفس البشرية لها شكل جمل؛ لأنها تتحمل العبء الثقيل للواجبات الثقافية كالالتزامات الأخلاقية والرتبة الاجتماعية وثقل التقاليد. ثم يتحول الجمل إلى أسد، وهو ما يمثل تمرد النفس – “اللا المقدسة” التي تحرر الشخص المحكوم بالقوانين من الطاعة الخانعة للسلطة. أخيرًا: تتطور مرحلة التمرد السلبية هذه إلى أعلى مستوى من الإنسانية، ويرمز إليها باسم الطفل الذي يلعب، أي: البريء والمبدع، “النَعم المقدسة”. إشارة لموسيقى ريتشارد شتراوس.
يمكننا مع نيتشه كالعادة مناقشة المعنى الدقيق لهذا التشبيه الخفي (مثل: هل من المفترض أن يكون الطفل هو الإنسان الأعلى الذي يهزم العدمية؟) ولكن من الواضح على الأقل أنَّ نيتشه اعتبر اللعب مهمًّا جدًّا للبشرية. لم يكن للفلسفة اهتمام كبير باللعب بصرف النظر عن مثل هذه الأنشودة النادرة، وحيثما تهتم، فإنها عادة ما تكون رافضة. يرى كثير من المثقفين ذوو الأنف الصلب أنَّ اللعب يقف كرمز للفوضى. إنَّ لوم أفلاطون في “الجمهورية” للفنانين باعتبارهم مجرد عازفين في عالم الظلال، وبذلك عيّن هذه الوجهة من النظر الشهيرة، كما يفعل ادعاء أرسطو بأنَّ اللعب (paidia) هو بإيجاز راحة أو توقف للروح المجتهدة. يسميها “استرخاء الروح” ويرفضها؛ لأنها “لا تحتل مكانًا مناسبًا من الرفاهية”.
الرفاهية عند أرسطو عمل جاد. ونحن نحصل على كلمتنا: “Scholar” أي: باحث من الكلمة اليونانية للرفاهية: skole. ولا ينبغي لنا أن نبددها على اللعب -من وجهة نظر أرسطو- لأنَّ اللعب مفيد فقط كاستراحة أو قيلولة أمام مساعينا الهامة.
استخدم الشاعر الروماني جوفينال (حوالي عام ١٠٠م) تعبير “الخبز والسيرك” لوصف تدهور الواجب المدني الروماني لمجرد التسلية. عامة الناس الأنانيين -كما يوبخهم- سعداء الآن باللهو والتسلية. مَن لا اهتمام له بالمصير الروماني الأوسع؛ لأنَّ اللعب صرف انتباههم عن الوعي الاجتماعي.
لكي نكون منصفين؛ لم تكن الفلسفة خالية تمامًا من أنصار اللعب. قدم برتراند راسل في مقالته : “في مديح الكسل” عام 1932م وجهة نظر إيجابية عن “الكسل” والرفاهية، معربًا عن أسفه؛ لأنَّ “الرجل الحديث يعتقد أنَّ كل شيء يجب القيام به من أجل شيء آخر، وليس من أجل غاية في ذاته”. وكذا جادل بأنَّ “الطريق إلى السعادة والازدهار يكمن في التناقص المنظم للعمل”. واقترح أنه إذا خفضنا يوم عملنا إلى أربع ساعات، فسيكون لدينا وقت من الرفاهية للتفكير والتفكُّر في كل موضوع، لا سيما ما يختص بالمظالم الاجتماعية من حولنا والتلاعب داخل الحكومة.
إذن، هل اللعب “كعكة الجبن” الثقافية التي انبثقت من تكيفات الإنسان العاقل ذي الدماغ الكبير، مثل اللغة والخيال؟ أم أنها سمة مشتركة للحياة الحيوانية؟ نعلم الآن -من علم سلوك الحيوان وعلم الأعصاب الوجداني- أنَّ اللعب منتشر انتشارًا واسعًا في فئة الثدييات. ملاعبة الصغار عند الثدييات وسيلة مهمة للمشاركة الاجتماعية التي تساعد الحيوانات على التعرف إلى الأجسام، وتعلم الهيمنة وعلاقات الخضوع، وتكوين صداقات التحالف، وتجربة شيء يشبه الفرح إلى حد كبير. يشتهر العالم الذي استخدم تجربة “دغدغة الفئران” جاك بانكسيب بتفصيل كيفية لعب الفئران، وبيَّن بشكل مثير للدهشة كيف “يضحكون” (مع ٥٠ كيلو هرتز زقزقة بالموجات فوق الصوتية). اللعب محفّز من قبل نظام دماغي فطري، حيث يتم التحفيز والمشاركة في اللعب والقتال rough-and-tumble من خلال طفرات في الدوبامين، في حين يبدو أنَّ اللعبة نفسها تطلق أفيونات وأوكسيتوسين ممتعة.
يقترح علماء الحيوان أنَّ اللعب تطور كتكيف للترابط الاجتماعي. يطرح بيتر فارب في كتابه: “صعود الإنسان إلى الحضارة” النظرية القائلة بأنَّ اللعب ربما ازداد ازديادًا كبيرًا عند البشر الأوائل عندما أصبحت الطفولة أكثر أمانًا، حيث أقحم الآباء والأمهات تقسيمًا جديدًا للعمل من خلال الترابط الزوجي. وخلقت أكثرُ الهياكل العائلية أمانًا واستقرارًا خلال العصر الجليديّ، قدرًا أكبر من الترفيه لأدمغتنا الكبيرة لملئها بالتعلم والإبداع واللعب. حتى قبائل الصيادين وجامعي الثمار الحديثة -مثل: شوشون Shoshone الحوض العظيم- تمتعت بوقت رفاهية مفاجئ؛ لأنَّ أعمال الكِفاف -أي: العمل والصناعة الذاتية”- عندهم كانت متقنة بكفاءة عالية.
كل هذا يشير إلى أنَّ اللعب هو أيضًا جزء حاسم من الحياة الكاملة للحيوان البشري، ومع ذلك لم يتحدث الفلاسفة عنه إلا قليلًا جدًّا. والعادة أنَّنا إذا رأينا تقديرًا للعب، فهي محاولة لإظهار قيمة فائدتها السرية: “انظروا، إنها براغماتية على كل حال”. انظر كيف تجعلك الموسيقى أكثر ذكاء في أشكال التفكير الأخرى الأكثر قيمة، مثل: الرياضيات أو المنطق أو حتى استراتيجية العمل؟ انظر كيف يتكيف اللعب مع التطور الاجتماعي؟ كل هذا صحيح بلا ريب، ولكن يتساءل المرء أيضًا عن المعنى الإنساني الفريد للعب والرفاهية. هل يمكننا اعتبار اللعب والترفيه شيئًا ذا قيمة متأصلة، أيًّا كانت فائدتهما العرضية؟
قد تساعدنا تجربة الفكر الفلسفي هنا. يساعدنا غالبًا التقليدُ القصصي للسيناريوهات غير الواقعية – مثل: “خاتم جيجز” لأفلاطون، و “الموقف الأصلي” لجون رولز، وفيلم هارولد راميس “يوم جرذ الأرض” – على عزل قيمنا والتزاماتنا الخفية. لذا فكّر للحظة في شكل الحياة إذا لم نكن بحاجة إلى العمل. لا تتخيل التقاعد فحسب، بل عالمًا بعد العمل نفسه. تخيل أنَّ “عصر الآلة الثاني” (الجاري حاليًا) يجلب لنا يوتوبيا روبوتية، أي: الذكاء الاصطناعي، حيث لم يعد يشعر البشر بحاجة إلى العمل من أجل البقاء. قد تخيّل باكمنستر فولر مثل هذا المستقبل التقني قائلًا: “يجب أن يكون العمل الحقيقي للناس هو العودة إلى المدرسة والتفكير في كل ما كانوا يفكرون فيه قبل أن يأتي شخص ما ويخبرهم أنه يجب عليهم كسب القُوت”.
الهدف من هذه التجربة الفكرية هو عزل سؤال أرسطو لنا. كيف نشغل وقت فراغنا بشكل مناسب؟ توضح عبارة: “شغل أوقات الفراغ” أنها نفسها المشكلة. ما فائدة عديمي الفائدة؟ ماذا سنفعل، وماذا يجب أن نفعل بوقت فراغنا؟ هل سيكون لدينا -بعد عالم العمل- الوقت والطاقة والطموح للقيام بالفلسفة والفن ودراسة التاريخ وإتقان اللغات؟ هل سنلعب بشكل خلاّق مثل أصحاب “نعم المقدسة” أم أننا سنشاهد التلفاز أكثر؟
وبالنظر إلى ذلك، أود أن أقترح أن نقسم اللعب إلى فئتين رئيسيتين: الفعلية Active والسلبية Passive. الأشكال السلبية لنسميها التسلية أو اللهو، وهي مشبوهة بالفعل، حيث يبدو أنها تثبط الفرد وتقلل من المشاركة الإبداعية. نجد -من ثقافتنا التلفزيونية “الخبز والسيرك” إلى ثقافة سوما ألدوس هكسلي: “عالم جديد شجاع”- أنَّ الأشكال السلبية للترفيه ملذات رخيصة تأتي دون أي جهد أو مهارة أو معاناة. أمَّا اللعب الفاعل –كل شيء من الرياضة إلى الموسيقى إلى الشطرنج، وحتى بعض ألعاب الفيديو– فإنه ينشط الفرد ويكلفه التدريب والمهارة والجهد والسعرات الحرارية. حتى استكشاف الفضاء الداخلي للوعي -من خلال وسائل طبيعية أو صناعية- يمكن أن يكون نشاطًا مهمًّا. وتشير الثقافات الحقيقية للتأمل مثلًا إلى صرامة لعبة الفضاء الداخلي inner-space play.
على الفلسفة أن تخرج للعب. نحن بحاجة إلى نظرية معرفة للعب (تحقق في كيفية إنتاج اللعب للمعرفة) وأخلاقيات اللعب (التحقيق في القضايا المعيارية للعب). قد نبدأ بأرسطو رغم شكوكه في ذلك؛ إذ رأى الموسيقى مثلًا هواية تليق بالأشخاص الأحرار والنبلاء. وخلص في كتابه :”السياسة” إلى أنه لا حاجة للاعتذارات أو مبررات للموسيقى؛ لأنَّ “السعي من أجل المنفعة في كل مكان لا يُزهي الأحرار وذوي الروح العظيمة أبدًا”. وأنا أقترح تطبيق المنطق الخيري نفسه للحضارة على كثير من أشكال اللعب الأخرى أيضًا.
رهانات اللعب أعلى مما نعتقد. اللعب هو حال للوجود يقاوم حال الوجود الذرائعي والمحكوم بالمصلحة الذاتية. نحن -في اللعب- لا نقيس أنفسنا من حيث الإنتاجية الملموسة (القيمة الخارجية)، بل تكون حياتنا الجسدية والعقلية لها قيمة جوهرية خاصة بها. إنه يمنحنا المصدر الذي تتدفق منه السلع الخارجية الأخرى وتعود في نهاية المطاف.
متى نرى نشاطًا مثل الموسيقى مجرد “مفتاح للنجاح”، فإننا نخادع أنفسنا. العزف على آلة موسيقية هو السعي لتحقيق الذات والغاية ذاتها (تحقيق ما هو بالقوة “الإمكان”). اللعب -أو حتى الاستماع- في هذه الحالة، هو نوع من التأمل الفريد والمتجسد الذي يمكن أن يغذي العقل والجسم كليهما.
متى ننخرط حقًّا في مثل هذه الأنشطة الترفيهية “غير العملية” – بأجسادنا وعقولنا، فإننا نفعل ذلك من أجل اللذة التي تجلبها لنا وللآخرين، ومن أجل الخير المتأصل الذي ينشأ عن ذلك الانخراط، لا شيء آخر. وبذلك تكون هذه هي “نعم المقدسة”.
الكاتب: أستاذ الفلسفة في كلية كولومبيا في شيكاغو وعضو في برنامج Public Theologies of Technology في معهد الدراسات البوذية. شارك في تأليف كتاب The Emotional Mind: The Affective Roots of Culture and Cognition.
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
Reclaiming the Power of Play
Stephen T. Asma
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”