“إذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى الحلو اللفظ (…)
مازج الروح وخالط الفهم وكان أنفذ من نفث السحر
وأخفى دبيبًا من الرقى”. ابن طباطبا العلوي
رُبَ شَاعرٍ ليسَ لهُ من الشاعرية إلا الشعور، أما استغلال ما للسان أو اللغة من طاقات حسية ونفسية وعقلية وصوتية تمكنه من العبور إلى ما وراء اسم الإنسان.. هناك حيث لا تَسأل أينٌ: أَين، وحيث تَسمعُ الأذن ما تُبصِرُ العينُ، ويتَساوى النقيضُ والنقيضينُ، ويكون الواحد اثنين ومائتين وألفًا و ألفين، هناك حيث يتمكن الشاعر من القصيدة، أقول هذا أمر آخر تمامًا، ولكن هناك شاعرٌ هو من الخطورة بمكان بحيث يكون هو برزخ بين ذلك الشعور الخاص واللغة الخاصة.
إنه شاعرٌ من الحيثيتين و بحسب كانط – تكمن خطورة هذا الشاعر في منافسته بمخيلته العقل المحض في الاشتغال وراء التجارب الممكنة، وهذا ما به الاشتراك بين الفيلسوف والشاعر، والناتج عنه إشكالات على ملكة الحكم دفعته إلى استئناف البحث عن شروط الإبداع في الإمكانات القبلية و القارة في بنية العقل، وقد أنجزه تحت عنوان “نقد ملكة الحكم” كاشفًا عن معالم السؤال “الاستطيقي” و مؤكدًا على أن الشعر يجد أصله في أفق هذه الأفكار التي يَعرفها بكونها التمثلات التخييلية التي تنتجها المخيلة كما لو كانت ضربًا من “اللعب بالظاهر” بنحو لا يخضع لأي صياغة منطقية.
ما ثمة أمر قطعي في “الاستطيقا”، فهي أفكارٌ غير معنية بالنظر الموجه وفق إكراهات يفرضها نظام الأشياء في ذاتها؛ هذه المعول عليها في الأفكار المنطقية لحصول الإجماع، لكن ثمة “إجماع استطيقي” يرتكز على ذلك “الحس المشترك” الذي يدعونا إلى مشاركة “الالتذاذ” بجمال حر يجد مبرره في الإمكان الذي تتيحه لنا هذه الأفكار من قابلية هذا الشعور للتواصل الكوني، أو بمعنى آخر هو ذلك النمط من الإجماع على الجميل، إجماعٌ لا يحتاج حتى ينعقد إلى مسلمات تسبقه ولا قواعد توجهه أو تقنيات تنتجه أو يحتاج إلى أدلة تبرره، إجماعٌ يرجع إلى “بنية ذاتية – استطيقية – محضة” ملاك طرافتها في إمكانية تصديرها قَبْليةً لا تصدر وفق معايير نظرية ولا عملية.
من هذا المنظور تبدو “ملكة الحكم” ملكةً لم تعد ذات وظيفة تعينية تكتفي بإدراج الجزئي تحت قوانين عامة يعطيها الذهن على نحو قبلي، بل عليها فقط أن “تفكر” في الجزئي بوصفه متضمنًا في الكلي؛ لكن – عند كانط – ما هو معطى بالفعل هو الجزئي، أما الكلي فلا وجود له، لذلك يوصينا أن نجد الكلي في أنفسنا، أو إن شئتم أن نخترعه – وهذا ما حدث بالفعل – مبدأً متعالٍ تعطيه “ملكة الحكم” نفسها لا بوصفه قانونًا، إنما بوصفه الذي يتيح للبشر إمكانية إصدار أحكام ذوقية محضة قابلة للتواصل الكوني، ملكة تضع القواعد وقاعدتها الوحيدة ألا تخضع هي لأي قاعدة.
بالتالي إنه من الممكن أن يقال الشاعر مفكرٌ بنحو خاص يجعل من الشعر ضربًا من اللعب المتعالي باللغة، تفكيرٌ بلا مفهوم، وتفكيرٌ كهذا لا يمكن قوله ولا تفسيره بأي لغة.
كان الأجدى بنا – نحن غير الشعراء – بدل أن نسأل ما الشعر، أي ما كنهه وما طبيعته وما أصله، أن نسأل ما الذي ننتظره منه؛ فهل ننتظر منه إنتاج معرفة بالأشياء، بالذات تلك التي لا يمكن التحقق منها موضوعيًا كونها وراء حدود التجربة، أي وراء العقل، أم ننتظر منه غير ذلك.
قلنا أن تفكيرًا بلا مفهوم لا يقال وبالتالي لا يفسر، إذن ما ينتج عن نظم قصيدة من معرفة ليس هو المقصود من وجودها، إنما المقصود أمرٌ آخر.
فالشاعر إذا لم يجد من نفسه عزمًا جريئًا على جعل غير المرئي “محسوسًا” ربما ينظم قصيدة، لكن نظم القصائد ليس الاعتبار الأخير في الشاعرية، إنما الاعتبار لقدرة الشاعر على أن ينفث الروح في ما ينظم من القصيد فيعطيه بذلك صلاحية كونية يمكن أن ينتظر صاحبها من كل أحد أن يَشعرَ بها ويَلتَذْ بمجرد التأمل الذاتي المحض.
وبالتالي إن ما يعنينا – نحن غير الشعراء – من الشعر، مهما قلنا عن أصله – هو أثره الحيوي؛ فننتظر منه أن يحيي أنفسنا بدفع قوانا إلى أقصاها، وأن ننتبه إلى ما يعنيه لعب الشاعر من حيث كونه لعب قائم بنفسه، لعب يوسع من نطاق العقل لا يحده، و يفتح أبصارنا على ما لا تنالهُ العين، إلى اللعب الذي يجد في “العبقرية” المحضة الناتجة عن اتحاد مخصوص بين المخيلة والذهن منبعًا ومعين، “عبقرية” تنفرد باستطاعتها أن تعبر عما “لا يسمى” بل وتجعله قابلًا للتواصل على نحو كوني.
معقولية الخيال
في المنظور النقدي السائد تحمل كل صورة معنى مباشرًا وآخر خلقيًا يحال عليه بالخصائص المشتركة بين ما هو واقع وما هو معنوي، فالشاعر إذ يريد من القصيدة نتائجها المعنوية، فهو يريدها بشرط أن تبقى ضمن حدود المعقول، أي ضمن حدود الواقع.
لذلك يميز أصحاب هذا المنظور في”اللغة الشعرية” بين المضمون والشكل، بحيث تكون الشاعرية مجرد شكلٍ خاص من أشكال التعبير الدَّال على معانٍ عامة بدوال مخصوصة، أو بمعنى آخر تكون الشاعرية نمطًا مختلفًا من التعبير عن المعاني العامة بتعابير خاصة، وهذا ينتهي إلى اعتبار “اللغة الشعرية” نتاج تقنيات لغوية غايتها أن تضفي شيئًا من الغرابة على المعاني، أو تعين المعادل الموضوعي للصورة الحسية المعبر عنها بلغة المجاز، فـ “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي، والعربي، والبدوي، والقروي، والمدني. وإنما الشّأن في إقامة الوزن، وتخير اللّفظ وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السّبك. فإنّما الشّعر صناعة، وضرب من النّسيج، وجنس من التّصوير” [الجاحظ، كتاب الحيوان ص131]
تاريخيًا، يُعَد هذا هو المنظور السائد والمهيمن على أغلب التجارب الشعرية، إلا أنه بالرغم من ذلك فإنه لم تُعدم وجود تجارب تعلن عن نيتها ترك هذا المنظور وتجاوزه والشفاء منه، مدفوعة بحدس لدى أصحابها مفاده أن الحقيقة أكبر من الواقع المحسوس وإن لم تكن غيره، وأن الكلمات في الشعر ليست مجرد وسيلة إلى التعبير والتواصل، إنما هي غايات ومقاصد في ذات نفسها، فالعارف إذ يصدر عن تجربته العرفانية مصورًا انفعالاته في الطريق إلى اليقين باعتبارها تعكس موقفه الحضاري وموقعه الاجتماعي وسياقه الوجودي و الأنفسي، يهدف – عبر عملية الإبداع – أن يجعل من موقفه الذاتي الخاص موقفًا إنسانيًا عامًا، وهذا ما أعطى التجربة العرفانية صداها الخاص في رسم الصورة انطلاقًا “من الصّفاء الّذي هو الأصل، صفاء المعرفة كانفعال مبهم يبحث له عن مسار حسّي يخلع صفة الإبهام عنه” [خناثة بن هاشم، الشعر الصوفي بين الرؤية الفنية والسياق العرفاني]
إن ما يميز التجارب الشعرية الصوفية أن شاعرها هو نفسه موضوع عملية الإبداع، ولأجل ذلك كانت عملية التصوير في الشعر الصوفي بمثابة الوجه الفني لنهجه العرفاني بحيث تتميز الصور بما لها من قدرة على تكثيف الدلالات مما يعطي للخيال مجاله الرحب، إنه ما يمكن القارئ من قراءة أفكار الشاعر، لكن أيضًا قراءة انفعاله العاطفي العميق فيه، وبذلك يرتقي الشعر الصوفي إلى مشارق الوجود الإنساني بفضل ما للخيال من قدرة على الإدماج ومزج المعاني بالمحسّات فتكون الصور داخل الشاعر الصوفي موصولة بروابط داخلية تربط الصور فيما بينها وبين انفعال الشاعر، و تقف بنا على وحدة الشعور المسلط على القصيدة.
لقد أدرك الصوفي أن الروح قد هبطت إلى هذا العالم بغية أن تكسب ذاتها بحصول العلم والمعرفة بحقائق الموجودات، لتعود وترتد متسامية به عنه، وهذا ما يجعل التجربة العرفانية في مظهرها النفسي والاجتماعي تجربة من تجارب “الا- انتماء” وهي تجارب لا يجمعها سنخ واحد، فإذا قلنا أنه يمكن اعتبار التجربة العرفانية أحد أكثر تجارب “الا- انتماء” تطرفًا، فنحن لا نريد ذلك النمط الحديث للموجود المزعج الذي يعاني فشلًا وجوديًا يدفعه إلى نحو من العدمية الطفلية معنية بممارسة اليأس والقلق كوسيلة لإثارة انتباه الوالدين، إنما نريد ذلك النمط من “الا- انتماء” الذي تمثله شجرة جذورها في الأرض وفرعها كل يوم في سماء، ذلك أنها تصدر عن انتماء يحتضن الواقع بكل أبعاده المادية، فالعرفان الذي يعول عليه هو ذلك الذي يحتفي بلقاء الوجود في مطلق تجليه.
إن من قراء الشعر الصوفي من يذهب ضحية مشاكلته بين الرموز والكناية، فكان الشعر الصوفي عندهم أقرب للكناية منه إلى طبيعة التعبير الرمزي، فيُذهَل عن إحالة الرمز للغة العادية إلى طبيعة أخرى، طبيعة لا تحددها الوظيفة العادية للغة بحيث يكون فضل اللغة الرمزية على الشاعر تمكينه من بلاغة خاصة، مليئة بالدلالات البعيدة والمختلفة، والمميزة بجنوح ميتافيزيقي يحيل على الوجدان الصوفي وهو في ذروة انفعاله العاطفي، واقفًا على ما أفضت إليه تجربته الشعرية التي مزجت بين الفني والروحي بما يعود على عملية الإبداع بمكتسبات نفيسه.
هذا ما وعاه محيي الدين بن عربي صاحب ديوان “ترجمان الأشواق” والذي “سيفجر نظرية المعرفة” بقلبه معادلة الحسي والروحي والمادي والمعنوي معلنًا أن ما تثبته الناس كحقيقة واقعة ليس سوى خيال، ولو لم يكن كذلك ما كانت حواس الناس لتجد مدخلية إلى القدرة على تحويل حقائق الموجودات، بل إن التحول والتبدل والتغير الذي يحدث في جوهر الأشياء دليل على أنها في ذاتها هباء موجود في عماء مطلق.
إنه خبرٌ مدهش، فمن فَجرَ نظرية المعرفة فعل ذلك، أولًا وبالذات كشاعر لا كفيلسوف، ربما لأجل ذلك لم يتوقف عند الذي توقفت عنده الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء (ما العلم الحق؟) أي لم يتوقف عند المسائل المتعلقة بالوسيلة إلى المعرفة والذي حرصت تلك المذاهب أن تكيفها بما يضمن انسجامها مع مضمون كلٍ ومذهبه، وهو ما يعتبره كل فريق علامة على الأحقية والصوابية، فالرجل كان يقيم الاعتبار لكل ما يوصل إلى المعرفة دون اعتبار لمضمون هذه المعرفة، فنجده معنيًا بحث الإنسان على القيام بحق كل قواه الحسية والروحية إذا ما أراد التحقق بكمال الماهية (أي تحقيق ما هو عليه).
ولقد نوع محيي الدين في مراتب عالم الخيال، فهناك المطلق وهو العماء، وهناك المنفصل أي المنفصل عن الإنسان أو هو الوجود الخيالي للعالم.
أما على المستوى المعرفي، فالخيال الإنساني بما له من قدرة على الاتصال بالعماء أو الخيال المطلق كما قلنا كان تمت له القدرة على معرفة حقيقية وأصيلة بأشياء العالم، فيكون الخيال وسيلة أصلية من وسائل تحصيل أي معرفة حقيقية ( إن شئتم و صادقة) بهذا العالم.
أما على المستوى الوجودي، فلما كان الخيال من جملة الأرحام التي تظهر فيها الصور، فقد كان ولا يزال القوة التي لا تعرف المحال، مبدأ هيمنة صورية للإنسان على الوجود كله واجبه ومحاله، هيمنةً لا تفقد قيمتها حقيقتها الصورية . بالتالي، ما دام الوجود الحقيقي للواحد ذو الفعل الواحد، فليتكثر العالم كما شاء وليكن متنوعًا بلا نهاية.
إن هذه الفعالية الوجودية العجيبة للخيال هي سر “الإبداع” الإنساني الذي يُشركه مع “المُوجد” في القدرة على الإيجاد فـ “إذا ثبـت إلحاق الخيال في قـوة الإيجاد بالحق ما عدا نفسه، فهو على الحقيقة المعبر عنه بالإنسان الكامل، فإنه ما تم عـلى الصورة الحقية مثله، فإنه يوجد في نفسه كل معلوم ما عدا نفسه. والحق، نسبة الموجودات إليه مثل هذه النسبة” [ابن عربي، الفتوحات المكية 2/ص312].