التأسيس الأنطولوجي للعلاقات الأخلاقية الصحيحة
شايع الوقيان
تحديد أولي للأخلاق:
القيم الأخلاقية تعبيرات وصفية أو معيارية عن علاقات إنسانية ذات أساس اجتماعي أو ميتافيزيقي. وعندما نقول إنها تعبيرات فالمراد أنها تنطوي على مدلولات لا تكون واضحة للوهلة الأولى. فقيمة أخلاقية كالتسامح مثلاً قد تكون تعبيراً وصفياً عن واقع معاش يمارسه الناس يومياً (أو يمتنعون عن ممارسته في ظروف معينة). أما عندما نقول إن التسامح تعبير معياري فالمراد أنه نموذج إرشادي لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الناس بصرف النظر عن تحققها الفعلي من عدمه. قديماً كان الفلاسفة يزودون الناسَ بنماذج معيارية وتربوية. وما يقوله الفلاسفة (والحكماء عموماً) هو ما يجب أن يكون عليه الحال. ويرى هؤلاء الفلاسفة أن تبصراتهم الأخلاقية ونماذجهم المعيارية ليست إنشاءات ذاتية أنجزوها بأنفسهم بل هي كشف قاموا به لواقع الحال. فالوجود الحق هو وجود أخلاقي، وما الشر سوى وهم أو جهل أو زيف. وكان سقراط يرى أن العلمَ يزيل الشرور وأن الإنسان لا يرتكب الشر وهو عارف به. من هنا فالقدماء كانوا يقدمون أخلاقاً معيارية؛ أي قواعد لما يجب أن يكون عليه حال البشر، ولكنهم مع ذلك يرون أن هذه القواعد ذات طابع كوني أو أنطولوجي بحيث إن العقلَ يدركها لو تحرر من الهوى والتحيزات وحُجُب الجهالة.
في الفكر الفلسفي الحديث ولا سيما مع ديفيد هيوم صار هناك انشعاب بين الواقع والقيمة. فالواقع يدرسه العلمُ الطبيعي، وأما القيم فيدرسها العلمُ المعياري كالمنطق والأخلاق. ويصر هيوم على أن الواقعَ التجريبي ذاته لا يقول لنا إن هذا الفعل خير أو شر. وإنما الخير والشر قيمٌ نضيفها نحن من عندنا على الأفعال. ومنذ ذلك الوقت تحول الدرس الأخلاقي، وخصوصاً في الفكر التجريبي، إلى تحليلات سيكيولوجية. وبلغ الأمر ببعضهم أن اعتبر الخير والشر والجمال والقبح مجردَ انفعالات بشرية لا غير. فالسرقة أمر منكَر ليس لأن في فعل السرقة ذاته ما ينص على هذا، بل لأن نفوسنا تشمئز من هذا السلوك.
أرى من جانبي أن أية منظومة أخلاقية صحيحة يجب أن تكون وصفية ومعيارية معاً. فالأخلاق ليست مجرد إملاءات لبشر مثلنا كالفلاسفة، ولا هي مجرد وصف محض لما يدور بين الناس. فثمة أساس واقعي أنطولوجي على ضوئه نستطيع أن نستنبط أخلاقاً كونيةً صالحة لكل العقول بصرف النظر عن التفاوت التاريخي والتباين الجغرافي بين البشر.
القيم الأخلاقية كالعدالة والحرية والتسامح والتضامن والنجدة والكرم وغير ذلك تعبير – كما قلنا- عن علاقات إنسانية. والعلاقة صلةٌ بين حدّين فأكثر؛ فلكي تقوم علاقة لا بد أن يكون هناك طرفان على الأقل مختلفان عن بعضهما بعضا. فنقول مثلا (أ) أكبر من (ب). لدينا (أ) وهو بالضرورة مختلف عن (ب) وإلا لما انعقدت بينهما صلة ولا يمكن أن نقول إن (أ) أكبر من نفسه.
العلاقة في المنطق إما أن تكون علاقة هوية أو علاقة اختلاف. ففي علاقة الهوية نقول (أ) هي (أ). ولكنها ليست العلاقة التي نقصدها عندما نتحدث عن منطق للعلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية بل نقصد علاقة الاختلاف. وفي إطار هذه العلاقة نبحث عن صلةٍ ما؛ فالعلاقة بين المضيف والضيف هي الكرم أو الضيافة، وبين الحاكم والمحكوم هي العدالة، وهكذا. فالقيم هنا تجسد علاقة بين طرفين مختلفين. وحتى عندما يتماهى المرء مع نفسه؛ أي عندما يحقق ذاته أو يتأملها فإن العلاقة في ظاهر الأمر هي علاقة هوية، ولكننا عند التحقيق نجد أن المرء يصوغ هوية لنفسه تبعاً لوجوده بين الآخرين. ولدى علماء النفس الاجتماعي والفلاسفة مثل وليم جيمس وجورج هربرت ميد تقسيمات للذات تجعلها نوعين أو أكثر. فهناك ذاتٌ لي ولا يعرفها سواي وهي ذاتي الخاصة، وهناك ذاتٌ أقدمها للناس وهي ذاتي الاجتماعية. والمرء لا يمكن له التحرر من ملابسات البنى الاجتماعية التي ولد في أحضانها: الأسرة، اللغة، المدرسة، الأقران، الزُّمَر، ثقافة المجتمع ككل من دين وعادات وتقاليد وطرق عيش. فالمرء ههنا عندما يعود إلى نفسه ويتدبرها فإنه لا يعود خاليَ الوفاض بل محملاً بتصورات ومفاهيم اجتماعية تعبر عن حضور الآخر المختلف وهو حضور ليس عرَضِياً بل ملازمٌ لهوية الأنا، فالذات “بنية اجتماعية ثقافية” كما يعبر عالم النفس الفرنسي إدمون مارك. وهكذا فإن علاقة المرء بذاته تحدث على مستويين: ميتافيزيقي وقد عبر عنها ديكارت بمبدأ الكوجيتو، وفيها يتدبر المرء نفسه دون حضور للآخر أيا يكن. والمستوى الثاني هو الاجتماعي، وكما أشرنا فالشخص لا يفكر في نفسه إلا بعدما قطع شوطاً طويلاً في المجتمع، ويعبَر عنه بـ”الوعي الذاتي”. وهذا الوعي ضروري لقيام علاقات أخلاقية صحيحة.
شروط الفلسفة الأخلاقية:
١- الاختلاف:
العلاقات الأخلاقية إذن علاقات تنهض على مبدأ الاختلاف وليس الهوية، والاختلاف ينص على احترام اختلاف الآخر وعدم اختزاله إلى الأنا. من هنا فالفلسفة الأخلاقية الصحيحة لا تقوم إلا على شرط الاختلاف. وهو الشرط الأول. فإذا كان فلانٌ يمتنع عن التسامح مع من يخالفه في عرقه أو دينه فقد أهدر شرط الاختلاف الضروري لكل قيمة أخلاقية. وهكذا فاحترام المختلِف وعدم تجاهل “آخريته” شرط أخلاقي.
٢- الشمولية:
إذا كان التسامح –مثلا- لا ينصب إلا على من هم على شاكلتي وعلى ديني وعرقي فلا قيمة لهذا التسامح أو إن قيمته منقوصة جداً لأن شمول القيمة الأخلاقية ضيق لأنه لا ينطبق على الكل بل على البعض. من هنا فالشمولية شرط ثان للفلسفة الأخلاقية الصحيحة؛ بمعنى أن تشمل أفعالُنا الأخلاقية أكبرَ قدر ممكن من الكائنات الحية وليس العاقلة فقط.
٣- الكلية:
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما مصدر التقييم الأخلاقي للفعل البشري؟ وبتعبير أدق: من الذي يحدد ما هو خير وما هو شر؟ ما هو عادل وما هو ظالم؟ إلخ.
هناك من يجعل المصدر هو المجتمع نفسه بما فيه من دين وعادات وتقاليد. ولكن المشكلة التي يطرحها هذا الحل هو الانزلاق إلى النسبوية الثقافية. فيصير لكل ثقافة ومجتمع قيمه الأخلاقية الخاصة. وما هو شر عند قومٍ قد يكون خيراً عند أقوام آخرين. وهذا لا ينسجم مع الأخلاق الصحيحة التي نفترض أنها نابعة من صميم الوجود الإنساني نفسه وليس مما طرأ عليه من ملابسات الثقافة وتغيرات الأزمنة والأمكنة. ولكي نعرف المصدر الحق لتأسيس أخلاق كلية يتفق عليها الناسُ بغض النظر عن اختلافاتهم فعلينا أن نسألَ: ما المعيار الذي يتعالى على هذه الاختلافات أو العامل المشترك بين كل البشر؟ والجواب بكلمة واحدة هو العقل. فالعقل ملَكة مشتركة بين الناس ولا جرم نجد الفلاسفة يحدّون الإنسان بأنه حيوان عاقل. والعقل هنا يجب ألا يفهم على أنه عقل صوري أو منطقي، بل هو- إضافة لذلك- عقل تجريبي. فالبشر لهم الملكة نفسها والاختلاف بينهم في هذا الصدد اختلاف طبيعي ولا علاقة للثقافات واللغات به. هو اختلاف في الدرجة لا في النوع. كما أنهم يعيشون في البيئة نفسها: الأرض. ويعانون الخبرات الأولية ذاتها، ولديهم غرائز ورغائب متشابهة. فالعقل الذي يتدبر نفسه ويتدبر الكونَ هو العامل المشترك بين كل البشر. ومن هنا فالعقل هو المصدر الأكثر جدارة لأن يكون أساساً للفلسفة الأخلاقية الصحيحة.
٤- الحرية:
كل فعل بشري يتم الحكم عليه بأنه خير أو شر إذا كان صاحب الفعل هو سببَ الفعل. فلو افترضنا أني أجبرتُ – بقوة السلاح- رجلاً على أن يسرقَ فإن اللائمة لا تقع عليه بل عليّ، لأنه ببساطة لم يكن حراً عندما قام بفعل السرقة. وهكذا فلا أخلاق بلا حرية.
٥- الاجتماعية:
قلنا إن العقل أساسٌ مفارق للأخلاق، وكلمة مفارق نقيض لكلمة محايث. فالمحايث هو شيء داخلي. فقولنا إن الأخلاق مصدرها المجتمع يجعلها أخلاقاً محايثة. ويذهب فلاسفة ما بعد الحداثة مثل فوكو ودريدا ورورتي إلى مثل هذا الرأي. لكن المراد بشرط “الاجتماعية” ليس أنها أخلاق اجتماعية بل أخلاق تحدث في المجتمع رغم أن أصلها مفارق؛ أي هو العقل الكلي وليس الثقافات الاجتماعية المتنوعة. وهذا الشرط مستنبَطٌ من كون القيم الأخلاقية علائقية، أي تفترض وجودَ طرفٍ آخر. فلو افترضنا أن رجلاً يعيش في جزيرة معزولة لوحده، وليس معه أي كائن حي، فإن من الصعب وصف هذا الرجل بأنه كريم أو عادل أو متسامح أو حر أو عبد… إلخ لأن هذه الأوصاف تستلزم وجود أكثر من شخص؛ أي تستلزم وجود “مجتمع”. وكلمة “مجتمع” لا نعني بها بالضرورة المعنى السوسيولوجي الذي يقتضي وجود ثقافة ولغة موحدة، إذ يكفي لقيام الأخلاق أن يوجد أي تجمع بشري حتى ولو لم يكن بين أفراده ثقافة مشتركة سوى كونهم بشراً عاقلين.
الأنماط الصورية والمادية للعلاقات الاجتماعية-الأخلاقية:
شرط العلاقة السائد في المجتمع هو علاقة الاختلاف، كما أشرنا. وتتجسد العلاقات الاجتماعية عموماً في أنماط صورية ثلاثة: علاقة تساوٍ، وعلاقة علو، وعلاقة دنو. ففي الصداقة هنا تساو بين الطرفين، وفي علاقة الرئيس بالمرؤوس هنا علو من جهة الطرف الأول، ودنو من جهة الطرف الثاني. وفي كتابه (أنا-أنت) يقسم مارتن بوبر العلاقات شكلياً إلى ثلاث: علاقة الأنا بالطبيعة أو بالأشياء المادية، وعلاقة الأنا بالآخرين من البشر، وعلاقة الأنا بالمطلق (الله). لكن اهتمام منطق العلاقات الأخلاقية يركز فقط على النوع الثاني، رغم حضور النوعين الآخرين في صميم كينونة الأنا بحيث تحدِث أثراً في العلاقات الاجتماعية. فالمتدين مثلا يعيش علاقة مع الله وهذه بدورها تنعكس على علاقاته بالناس، فيظهر لهم المودة والرحمة والشفقة. وربما يظهر لهم القسوة إن كانت علاقته بالله علاقة أيديولوجية مشوَّهة. وبالنسبة للعلاقة مع الطبيعة فلا يخفى أن هناك أشخاصا كثيرين من دعاة حماية البيئة والطبيعة وهذا يؤثر على علاقاتهم مع الغير. فتراهم مثلاً يشجبون العولمة وأصحاب المصانع ومن لا يلتزم بأدبيات البيئة.
أما الأنماط المادية أو المضمون الاجتماعي للعلاقات فيتجلى في صور شتى: الأمومة، الأبوة، الأخوة، الصداقة، الزمالة، العداوة، الحرب، الحب، التسامح، … إلخ وهكذا فكل موضوع من هذه الموضوعات يعبر عن علاقة اختلاف، وبالتالي فهو ينطوي على تساو أو تباين في الرتبة. فالأم أعلى رتبة من وليدها من ناحية وجودية (خبرة الوجود) لكنها تتنازل له ليصبح هو الأعلى رتبة فتسهر على خدمته ورعايته حتى لكأنه سيد مطلق. وأما في الصداقة فقد أشرنا إلى أن التساوي بين الصديقين مهم جداً لاستقرار العلاقة، ومتى ما كان أحد الصديقين سيداً على الآخر أو مسيطراً عليه فإن الصداقة تنزاح إلى نمط علائقي جديد هو علاقة الخضوع.
في غضون هذه العلاقات الاجتماعية تحدث الأخلاق أو تعبر عن نفسها بشكل فعليّ. فهل علاقة التساوي أو التكافؤ دائماً عادلة؟ وهل علاقة العلو والدنو دائماً ظالمة؟ هنا نلحظ عدم تطابق بين العلاقات الاجتماعية والعلاقات الأخلاقية بشكل تناسبي؛ فعطف الأم على طفلها عمل أخلاقي عظيم رغم أنه لا ينطوي على تساوٍ. والمساواة بين العامل النشيط والعامل الكسول في الأجور أمر ظالم. وهكذا. وبالتالي فإن الفلسفة الأخلاقية الحقة تأخذ على عاتقها مهمة تقديم مبادئ أساسية تقوم بتنظيم العلاقات الاجتماعية-الأخلاقية بحيث لا يتم انتهاك أي حق أصيل من حقوق الإنسان. فحق الإنسان في الحياة حق أصيل، وأي عمل يصادر هذا الحقَّ فهو بالضرورة – ومن ناحية مبدئية- شر. وسنفصل في هذا بعد قليل.
التأسيس الأنطولوجي للقيم الأخلاقية:
الوجود الإنساني هو الوجود الوحيد الذي يجعل وجودَه محلَّ تساؤل واهتمام. هكذا يخبرنا هايدجر في (الوجود والزمان). الحيوانات تعيش بشكل مباشر وملتصق بالطبيعة. ولا تعرف أنها “موجودة” لأنها لا تعرف أنها “متناهية” أي: سائرة نحو الموت والفناء. ومن المحقَّق أن الحيوان لكي يعرف أنه موجود لا بد أن يعرف “معنى” الوجود. والمعنى فكرة ذهنية تتجسد في رموز لغوية وسلوك فعلي لا يتوفر عليه الحيوان.
الإنسان موجود، والوجود ليس له ضد. لكن أليس العدمُ ضداً للوجود؟ الجواب: لا. لأن العدم ببساطة غير موجود، فكيف يكون ضداً وهو غير موجود ولا يمكن التعبير عنه بأي شكل من الأشكال. هنا أفترق في فلسفتي عن هايدجر؛ فلقد برهنت على أن العدم كلمة لاغية في كتابي (الوجود والوعي: استئناف الفينومينولوجيا) وأن الحديث عنه سيكون لغواً. فأية عبارة ترِدُ فيها كلمة “عدم” فإنه تلغي معقوليتَها فوراً. ولولا شيوع الكلمة على ألسنة الناس لما كان لها أي معنى. فهل كان الناس مخطئين في ابتكار كلمة “عدم”؟ طبعا لا. لكن موقفي الحاد هو تمسكٌ أصيل بالمعنى الذي نفترضه للعدم؛ فلكي يدل العدمُ ككلمة فإنه يجب ألا يدل.
الوجود يقف وحيداً منتصباً لا بديل ولا نقيض له، ومن ثم فالوجودُ واجبٌ بإطلاق. فكل شيء موجود موجود. وأما الموت والحياة فمقولتان للوجود. وهما مقولتان زمنيتان: فالحياة حضور، والموت غياب. والحضور والغياب مرتبطان بالزمان.
الوجود الإنساني إذن لا يعتريه العدمُ بل الغياب فقط. وهو وجود زماني متناهٍ. فنحن نولد ونموت في فترة زمنية بسيطة. هذه حصيلة “حضورنا” على قيد الحياة. يولد الإنسانُ وهو “يعرف” أن ثمة مستقبلاً أمامه يتيح له تحقيقَ ذاته وتدرّجَها نحو الكمال الممكن. الإنسان يوجد “واعياً” بأنه “قادرٌ” على أن يكون أفضلَ. فالطفل يدرك ضعفَه ونقصه. وهكذا يسعى نحو تجاوز النقص، وتستمر إرادة الكمال ترافق الإنسان في كل فترات عمره. فإذا أنجز شيئاً بحث عن شيء آخر يكمّل به وجودَه وحياته القصيرة على وجه الأرض.
الفقرة السابقة تساعدنا على استنباط أهم مقولات الفكر الأنطولوجي:
١- الوجود: فالإنسان يوجد، والوجود واجبٌ وهو خيرٌ مما سواه (العدم؟!). فلا مفر من الوجود.
٢- الوعي: وجود الإنسان واعٍ. وهو ما يميزه عن الحيوانات التي لا تعي أنها موجودة. فالإنسان يعي أنه موجودٌ وأن وجودَه متناهٍ (متجه نحو الموت كما يقول هايدجر). وهذه المسيرة من الولادة إلى الموت مسيرةُ تقدمٍ نحو الكمال. لكنه كمال ممكن، أي كمال ملائم لتناهي الإنسان، فالموت يقف له بالمرصاد. ومعرفة الإنسان بكل هذه الحقائق نعبر عنها بمقولة الوعي.
٣- الحرية: الإنسان يعي نقصه وضعفه ويحاول أن يكمّل نفسه من خلال إدراكه لـ”قدرته” و”حريته”. إنه يعرف من خلال ممارسته لوجوده أنه كائن حر، أي مقبلٌ على إمكانات يمكن من خلالها أن يكمّل نفسه. فالمراهق مثلا يدرك أنه لكي يكون رجلاً فلا بد أن يكون قادراً وحراً على تكوين نفسه. ولو أعيقت حريته بعائقٍ ما فإن وجودَه يتوقف (رغم أنه يعيش ويأكل ويشرب)… يصبح كالحيوان الذي ينتظر طعامه كل يوم. من ثم فالحرية ملازمة بشكل جوهري للوجود الإنساني.
الوجود الإنساني الكلي ينهض على ثلاث مقولات: الوجود والوعي والحرية. وحتى تعريف أرسطو الكلاسيكي (“الإنسان حيوان عاقل”) يحقق المقولتين الأوليين، ويمكن أن نوسّعه بالقول (“الإنسان حيوان عاقل حر”). وكل إنسان افتقر إلى الوعي أو الحرية فوجوده منقوصٌ (ولا يلزم عن ذلك طبعاً أي تمييز أخلاقي أو قانوني).
مشروع مستقبليّ لأخلاق كلية:
تأسيس الفلسفة الأخلاقية بالمعنى الصحيح يجب أن ينطلق من المقولات الثلاث عبر المنهج النومينولوجي. هذا المنهج طريقةٌ من خلالها نستطيع أن نستنبط مقولاتٍ أساسيةً خارج حدود الوعي الفينومينولوجي. الفينومينولوجيا كما وضع أصولها إدموند هوسرل تصف الوعي وهو يستبطن الظواهرَ ويمنحها دلالاتٍ ليست قائمة في الأشياء ذاتها. فعندما أنظر إلى تلك الشجرة القابعة أمام منزلنا القديم فإني أراها ليس بذاتها كشجرة مستقلة عني (أي كشيء في ذاته= نومين) وإنما أراها وقد أضَفتُ لها معاني ودلالاتٍ ليست فيها بذاتها: كونها الشجرة التي كنت ألعب تحتها وقت الطفولة، والشجرة التي غرسها أبي، وهكذا. أما وصف الشجرة في ذاتها، أي كنومين، فمهمة يقوم بها المنهج النومينولوجي. وهو منهج ضروري لتجاوز النسبوية الأخلاقية والثقافية التي أشاعها الفكر العدمي والما بعد حداثي. فـ(العودة إلى الأشياء-في-ذاتها) هو شعار المنهج. وهو يختلف عن شعار الفينومينولوجيا الذي يعود للأشياء كما تظهر للوعي البشري المحمّل بالدلالات والمشاعر الفائضة.
من خلال مقولة الوجود يمكن لنا استنباط مقولة أخلاقية أولى، وهي الحق في الحياة. ومن الحق في الحياة نستنبط مقولات فرعية أخرى، كالحق في طلب السعادة والحق في تحقيق وكمال الذات.
ومن خلال مقولة الوعي نستنبط مقولة أخلاقية ثانية، وهي الحق في المعرفة. وهذه مقولة تم تهميشها طويلاً في فلسفة الحقوق والأخلاق. فالحق في المعرفة ليست ترفاً، ويدخل ضمنه “الحق في التعليم”. فلكي يحقق المرء وجوده ويبلغ الكمال الذي ينشد ويطور وعيه الذي يخطط له مسيرته، فلا بد أن يحوز على أكبر قدر متاح من المعرفة، وكلُّ حجبٍ للمعلومات يعد انتهاكاً لحق أخلاقي أصيل. ولعلنا هنا نستأنس بأطروحة سقراط الشهيرة “الجهل هو مصدر الشر” وبالتالي العلم مصدر الخير. فكل معرفة صحيحة هي حق لكل إنسان.
وأخيراً نستنبط من مقولة الحرية جميع الحقوق المعروفة المتعلقة بالحريات السياسية والاجتماعية، كالحق في التعبير والاعتقاد والعمل ونحو ذلك.
هذا المخطط الاستنباطي قابل للتفصيل الدقيق والسير من المقولات الأنطولوجية الثلاث إلى المقولات الأخلاقية اللازمة عنها، وهكذا، حتى يمكن لنا أن نؤسس للأخلاق بشكل عقلي صحيح.