تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
يكثر الحديث في الفلسفة الأكاديمية حول الحاجة إلى فتح المجال لما يُسمَّى بالتقاليد ووجهات النظر غير الغربية، من خلال إجراء التغييرات في كلٍ من المناهج الدراسية وداخل التركيبة الديمغرافية للعاملين في أقسام الفلسفة نفسهم على حدٍ سواء. يُنظر إلى هذين الجانبين على أنهما مترابطان، إذ يُعتقد أن التمثيل الأكبر للفلسفة غير الغربية سيساعد على تحقيق تنوع أكبر بين النساء والرجال الذين يشكلون المجتمع الفلسفي.
أسمع في كثيرٍ من الأحيان عندما أُدرِّس الفلسفة الهندية الكلاسيكية أو أدعو إلى تدريسها على سبيل المثال ردًا بأن إجراء ذلك يوفر خدمة لمجتمع الجامعة والهيئة الطلابية، بقدر ما يعزز تنوع منهج الفلسفة ويجعله ممثلاً لجزءٍ أكبر من الهيئة الطلابية. لكن ما أدرِّسه عبارة عن موضوعات مثل النظريات الهندية للاستدلال المنطقي في القرن الخامس أو مفهوم الذرية النوعية في البوذية الكلاسيكية، وهي مادة غامضة بما يكفي بحيث لا ينبغي أن نتوقع في البداية من أي طالب، من أي خلفية، أن يجد نفسه فيها.
فشل الهدف المتمثل في عكس تنوع مجتمعنا من خلال توسيع المنهج الدراسي ليشمل التقاليد غير الأوروبية حتى هذه اللحظة فشلاً ذريعًا. وقد حدث ذلك لسببيْن على الأقل. أحدهما هو أن الفلسفة غير الغربية لا تُمثَّل عادةً في مناهج الفلسفة عندنا إلا تمثيلاً رمزيًا. فالفلسفة الغربية هي دائماً الفئة غير المُحدَّدة، هي المعيار الذي تحقق الفلسفة غير الغربية تباينًا مفيدًا وفقًا له. إن الفلسفة غير الغربية لا تُعامَل وفقًا لشروطها الخاصة وبالتالي تظل، ضمنيًا وافتراضيًا، غربية. السبب الثاني هو التعامل مع الفلسفة غير الغربية، عند ظهورها في المناهج الدراسية، بطريقة غير سليمة من الناحية المنهجية والفلسفية؛ إذ من المفترض أن تكون الفلسفة أصلية تمامًا في تمثيلها للثقافات التي تنتجها، وأن تكون مختلفة اختلافًا جوهريًا عن الفلسفة الغربية في مجالات مثل تقييم العقل، أو اعتمادها على الأسطورة والدين. تظل الفلسفة غير الغربية، بهذه الطريقة، في أساسها “فلسفةً أخرى”.
تتمثل إحدى الطرق الجيدة للبدء في تصحيح هذه المشكلة في التوقف عن وصف الفلسفة بكونها “غير غربية”. لكن بدلاً من ذلك يُحسَن أن نحدد بوضوح المنطقة الجغرافية أو التقاليد التي نناقشها: الشيفية الكشميرية[1]، على سبيل المثال، أو منطق الموهية الصينية[2]، تمامًا كما قد نتحدث عن المدرسة الفلسفية الأرسطية الألمانية أو البراغماتية الأمريكية، عادةً دون عناء الإشارة إلى كونهما “غربيتيْن”. تخيل، على سبيل المقارنة، الجرأة الصريحة التي قد نُدين بها الحقل الفرعي الأكاديمي للتاريخ الزراعي إذا خُصِّص 95 في المئة من جميع الأبحاث في هذا المجال لتقنيات الري في جنوب شرق آسيا، بينما كانت نسبة الـ 5 في المائة هي ما تبقى لدراسة “تقنيات الري خارج جنوب شرق آسيا”. يبدو هذا سخيفًا وهو كذلك، لكنه في الحقيقة ليس أكثر سخافة من التزام أقلية صغيرة من الباحثين الذين يعملون في الفلسفة الهندية أو الصينية على سبيل المثال، بتقديم أبحاثهم على أنها تتعلق “بالفلسفة غير الغربية” لسبب بسيط هو أنها لم تأتِ من شمال غرب أوراسيا[3].
ثمة نهج بديل لتاريخ الفلسفة – نهج يأخذ هدف الانفتاح على المجال على محمل الجد – من شأنه أن يعامل الفلسفة الغربية وغير الغربية على أنها انعكاسات إقليمية لظاهرة عالمية.
عندما نقول “الغرب” فإننا نعني عادةً أوروبا، ويُضاف إليها امتدادها الأخير إلى أمريكا الشمالية. تعني أوروبا بالمعنى الحرفي للكلمة شبه جزيرة أوراسيا، ويمكن مقارنتها تقريبًا بشبه القارة الهندية فيما يتعلق بالحجم والتنوع الثقافي والعصور الحضارية. لقد حدثت أشياء مهمة مُعيَّنة في أوروبا قبل أن تحدث في أي مكان آخر، مثل التصنيع؛ بينما ظهرت أشياء مهمة أخرى لأول مرة خارج أوروبا، مثل “الحرف المتحرك”[4] في الطباعة. يصعب للغاية في أيامنا أن نأتي بتعريف “للفلسفة”، ولكن إذا فكرنا فيها على نطاقٍ واسع باعتبارها انعكاسًا منهجيًا لطبيعة الواقع، ولمكانة البشرية في هذا الواقع، فمن الواضح أن أوروبا لا تستطيع أن تدعي بشكلٍ خاص أنها موطن الفلسفة.
ما تدعيه أوروبا هو تقليد مُعيَّن يعود إلى العصور القديمة في اليونان. ولكن حتى هذا الادعاء هو موضع تساؤل. إن “المعجزة اليونانية” في النهاية، ليست سوى مجرد قطعة أثرية تاريخية، نتيجة لعادتنا في بدء التاريخ من الوقت والمكان اللذيْن نبدأ منهما، لأن التأثير من الحضارات المجاورة كان موجودًا على الدوام. ولكن مهما كانت تعقيدات العالم الذي كتب فيه أفلاطون، فمن الصحيح على الأقل أن التقليد اللاحق الذي سيُطلق عليه اسم “غربي” أو “أوروبي”، بالتأكيد مع منعطفٍ طويل عبر أسبانيا الإسلامية، وشمال أفريقيا، وبلاد الفُرس، ووسط آسيا كان التقليد اليوناني بالتأكيد ليتلاشى من دونه، يشكِّل حقًا – كما قال ألفريد نورث وايتهيد – “سلسلة من الهوامش لأفلاطون”. السبب الوحيد، من هذا المنظور، لاعتماد الفلسفة الأوروبية باعتبارها تقليدًا افتراضيًا لمناهجنا هو أنها تصادف أن تكون هي تقليدنا، لأسبابٍ تاريخية طارئة.
تطوَّرت كل مادة تقريبًا تُدرَّس في الجامعات الغربية إلى حدٍ كبير من التقليد الفكري الغربي، ومع ذلك فإن هذا الإرث لم يمنع أي تخصص آخر غير الفلسفة من التطلع إلى منظور موضوعي وعالمي، وأجرؤ على القول، إنه تطلع إلى منظور علمي حول موضوع دراسته، بعيدًا عن فكرة أن المثيل الأوروبي له يتميز بشيءٍ خاص في تاريخ البشرية.
يرتبط الآن جزء كبير من صعوبة التفكير في الفلسفة الغربية كتقليدٍ من بين تقاليدٍ أخرى بحقيقة أن العديد من ممارسيها، إن لم يكن معظمهم، يرفضون فكرة أن ما يفعلونه مرتبط أساسًا بماضي هذا التقليد. فهم يتصورون الفلسفة على غرار العلوم التي تتمتع حقًا بحرية تجاهل النظريات المُدحَضة منذ زمنٍ بعيد، وبالتالي تتجاهل ليس فحسب الصين القديمة على سبيل المثال بل وأوروبا الحديثة المبكرة أيضًا. يبدو تاريخ الفلسفة الصينية القديمة، في هذا الصدد، هامشيًا بشكلٍ مضاعف، ليس بسبب المركزية الأوروبية فحسب، ولكن أيضًا بسبب الحاضريّة، وعدم الاهتمام بالتاريخ بشكلٍ عام. ينبع هذا من أن الفلسفة التي تصوغ نفسها على غرار العلوم، تعتقد أنها أقرب إلى الحقيقة مما كانت عليه في الماضي، وأنه إذا كانت إحدى النظريات غير صحيحة، فلا يوجد أسباب لإهدار الوقت عليها.
لن أجادل ضد وجهة النظر الفلسفية هذه هنا. لكنني سأشير إلى أنها تجعل الوضع الحالي للفلسفة، عند النظر إليه من منظور عالمي، صعب الفهم إلى حدٍ ما. يتحدث الباحثون الصينيون والأمريكيون المتخصصون في مادة “البوليمر”[5] نفس اللغة تمامًا عند يجرون عملهم، ولم يكن هناك أي خطر على الإطلاق من أن تطوير عبد القدير خان للبرنامج النووي الباكستاني سيتباطأ بسبب الاختلافات الثقافية في فهم تخصيب اليورانيوم. لكن من الواضح أننا أمام قصة مختلفة فيما يتعلق بالفلسفة.
ترتبط، في العالم النامي على وجه الخصوص، نسخة الفلسفة المطروحة – سواء كانت فرنسية أو أنجلو أمريكية بطابعها، أو محلية بالكامل – بعلاقة كبيرة مع مشروع الدولة الأوسع لبناء الهوية الوطنية. إذ تُعطى الأولوية للفلسفة الإسلامية في إيران. ولم يكن هناك في تركيا، على الأقل حتى وقتٍ قريب، أي ذكر للتقاليد المحلية أو الإقليمية في منهج الفلسفة بالجامعة، إنما كان هناك تفانٍ مطلق لرؤية الفلسفة التي تهتم أساسًا بتحليل اللغة ومنهجية العلوم. لا يمكنني أن أقول الآن – أو على الأقل لست مستعدًا لأن أقول – إن إيران تفعل أشياء خاطئة، كما يمكن أن أقول في حالة تدريسهم للكيمياء الإسلامية في العصور الوسطى في أقسام الكيمياء الخاصة بهم. والفرق هو أن الفلسفة ليست مثل العلم؛ إنها ملفوفة على نحوٍ أكثر تعقيدًا بالموروثات الثقافية (جادل البعض بأن العلم مجرد ممارسة ثقافية أخرى أيضًا، لكنني لست مستعدًا لأن أقول ذلك أيضًا). ويكمن أكبر قدر من صعوبة اتخاذ نهج صارم وجاد لتدريس الفلسفة غير الغربية ودراستها في أقسام الفلسفة الغربية في أن العديد من الفلاسفة يظلون مرتبطين بالمبدأ الإيماني بأن الفلسفة شيء مستقل عن الثقافة.
كتب غوتفريد لايبنتز في أوائل القرن الثامن عشر عن المسار المستقبلي للعلاقات الصينية الأوروبية، وتوقع على نحوٍ مثير للإعجاب أن “تجارة الضوء”، أي الاستنارة أو المعرفة، ستقف دائماً وراء تبادل السلع. وكشفت السنوات الألفين الماضية، بالفعل، عن تطابقٍ وثيق نوعًا ما بين المراكز العالمية للنشاط الاقتصادي ومراكز الإنتاج الفكري. وما يدل على ذلك بشكلٍ أكثر هو أن أوروبا لا تصبح المركز الرئيسي للنشاط الفلسفي والعلمي إلا فيما يتعلق بالسيطرة على الاقتصاد العالمي من خلال غزو العالم الجديد، وما ترتب على ذلك من تحول في المركز الاقتصادي للعالم من آسيا إلى أوروبا.
ليس سراً أن المركز يتحوَّل مرة أخرى، وهذه المرة نحو المحيط الهادئ. وسيسهِّل شيءٌ من استحضار المنظور التاريخي من رؤية أنه سيكون هناك عواقب لهذا التحول على فهمنا لماهية الفلسفة، ومَن سيحدد مجموعة الأسئلة التي تُعنى بها.
يمتلك الغرب تقليدًا فلسفيًا ثريًا للغاية – واحد من أثري تقليديْن أو ثلاثة – وهو تقليد جدير بشكلٍ كبير بالحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال القادمة. لكن ثراؤه كان دائمًا نتيجة لمكانته كنقطة التقاء في شبكة عالمية تتدفق دائمًا من خلالها الأفكار والأشياء. كان هذا صحيحًا في عام 500 قبل الميلاد، ولا يقل صحة اليوم. هذا الترابط،بالإضافة إلى ذلك وعلى نحوٍ متزايد، هو شيء لا يهم فحسب جامع التوافه الأثرية الذي لا يطيق الانتظار لإخبارك من أين أتت ماكينة الطباعة حقًا، بل سرعان ما يصبح هذا الترابط هو الحقيقة المُحدِّدة لواقعنا الجغرافي السياسي. ستظهر الفلسفة الأكاديمية الغربية على الأرجح في هذا الواقع ضيقة الأفق تمامًا في السنوات القادمة إذا لم تجد طريقة للتعامل مع التقاليد غير الغربية بنهجٍ أكثر دقة واحترامًا من الحضور الرمزي السائد في الوقت الحالي.
[1] واحدة من الطرائق الأساسية ضمن الهندوسية التي تبجل شيفا باعتباره الإله الأعلى.
[2] نسبة للحكيم مو الذي أسس مدرسة فلسفية أخلاقية ازدهرت تعاليمها في الصين القديمة ما بين (479 – 221) قبل الميلاد.
[3] اسم قديم يشمل قارتي أوروبا وآسيا. وتنقسم إلى أوراسيا الشرقية والغربية.
[4] الحرف المتحرك هو نظام وتقنية للطباعة وفن صياغة الحروف الذي يستخدم أجزاءً متحركة لإعادة إنتاج عناصر المستند، ويُطبع على الورق.
وكانت أول تقنية طباعة للحرف المتحرك في الكتب الورقية المصنوعة من البورسلان. اخترعت نحو عام 1040 ميلادية في الصين.
[5] البوليمر: مادة لها بنية جزيئية تتكون أساساً أو كلياً من عدد كبير من الوحدات المتشابهة المرتبطة ببعضها البعض، على سبيل المثال، العديد من المواد العضوية الاصطناعية المستخدمة كبلاستيك أو راتنجات.
الكاتب: جاستن إي. إتش سميث يُدرِّس الفلسفة في جامعة كونكورديا في مونتريال. وأحدث كتبه هو “الآلات الإلهية: لايبنتز وعلوم الحياة.”وهو محرر مساهم في مجلة كابينيت، ويكتب بانتظام في مدوَّنته.
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
Philosophy’s Western Bias
Justin E. H. Smith
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”