محمد بن ماضي
” مشكلة الأغبياء هي أنهم واثقون من أنفسهم بشكلٍ مفرط، في حين أن الأذكياء مليؤون بالشكوك.”
برتراند راسل ـ مقال انتصار الغباء
تعد الثقة بالنفس أمراً ضرورياً، وقيمة لا غنى عنها؛ في تحقيق السعادة والنجاح في مختلف جوانب الحياة. لذلك نجد الدعوات للتحلّي بها تتواتر؛ سواء كانت من قبل المختصين في الشأن النفسي لعملائهم، أو من قبل الوالدين لأبنائهم، أو من المعلمين لطلابهم. بل تجد هذه الدعوة حتى من قبل أولئك الذين لا يتحلون بها عندما يلمسون على غيرهم التردد أو الارتباك.
وعند محاولة تأمل هذه العبارة من منظور فلسفي؛ نجد أننا مباشرة أمام مشكلتين فلسفيتين لا مشكلة واحدة، وهما مشكلتان قديمتان وكبيرتان على المستوى المديد لتاريخ الفلسفة. فأما المشكلة الأولى فهي مشكلة الثقة التي هي عنصر أساسي في عملية المعرفة الإنسانية، أي أننا عند مناقشة هذه المشكلة نكون بإزاء ما يصنف في تاريخ الفلسفة على أنه أحد الفروع الرئيسة الأربعة للفلسفة. فالفلسفة بعد إن ابتدأت أول بحوثها في القرن السادس قبل الميلاد على يد الفلاسفة الأيونيين بالنقاش حول أصل الوجود، وهو نقاش تم تصنيفه ضمن مبحث الوجود ” الأنطولوجيا”، انتقلت مع سقراط وتلامذته للنقاش في المباحث الثلاثة المتبقية، وهي مباحث الأخلاق والمعرفة والقيم.
نقاش مشكلة الثقة إذن يدخل ضمن مبحث المعرفة أو الأبستمولوجيا؛ فأن يثق إنسان في معرفته فهو بالضرورة قد وثق من مصدر هذه المعرفة، وهكذا نجد أنفسنا أمام السؤال عن مصادر المعرفة الإنسانية، وهو السؤال المحوري في نظرية المعرفة، الذي قسّم الفلسفة إلى عدة مذاهب، كل مذهب وجد طمأنينته في مصدر معين، مع تفاوت في درجة هذه الطمأنينة، ذلك أن هناك من ذهب إلى أن المعرفة المطلقة متعذرة مثل السفسطائيين ؛وأتباع مدرسة بيرو الإيليسي، وهناك من اطمأن للعقل وهم من يعرفون بالعقلانيين، وهناك من اطمأن للحس وهم أنصار المذهب التجريبي، ثم ظهرت مذاهب جديدة حاولت التوفيق بين هذين المذهبين، كالمذهب الظاهري، والمذهب الظاهراتي “الفينومينولوجي”. كما أن هناك المذهب البراغماتي. كما يمكن إضافة مذهب قديم هو الوحي أو المعرفة الوحيانية، وهي المعرفة الآتية من مصدر إلهي من خلال الأنبياء والرسل، وكذلك هناك المعارف التي مصدرها سلطة ما كسلطة الوالدين أو المؤسسة التعليمية وكل أشكال السلطة المتعددة، وغير ذلك من نظريات المعرفة الأخرى. على أن نقاش موضوع الثقة في ارتباطها بالنفس سوف يحدد نقاشنا لها في حدود المعرفة الذاتية مع الانفتاح على كل معرفة من شأنها أن تعرفنا على أنفسنا بشكل أفضل.
إذا كان نقاش مشكلة الثقة وضعنا مباشرة في صلب مبحث نظرية المعرفة، فإن نقاش مشكلة النفس سوف يدفعنا لمطاردة مفهومٍ للنفس يمكن أن نجده مُختلف بين عدة فروع من الفلسفة. وهذا ما سوف يحمّل هذا المقال فوق طاقته، وما سوف يبعدنا عن صلب موضوع الثقة بالنفس. بينما يمكن إصابة هدفنا بدقة عندما يتوجه نقاشنا لمفهوم الشخصية، فهذا المفهوم يشمل الجانب الفكري والمادي للإنسان، بينما مفهوم النفس يقتصر في كثير من معانيه على الجانب الفكري الروحي الباطني للإنسان في أغلب الفلسفات.
شخصية الإنسان هي كيان معقد يتضمن مزيجاً من السمات النفسية والجسدية والاجتماعية التي تميز الفرد وتحدد كيفية تفكيره وسلوكه وتفاعله مع العالم من حوله. وهذا الكيان ليس ثابتاً بل إنه ينمو ويتطور، وكذلك هو قابل للانكماش والتراجع في بعض حالات الشيخوخة. فالإنسان يولد ضعيفاً في بدنه ووعيه على حد السواء، لذلك يمضي فترته المبكرة معتمداً بالكلية على الأخرين في العناية به – وربما كذلك فترته الأخيرة-، ثم يأخذ بالنمو المادي، والوعي والتّعلم شيئاً فشيئاً حتى يصل لقمة عنفوانه الجسدي والعقلي، ثم يبدأ العنفوان الجسدي بالتراجع شيئاً فشيئاً كذلك – حاله في ذلك حال الظل الذي تخلقه الشمس للأشياء- في تكونه وذروته ثم في تقلصه حد التلاشِ. في بعض الحالات يرافق التراجع الجسدي تراجع عقلي كذلك كما في حالات الزهايمر والخرف، وفي حالات أخرى يستمر العقل في نموه وتطوره متحدّياً التدهور الذي يطال الجسد، بينما في حالاتٍ يبدأ بالتراجع والجسد لا زال باقياً على مستوى عالٍ من القوة.
ثقة الإنسان بنفسه تعني إذن ثقته في شخصيته المركبة تلك، ثقته بجسده وبشكله، وثقته بأفكاره ومعتقداته وآرائه؛ مما يتيح له الانطلاق في الحياة بتلقائية أكثر، والتعبير عن نفسه بمختلف أشكال التعبير. وعندما تبلغ هذه الثقة درجة من الإفراط يتعذر معها إعادة النظر بها بين الحين والآخر، فإنها تتحول إلى غرور وتعصّب. والغرور هو الشعور المبالغ فيه بالثقة بشكل يتجاوز الواقع الحقيقي، وغالبًا ما يترافق معه التقليل من الآخرين وما لديهم من مكتسبات وميزات ومعارف. وهذا كافٍ لأن يفوت المغرور على نفسه فرصة النمو والتطوير والتحسين والتوّسع المعرفي؛ يقول الشاعر العباسي أبو نواس:
وقُل لمن يدّعي في العلم فلسفة.. حفظت شيئاً وغابت عنك أشيا
اليقين أو الثقة وجهة؛ وجهة ليس الوصول إليها متيقناً؛ ذلك أن ” الخطأ صفة بشرية. والمعرفة البشرية كلها ليست معصومة من الخطأ، وهي إذن محل شك. ومن ثم فلابد أن نميز بوضوح بين الحقيقة واليقين. إن كون الخطأ صفة بشرية لا يعني فقط أن علينا أن نكافح دوماً ضد الخطأ. وإنما يعني أيضاً أننا لا يمكن أن نتأكد تماماً من أننا لم نخطئ، حتى لو كنّا قد اتخذنا أقصى قد من الحذر”. ( كارل بوبر 1999).
قد يحالفنا الحظ ونظن أننا قد وصلنا إليها كما ظنّ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عن طريق الشك المنهجي الذي اصطنعه لنفسه، وقد نخطئها بكثرة ضربنا في الدروب دون خطة واضحة. وعندما أقول اليقين وجهة، فإنني أعني أننا لا بد أن نتوجه صوبها، وهذا يعني بدوره اختيار وسيلة لذلك، واختيار الوسيلة يعني اختيار المنهج الموثوق. وهكذا نعود مرة أخرى للسؤال عن الثقة قبل أن نبدأ رحلتنا تلك. فما هي الوسيلة الأكثر موثوقية لتحصيل معرفة بأنفسنا يمكن الوثوق بها إلى درجة مقبولة؟ هل سنجد هذه المعرفة من مطالعة المرايا والتأمل في انعكاسنا عليها؟ أم سوف نتلّقى هذه المعرفة من جهة ما خارجنا؟ أم أن قوانا العقلية التأملية كافية لبلوغ هذه المعرفة؟ أم أننا سوف نبلغ هذه المعرفة باصطناع منهج منفتح على كل ذلك؟
أن نرتدّ لذواتنا وننصت لها في سبيل التّعرف عليها هو المهمة التي تحثنا عليها الفلسفة العقلانية. ولكن، ألا يمكن أن يكون لدينا شيء من القصور الفكري؟ ذلك القصور الذي يجعلنا نعتقد في أنفسنا ما ليس فيها حقيقة؟ ذلك القصور الذي يخلق لدينا من طواحين الهواء فرسانًا ومحاربين، ويجعل من دون كيخوت المجالد الذي عليه إرداءهم قتلى؟ وجود احتمالية القصور تلك يجعلنا أمام فكرة تقبل وجود منهج منفتح يساعدنا على الإنصات لما يأتي من خارجنا مثلما ننصت لذواتنا، منهج يساعدنا على مراجعة قناعتنا وعلى التأمل فيها من جديد، وعلى تصحيحها وتقويمها إذا لزم الأمر.
وجود مثل هذا المنهج الذي يشكل الشك مبدأه هو الدرس الذي تحثنا الفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة بالذات على تعلمه، وضرورة تعلم هذا الدرس حتّمه ما عانته البشرية من الويلات التي شهدها العالم بسبب حربيين كونيتين، وحروب متعددة لمواجهة الإرهاب بكل أشكاله، حروب كان للتعصّب والغطرسة دور رئيسي فيها، وهي حروب لم ينتصر فيها إلا ” الغباء” بحسب وصف برتراند راسل. وحتّمه كذلك اتساع المعرفة الإنسانية وتخصصها ودقتها، هذا الاتساع الذي جعل من إمكانية الإحاطة ولو بشطرٍ منها إمكانية ضعيفة، لذلك وجب علينا أن نتواضع، وأن نخفف من غلونا في الثقة بما لدينا، وأن نرهف سمعنا وفكرنا لما يحدث من تطور في المعرفة الإنسانية في كل مكان، دون أن يشعرنا ذلك بالدونية، فذلك قدر كل البشر الآن بما في ذلك الأذكياء.
لا؛ ليس الأغبياء وحدهم من يثقون بأنفسهم كما ذهب لذلك الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل وإن كان في وصفه لهذه الثقة لديهم بالإسراف ما يجعلني أتفق معه. ذلك أن كثيراً من العباقرة والأذكياء يتمتعون بهذه الثقة كذلك – ومن ضمن هؤلاء العباقرة والأذكياء رَسل نفسه – إلا أن ثقة الأذكياء بأنفسهم ليست مفرطة، وهذا ما يتيح لهم فرصة المراجعة والتراجع والتصحيح فيما يتعلق بأفكارهم، الشيء الذي يساعد في نموهم وتطورهم بشكل ظاهر أكثر من أولئك الذين يتكلسون ويتوقفون عن النمو بسبب افراطهم في الثقة بأنفسهم، وبمكتسباتهم المعرفية. فلو أن هؤلاء العباقرة لم يتمتعوا بالثقة اللازمة لما ألّفوا الكتب، وصاغوا النظريات، ولما استطاعوا أن يدافعوا عن أفكارهم، وأن يبرروها ويبرهنوا عليها.
يقول الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانط إنه استيقظ من سباته الاعتقادي بعد قراءته لكتاب “بحث في الفهم الإنساني” الذي ألفه الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم. في هذا الكتاب، انتقد هيوم مبدأ رئيسياً من مبادئ العقل، وهو مبدأ السببية، مما جعل كانط يتجه نحو الفلسفة النقدية. وقد عمق كانط هذه الفلسفة من خلال ثلاثيته النقدية المشهورة، التي اتجه فيها إلى الموائمة بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي في المعرفة.
ولكن؛ هل استمر كانط على هذه اليقظة؟ يجيبنا الفيلسوف المصري أحمد فؤاد الأهواني قائلاً: ” وإذا كان حقاً أن كانط أفاق من سُبات الاعتقادات، إلا أنه عاد إلى نوم عميق، فصاغ فلسفته في أثواب “دوجماطيقية” لا تحل المشكلات الفلسفية حلّاً معقولاً مقبولاً، ولا تصلح المسلمات التي فرضها فرضاً، بقوله تارةً إنها موجودة بالفطرة أو قبل التجربة، كالقول بالزمان والمكان، وتارةً أخرى بأنها مسلمات لا غنى عنها لفهم الحياة العملية الخلقية؛ مثل فكرة الله والحرية وخلود النفس. لا تصلح هذه المسلّمات إلا كما قال هيوم: ” ستاراً للخطل والخطأ””. (أحمد الأهواني :2023). إذن عاد كانط لسباته؛ إلا أني أكاد أجزم بأنه سوف يستيقظ مرة أخرى لو أنه وجد هيوماً آخر. فقد أثبت بيقظته الأولى أنه منفتح على ما لدى أقرانه من أفكار، وأن تلك الأفكار قادرة على أن تدفعه لتفحص أفكاره وتغيرها إن لزم الأمر.
كذلك؛ لعلّ من أبرز الأمثلة على موضوع الثقة التي يتمتع بها الأذكياء هي ثقة الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين عندما اعتقد أنه بتأليف كتابه الأول “رسالة منطقية فلسفية” استطاع حل كل المشكلات الفلسفية المتعلقة بالقضايا المنطقية وما تعبر عنه في الواقع، حيث صاغ في كتابه هذا ما بات يعرف في الأوساط الفلسفية بالوظيفة التصويرية للغة؛ حيث ذهب فيه إلى أن اللغة تصور العالم الواقعي، فقد رأى أن الاسم في أي قضية يمثل الشيء الذي يسميه، وأن العلاقة بينهما هي “علاقة واحد بواحد، وهذا الجواب أصبح يعرف باسم نظرية الصورة في المعنى” (صلاح إسماعيل 2014). بهذه النظرية توقف عن البحث الفلسفي، فقد اعتقد كما مر بنا أعلاه أنه حل كل المشكلات الفلسفية من خلال تأليفه للرسالة المنطقية الفلسفية.
إلا أن اجتماعه بأعضاء دائرة فيينا، والنقاش الذي تم في هذا الاجتماع حول ما توصل له في الرسالة من أفكار جعله يعيد النظر فيها “ويدرك أنها لم تحل المشكلات الرئيسية في الفلسفة تمامًا كما زعمت، وأنها تنطوي على بعض النقائض، ويلفها الغموض، وكان من نتيجة ذلك أن خطرت له أفكار جديدة تتعارض مع أفكاره الأولى تعارضًا شديدًا” (صلاح إسماعيل: 2014). وهذه الأفكار الجديدة هي موضوع كتابه الرئيسي الثاني “بحوث فلسفية” والذي لم ينشر في حياته، ذلك أن الموت عاجله قبل نشره، وتضمن هذا الكتاب نظرية جديدة للغة، وهي ما بات يعرف بنظرية الاستعمال في اللغة، عوضًا عن نظريته التصويرية الأولى. وفي هذه النظرية أصبح ” معنى اللفظ أو الاسم لم يعد محدداً بالطريقة الإشارية أو التصويرية التي عرفناها في “الرسالة” وإنما أصبح متوقفاً على السياقات أو ” الألعاب اللغوية” المختلفة التي يستخدم فيها بطريقة مفهومة في كل مرة. ولو كان المعنى الكلمة منفصلاً أو مستقلاً عن استخدامها لكانت ذات معنى موحد في كل السياقات والألعاب التي ترد فيها، ولكان للعبارة التي تذكر فيها- حتى لو استخدمت بطريقة خاطئة- معنى أيضاً”. (عبد الغفار مكاوي: 1989).
يمثل فيتغنشتاين -قبل اجتماعه مع أعضاء دائرة فيينا والمناقشة التي دارت بينهم حول الرسالة- ذلك النوع المفرط من الثقة بالنفس، إذ اعتقد أنه حلّ جميع مشكلات الفلسفة. إلا أن هذا الاجتماع وما دار فيه من نقاش أعاد له الاتزان المطلوب في موضوع الثقة، وجعله يراجع أفكاره وينقلب عليها. ومن يدري كيف كان من الممكن أن يؤول به الحال لو عاش عمرًا أطول، فلربما تطورت أفكاره وانقلبت على ما جاء في البحوث من أفكار. وكأني به قد اكتشف نتيجة هذا الاجتماع والمناقشة أن الثقة في الشك لا في شيء غيره.
من المهم أن يثق الإنسان في نفسه ليعيش حياة سعيدة وناجحة، ولكن من المهم كذلك ألا يُفرط في هذه الثقة، وأن ينفتح على كل ما يأتي من الخارج من نقد موجه له، وأن يتفحص هذا النقد كما يتفحص انعكاسه في المرآة؛ فيتراجع عما يجب التراجع عنه، ويحسّن ويطوّر ما يحتاج إلى تحسينٍ وتطوير. ويعلم أن هذا هو سلوك الأذكياء والفضلاء من الناس، بينما الأغبياء والحمقى ينغمسون في سكرة ثقة مفرطة بالنفس هي دائماً في غير محلها.
المراجع: