أما كيف يكون العالم(الوجود) فذلك سؤال لا يأبه له قط من هو أعلى من العالم والله لا يكشف عن نفسه في العالم
فتجنشتين/رسالة منطقية فلسفية
الفلسفة تقررت منذ بارمنيدس بوصفها بحثًا في الوجود، وهذا الأمر صار في نظري نوعًا من التمركز حول الحقيقة بوصفها تطابق وثبات، وسوف يأتي بيان ذلك عند الحديث عن المحبة والصداقة كأمثلة على هذا القرار الفلسفي “البحث في الوجود وطبيعته”. ليست المعضلة في أنه لم تُعتبر البحوث الأخلاقية في تلك الأزمان، ولم يصرف لها جهدًا، بل وصل إلينا نصوصًا عظيمة حول الأخلاق كمحاورة الجمهورية والقوانين لأفلاطون وكل محاوراته تقريبًا، وكتاب الأخلاق لنيقوماخوس لأرسطو حيث نجد في هذه المؤلفات بحوثاً دقيقة خاصةً عند أرسطو فيما يتعلق بالأخلاق، ولكن المعضلة كما ذكرنا تكمن في حَمل مبحث الأخلاق ومبحث الجمال أو الإستطيقا على مبحث الوجود كما تقرر بصيغته المكتملة مع بارميندس، لذلك صارت الفلسفة علمًا للوجود وماهيته، ومن ثم تغلغل هذا المفهوم للعلم أي علم الوجود وعلى أثره العلم الكلي إلى جميع حقول المعرفة قديمًا وحديثًا، فصار العلم لا يكون جزئيًا بالمرة وإنما كلي، مع الأخذ بالاعتبار أن حركة العلم الحديثة منذ بيكون والتجريبية الكلاسيكية حركت هذه المياه إلا أنها لم تتجاوز معضلة “الوجود” وهو قيد تنبه إليه فلاسفة ما بعد الحداثة كفوكو ودريدا وكذلك فلاسفة الآخرية مثل لفيناس وماريون الذي وجد في انفعال الحب سبيلًا نحو كسر الوجود.
لذلك يُعد هايدغر الاكتمال الفعلي لميتافزيقا الوجود وإن كان قد خرج من عقيدة الجوهر إلا أنه لم يخرج من مبحث الوجود فقال بأن الوجود انفتاح وليس جوهر وعرض، وكان لذلك يرفع عن الوجود كل ظواهر دخيلة عليه حتى يتجلى بنفسه كما أي الفينومينولوجيا “العودة للأشياء ذاتها” إلا أنه وفق نص الكينونة والزمان خرج بنتائج مهمة لهذا الرأي في الوجود ومنها تناهي الكائن الحي فهو “كينونة نحو الموت” ومن ثم يكون الوجود والزمان متناهيين، بذلك كان حليفًا لكانط في بعض الوجوه من جهة أنه بحث في شرط تجلي الحقيقة وأنسنة الحقيقة والتاريخ والوجود ذاته والشروط القبلية بالمعنى التاريخي للكلمة في تكشف الحقيقة وظهورها فكانت النتيجة المقاربة لكانط هي في نفي إمكانية وجود كائن أسمى من جهة أن الدازاين متناهي والكائن الأسمى لامتناهي، وذلك من مقدمة كبرى تقوم عليها الهايدغرية وهي ” الوجود متناهي في الزمان” .
وعليه نرى كيف أنه منذ بارميندس حتى هايدغر وإلى اليوم في الفلسفات التحليلية وبعض القارية ينال مبحث الوجود الأهمية القصوى، فأفلاطون قال بعالم “المُثل” وهو ذاته الوجود المطلق والوجود في ذاته، وكذلك قال أرسطو من بعده في الميتافزيقا ” والواقع أن السؤال الذي خرج منذ زمين بعيد لا يزال قائمًا وسوف يظل يربكنا وهو : ما الوجود ؟ وهو بعبارة أخرى : ما الجوهر؟” هذا النص المقتبس من كتابه الميتافزيقا يوضح أهمية سؤال الوجود وكيف أخذ مسمى جديد وهو “الجوهر” . لذلك أُعتبر مبحث الوجود هو الأصعب والأسمى للإنسانية، هكذا بين لنا أفلاطون في محاورة السفسطائي، ومن نصوص أرسطو، وكذلك فاتحة كتاب(الكينونة والزمان) حيث يقتبس هايدغر من السفسطائي عن أهمية سؤال الوجود وأنه “معركة عمالقة” السؤال الذي أطرحه هنا : لماذا صار سؤال الوجود بهذه الأهمية؟
أخذ مبحث الوجود هذه الأهمية من خلال مفهوم الحقيقة الذي تقرر منذ فجر الفلسفة، أي الحقيقة بوصفها تطابق صورة الشيء مع الذهن أو مع الخارج أي تطابق ما في الذهن مع الخارج، من هنا صار للحقيقة طريقين الاستقراء والاستنباط، وحدثت القسمة بين النظري والعملي، والكلي والجزئي وغير ذلك من الثنائيات. يهمني الحقيقة بمعنى التطابق الصوري أي كقضايا الرياضيات وبعض القضايا المنطقية والتي سيقسمها كانط وفق هذه الرؤية الميتافزيقية القديمة إلى قضية تحليلية وقضية تأليفية، فالأولى لا علاقة لها بالرجوع للواقع كقولنا “المادة ممتدة” بينما الثانية يلزم عنها رجوع للواقع كقولنا “المادة ثقيلة” فهذا المفهوم للحقيقة قاد إلى أمور عدة أي من خلال هذا المفهوم للحقيقة تم استنباط عدة قضايا تترتب عن هذا المفهوم، منها الوجود المحض أو الوجود في ذاته، ومن ذلك أن النفس أو الروح محل الحقيقة وليس الجسد، وعليه صارت الفضيلة أيضًا هي “سلوك النفس لمطابقة العقل” كما يقول أرسطو بحيث تصبح الفضيلة الحقة هي فضائل النفس لا البدن. وغير هذه من القضايا التي استنبطت كما قلنا من المقدمة الأساسية أي “الحقيقة بوصفها تطابق” وعليّ الآن أن أبين الخيط الذي قاد الفلسفة نحو مبحث الوجود المطلق، وهذا الخيط يكمن في أن الحقيقة حتى تتطابق مع شيء ما فهذا “الشيء” لن يكون ممكنًا للعلم بالمعنى الكليّ ما لم يكن “ثابت” ولأن الطبيعة متغيرة وغير ثابتة لزم أن يكون هناك شيء يتجاوز الطبيعة أو فوق الطبيعة يكون محل الثبات المطلق وهذا هو عالم “المُثل” عند أفلاطون والجوهر عند أرسطو. والوجود المطلق عند بارميندس، لنضرب مثالًا يوضح المقصود: يكون البحث الفلسفي النظري أي الميتافزيقا والمنطق والطبيعة عند الأقدمين تحديدًا وكذلك الرياضيات والهندسة سهلًا من جهة المبادئ المستنبطة بحيث يكون الحجاج نظريًا حول طبيعة الوجود ومبادئه، وتكمن هذه السهولة في كون الحقيقة هنا حجاج صوري لا يمكن دحضه بالتجربة فلو قلت١ + ١ = ٢ فهذه القضية عندما ترفع عن التجربة يصعب دحضها لأنها تزعم بدورها قانونًا هو بدوره صوري أي التناقض، حيث المدقق يُدرك بأنه لا تناقض حقيقي هنا بمعنى أنه تناقض صوري يأتي من صفات اعتبارية نضعها على الأعداد والأشكال الهندسية، وهكذا نرى مبحث الوجود يلوح في الأفق : فإن كانت الأعداد والقوانين العقلية لها “وجود” فما طبيعة وجودها؟ إنه لن يقر الكثير قبل ستيورات مل بأن الأعداد أصلها تجريبي بل يصرون على أنها ذات وجود غير حسي، ومن هنا نكشف مبحث الوجود وهو يتسلل للفلسفة كأمر بدهي، فأولًا أفترض الإنسان أن لكل شيء “وجود” . ثانيًا: تصور أن للوجود مراتب متفاوتة كالحسي والعقلي، وثالثا قال بأن الوجود ثابت. ومن ثم يتبين لنا منجهه أن مبحث الوجود نال هذا القبول من خلال مفهوم الحقيقة ذاتها، وكذلك من خلال الثبات الذي يضمن الحقيقة من التغير حتى جاء الحل الهيغلي في معادلة عجيبة : الثبات في التغير .
في مقابل هذه العلوم التي أتيت على ذكرها تصبح مباحث الأخلاق والجمال أقل رتبةً باليقين من هذه لماذا؟ السبب يكمن في أن معارف الجمال والأخلاق تؤخذ من التجربة والاستقراء ومن ثم حسب زعمهم ليس لها ثبات مبادئ العلم، وإن كان لها مبادئ كما قرر كانط وحتى أرسطو ليس قابلة للتطبيق بتمامها وخاصة الأخلاق لأن تمام الأخلاق عند كانط مثلًا أن يصبح الإنسان كالآلهة، ولا يخفى أن هذا التصور نابع عن فرضية “الوجود المحض” بمعنى أن المبادئ السامية حسب كانط هي التي لا تختلط بميل أو رغبة أو شهوة أي أن يكون الفعل خاليًا من أي صبغة تجريبية سيكولوجية وهذا واضح أنه عائد لإنطولوجيا الوجود التي سادت إلى اليوم، وعليه مفهوم الوجود ساد لأنه
لن اذكر كل النقاط ولن أناقش الأخيرة. يهمني هنا هو نقد مركزية مبحث “الوجود” وذلك حسب ما عرضنا أنه قائم في الأساس على فرضية غير مكتملة ونهائية وأعني مفهوم الحقيقة، وثانيًا أن مفهوم الوجود يقتضي الثبات وهذا الثبات ليس لهُ وجود في العالم، وثالثًا أن مفهوم الثبات والحقيقة التطابقية يلزم عنهما ثنائية روح/جسد وأن الجسد متغير وهالك ثم ليس هو محل الحقيقة والروح باقية فهي إذن محل الحقيقة فهذه ثلاث فرضيات مزعومة في هذا الفلسفات وغيرها وأعني
وعليه فليس مفهوم الوجود إلا فرضية يترتب عنها قضايا ميتافزيقية عدة لا يتنبه لها الكثير، وأعني الفلسفات التحليلية وكأنها معفية عن سؤال: طبيعة الوجود المنطقي؟ والتجريبية هي السبيل القوي للخروج من سؤال الوجود إلا أن تجريبية لوك وهيوم لم تخرج كثيرًا عن عقلانية ديكارت وغيره فهي تقيم وزنًا للأنا أفكر علمًا بأن الأنا المتعالية هي اللفظ المرادف للوجود المحض أو الوجود الحق لدى اليونان لذلك لم تتغير أرضية الفلسفة، وكذلك مباحث الأخلاق والجمال فهي في الحقيقة معركة عمالقة حول الحق إذ أنها معارف لا تستند على مبادئ مطلقة صورية وتحاكم الجزئيات وفقها لها بل تضيع في الجزئيات وليس من شرط تعدد الجزئيات أن ترتفع في النهاية للكليات ولا يلزم عن النفي الإثبات الخ. وهكذا تكون الفلسفة الطبيعانية بحق هي التي تنفي مقولة الوجود ولا تعتد إلا بالحدث/الطبيعة الفيزيائية، والحدث مقولة تعارض مقولة الوجود وتعني مجموع الأحداث الحاصلة في الزمان والمكان، وحتى فقط أبين فأن هيغل لم يخرج من مبحث الوجود حيث نجد أن الجدل عنده ينتهي بمبدأ الهُوية، وأن الوجود مراتب يبدأ بالحسي وينتهي بالوجود المطلق وهذا عين الفلسفات البارميندية. لذلك لا يكفي أن نردد مع خادمة فوكنر : رأيت البداية والنهاية. بل علينا أن نغير البداية والنهاية عندما تكتمل الرؤية.
هذه المقالة تريد نقد مفهوم أو مقولة “الوجود” والتي أخذت أشكالًا عدة عبر التاريخ، وفي نظري أن بداية العمل الفعلي للفلسفة هو الإقرار بأن الوجود ليس جوهرًا لاحسيًا مفارقًا أو حتى محايث الخ فالمهم هنا إخراج هذه المقولة من حقل الميتافزيقا أو الإنطولوجيا وحتى المنطق كونه أول مقولات أرسطو العشر أي الجوهر، فلو قلنا وجود بدلالة فيزيائية طبيعانية فلا مانع إلا أننا علينا أن نحذر من لوازم هذه المقولة. فلو حذفنا الجوهر من منطق أرسطو لما صار المنطق ممكنًا. فالمهمة الأن تكمن في اعادة ترتيب دلالات الكثير من الألفاظ وفق منظومة عصرنا الحاضر، ليس على شكل نسق ميتافزيقي كالسرديات الكبرى بل على شكل قصة أو حكاية وهو أمر مألوف حديثًا منذ ريكور وماكنتير وتايلر.