تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
تقدّم الأستاذة قرين محاضرة، ويحاضر أيضًا في آخر الممر منافسها الأستاذ براون. تُسِرُّ الأستاذة قرين في نفسها بحديث مطوّل عن مدى تفاهة أفكار الأستاذ براون؛ إذ ترى أنَّ براون يُقدّم محاضرته في القاعة ٣٣؛ لذا تكتب على السبورة لتأكيد فكرتها جملة واحدة:
“كل ما هو مكتوب على سبورة القاعة ٣٣ غير صحيح”.
ولكنَّ قرين ارتكبت خطأً هنا؛ فهي نفسها في القاعة ٣٣؛ لذا هل ما كتبته على السبورة صائب أم خاطئ؟ إن كانت الجملة التي كتبتها صائبة، فهي خاطئة؛ لأنَّ الجملة كُتبت على السبورة. وإن كانت خاطئة، فهي صحيحة؛ لأنها الجملة الوحيدة المكتوبة على السبورة. فهي صائبة وخاطئة في كلتا الحالتين.
يُحب الفلاسفة والمناطقةُ المفارقاتِ paradoxes، وهذه إحداها، إحدى النسخ العديدة لما يُسمى عادة مفارقة الكاذب the Liar Paradox التي اكتشفها الفيلسوف الإغريقي القديم أبوليدس الملطي Eubuildes (القرن الرابع قبل الميلاد).
المفارقات على ما يبدو حجج جيدة تؤدي إلى استخلاص يتجاوز الاعتقاد (للكلمة أصول إغريقية، فـ “para” تعني مفارق beyond، و “doxa” تعني اعتقاد belief). متى تجد مفارقة، فلديك خياران فقط: الأول: قبول صحة النتيجة في الواقع، وإن كان ظاهرها لا يقبل التصديق. والآخر: رفض النتيجة وتفسير الخطأ الحاصل في الحجة.
كلا الاستجابتين محتملة. هنا مفارقة أخرى لتمثيل الأولى، إذ يمكن جمع الأعداد الصحيحة بالأعداد الزوجية الصحيحة، بحيث يوضع واحدٌ مقابل الآخر، كما في المثال التالي:
يُظْهِرُ هذا المثال أنَّ هناك عدد مطابق تمامًا من الأعداد الزوجية والأعداد الصحيحة، ولكن يبدو هذا خطأ؛ إذ يبدو أنَّ الأعداد الزوجية لا تحتوي على كل الأعداد.
عُرفت هذه المفارقة في القرون الوسطى، وعُرفت عند غاليليو أيضًا؛ لذا دعونا نسميها مفارقة غاليليو. استخدمت هذه المفارقة حتى القرن التاسع عشر لإظهار أنَّ فكرة اللاتناهي برمتها لم تكن متماسكة، ولكن -مع نهاية ذلك القرن- أدى عمل الرياضي الألماني جورج كانتور Georg Cantor على اللاتناهي إلى إحدى أهم الثورات في تاريخ الرياضيات. كان من أساسيات تلك الثورة قبول وجود عددٍ متساوٍ من الأعداد الزوجية والأعداد الصحيحة. هذه تحديدًا طبيعة الكليات اللامتناهية infinite totalities، حيث يمكنك التخلص من بعض أفرادها، ويبقى معك العدد نفسه الذي بدأت به.
تتضح الاحتمالية الأخرى (تفسير الخطأ القائم في الحجة) من خلال مفارقة أخرى، فهذا زينو Zeno -وهو فيلسوف إغريقي قديم أيضًا أبدع قبل أبوليدس بقرابة قرن- أنتج عددًا من المفارقات المتعلقة بالحركة motion، وهنا إحداها التي تسمى عادة بمفارقة الانقسام Dichotomy. افترض أنَّ سيارة تمشي من نقطة A إلى نقطة B. دعونا نقيس المسافة بين النقطتين باستخدام مقياس يعتبر A على نقطة صفر، وB على 1. قبل أن تصل السيارة إذن إلى النقطة 1، يجب أن تصل إلى منتصف الطريق أولًا، أي: النقطة ½ و النقطة ¾ وهكذا. بعبارة أخرى: يجب أن تصل إلى كل النقاط اللامتناهية لـ ½ و ¾ و 7/8، ولكن من المستحيل أن تقوم بعدد غير متناهٍ من الأمور في وقت متناهٍ. فالسيارة إذن لن تصل أبدًا إلى النقطة B.
لا يمكننا هنا أن نقبل هذه النتيجة؛ لأننا نعلم أنَّ السيارة تستطيع أن تصل إلى النقطة B؛ لذا لا بد أنَّ خطأً ما في حجة زينون. والحقيقة أنَّ ثَمَّ إجماع عام الآن بشأن خطأ الحجة (بناءً على تطورات أخرى في رياضيات القرن التاسع عشر المتعلقة بالتسلسل اللامتناهي). يمكنك أن تفعل أشياء غير متناهية في وقت متناهٍ، مع مراعاة أنَّ هذه الأشياء يمكن –على الأقل- أن تُنجَز إنجازًا أسرع.
دعونا إذن نعود إلى مفارقة الكاذب the Liar Paradox؛ لنعرف إلى أي من النوعين تنتمي، وهل يمكننا قبول نتيجتها أم أنه يجب أن يكون هناك شيء خاطئ في الحجة؟ حسنًا، لاحظ أنَّ نتيجة الحجة تحمل تناقضًا صريحًا أنَّ الدعوى المكتوبة على السبورة خاطئة وصائبة في الوقت ذاته. تقول قاعدة عدم التناقض: إنه لا يمكنك أبدًا قبول التناقض. وكانت قاعدة عدم التناقض منهجًا حاسمًا high orthodoxy في الفلسفة الغربية منذ أن أقام أرسطو دفاعًا حماسيًّا عنه في كتابه الميتافيزيقا، وقد كان متسقًا مع النظرة السائدة حتى إنَّ أحدًا لم يشعر بحاجة لدعم ذلك الدفاع منذ ذلك الحين؛ لذا لا بد أنَّ المفارقة تنتمي للنوع الثاني القائل: لا بد أنَّ هناك خطأ ما في الحجة. هل كان هذا ضروريًا؟
لا يبدو كل هذا ضروريًّا وفقًا لنظرية جديدة ومثيرة للجدل بدأت تنتشر اليوم. تقول هذه النظرية: إنَّ بعض المتناقضات حقيقية وخلاصة مفارقة الكاذب the Liar Paradox هي مثال نموذجي على هذا التناقض. تدَّعى نظرية التناقض الحقيقي هذه بـ dialetheia (وهي إغريقية من: “di” التي تعني اثنين، أي: طريقتين two (way) و “aletheia” التي تعني حقيقة)، والرؤية ذاتها تُسمَّى إمكان التناقض dialetheism. أحد الأمور التي تدفع باتجاه هذه الرؤية أنَّ التشخيصات المقنعة للخطأ الكامن في حجة الكاذب تبدو مستحيلة. افترض أنك تقول: إنَّ الجُمل المتضمنة للمفارقات من هذا النوع الذي عرضناه، هي بإيجاز فارغة من المعنى، (أو ليست صحيحة ولا خاطئة، أو بعضها كذلك). لو قلت بذلك فماذا لو كانت الأستاذة قرين قد كتبت على السبورة هذه العبارة:
“كل شيء مكتوب على سبورة القاعة ٣٣ ليس بخطأ، ولا صواب”.
لو كانت هذه العبارة إما صائبة وإما خاطئة، فسوف نكون في المشكلة نفسها كما كنا. ولو كانت بلا معنى، فهي إما خاطئة وإما بلا معنى، فهي إذن صحيحة. عدنا إلى التناقض. يؤثر هذا النوع من المواقف -الذي عادة ما يسمى بالمفارقة المقوّاة strengthened paradox)- عمليًّا على كل المحاولات المقترحة لتفسير الخطأ الواقع في التفكير في مفارقة الكاذب the Liar Paradox.
على أية حال، حتى بعد ألفين ونصف عام من محاولات إيجاد تفسير للخطأ في الحجة في مفارقة الكاذب the Liar Paradox، لا إجماع حتى الآن في هذه المسألة، بخلاف مفارقات زينون Zeno؛ حيث يوجد إجماع شبه مكتمل فيها. ربما كنا فقط نحاول إيجاد عيب حيث لا عيوب.
هذا لا ريب يعني نبذ قاعدة عدم التناقض. ولكن لماذا يجب علينا أن نقبل كل هذا؟ يمكن أن تعتقد أنه منذ أن أنشأ دفاعُ أرسطو القاعدة في الفلسفة الغربية، فهذا يعني أنَّ حججه كانت مناسبة. هل كانت كذلك؟ لا. الحجة الأساسية مُعذّبة للغاية حتى إنَّ المختصين لا يستطيعون حتى الاتفاق على كيفية تطبيقها، بصرف النظر عمَّا إذا كان من الممكن تطبيقها من الأساس. هناك أيضًا مجموعة من الحجج الصغيرة، ولكنَّ أكثرها مجرد تعليقات هامشية، وكثير منها خارج الموضوع بشكل واضح. من المثير للاهتمام أنَّه يكاد يكون شيء آخر دافع أرسطو عنه، نُبِذَ، أو -على الأقل- طُعِنَ فيه. يبدو أنَّ قاعدة عدم التناقض هو الحصن الأخير.
هناك بطبيعة الحال كثير مما يمكن أن يقال حول هذه المسألة، كما في الفلسفة. لو سألت أكثر المناطقة المُحدَثين عن سبب عدم إمكان وجود تناقضات حقيقية، فقد يجيبون بأنَّ كل شيء يتبع منطقيًّا من تناقض ما؛ لذا وإن وُجِد تناقض واحد صحيح، فهذا يعني أنَّ كل شيء يمكن أن يكون صحيحًا. يبدو لي أننا أمام مبالغة كبيرة هنا.
يطلق على هذه القاعدة التي تستنتج أنَّ كل شيء يترتب على تناقض أحيانًا بالاسم القُروسطيّ ex falso quodlibet، ولكنه يُعرف الآن باسمٍ أكثر زهاءً، وهو الانفجار explosion. هناك رابط في الواقع بين الانفجار وقاعدة عدم التناقض. الاقتراح الشائع أنَّ ما في B لينتج منطقيًّا على أنه A هو أنك لا تستطيع أن تحصل على A بدون أن يكون لديك B. ووفقًا لقاعدة عدم التناقض، فلو كانت A تناقضًا ، فلا يمكنك الحصول عليها. وإن لم تتمكن من الحصول على A، فإنك بالتأكيد لا تستطيع الحصول علىA ولا B. أي: إنَّ كل شيءٍ يترتب على تناقض ما.
من الواضح أنه إن حُفزت الحجة مقابل dialetheism، فإنها تصادر على المطلوب بشكل كامل؛ لأنها تفترض قاعدة عدم التناقض، وهو نقطة المسألة الأساسية.
يبدو الانفجار explosion -بالإضافة إلى ذلك، مع كل منهجيته الحالية- قاعدة غير معقولة للاستنتاج. فهو يخبرنا أنه لو كانت ملبورن عاصمة أستراليا مثلًا، ولم تكن كذلك في الوقت ذاته (تناقض)، فإنَّ قيصر كان ليغزو إنجلترا عام ١٠٦٦م. لا يبدو حقًّا أنَّ هناك أي ارتباط بين هذين الأمرين. يبدو أنَّ الانفجار ذاته سيكون نتيجة مفارقة لما يفترض أن تترتب عليه أيًّا كان.
من غير المفاجئ إذن أنَّ الأربعين سنة الأخيرة تقريبًا شهدت تحقيقات مكثفة للمنطقيات التي تنص على أنَّ الانفجار غير صحيح. يطلق عليها منطقيات فوق التوافقية paraconsistent logics، وهناك نظرية نشطة للغاية الآن لمثل هذه المنطقيات. الحقيقة أنَّ التفاصيل الرياضية لهذه المنطقيات هي بلا شك أساسية في فهم dialetheism لأي طريقة سطحية نوعًا ما. ولكن ربما يُفضَّلُ ترك التفاصيل للمناطقة المتوافقين وراء الأبواب المغلقة.
يمكن أن تعتقد أنَّ هناك مشكلة أخرى لـ dialetheism، وهي أنَّا إذا قبلنا بعض المتناقضات، فلن نستطيع أبدًا أن ننقد أحدًا ذي آراء غير متسقة ما دام يمكن أن تكون صحيحة. لنفترض أنني اُتهمت بجريمة ما، وأنني قدمتُ في المحكمة حجة تثبت أنني كنت في مكان آخر، وأنَّ المدعيّ العام وافق على أنني لم أكن في مسرح الجريمة، لكنه ادعى أنني كنت هناك على أية حال. من المهم لنا أن نكون قادرين على أن نقول أنَّ هذا ليس معقولًا.
ولكنَّ حقيقة أنه يُعقل قبول بعض التناقضات، لا تعني أنه يُعقل قبول كل المتناقضات. إذا فشلت قاعدة عدم التناقض، فلا يمكن أن نستبعد المتناقضات بالمنطق فقط، وإن كان كثير من الأشياء لا يمكن استبعادها بالمنطق فقط، رغم أنه سيكون من غير المعقول تصديقها. ادعاء أنَّ الأرض مسطحة متسق تمامًا مع قوانين المنطق. كل هذا يدعو للجنون.
ولم يتقن أحد بعد خدعة الوجود في مكانين مختلفين في الوقت نفسه، كما نعلم نحن والمدعي العام.
إذا اعتبرت حقًّا كل الإفادات التي انطبقت عليك –حتى إفادات هذه المقالة- في الـ٢٤ ساعة الأخيرة ، فإنَّ العدد قد يُعتقد أنه ديالثيا dialetheias صغير جدًّا؛ لذا يبدو أنَّ الأسلم افتراض أنَّ احتمالية كون أيِّ تناقض معطى صحيحًا، ضئيلة جدًّا. لدينا إذن أساس عام جيد لرفض أية تناقض نلتقي به مصادفة. ولكن بالطبع يمكن لهذه الأساسات العامة أن يتم تجاوزها في الحالات التي نمتلك فيها سببًا جيدًا للاعتقاد بأنَّ التناقض صائب، كما في مفارقة الكاذب the Liar Paradox.
لو كانت الديالثيا dialetheias نادرة جدًّا، ولو ظهر أنها مبهمة كما في جملة الكاذب، فيمكن أن تتساءل: لماذا نهتم بها إذن؟ لمَ لا نتجاهلها؟ يمكن أن يتجاهلها المرء على حساب خطر محتمل أكبر. تبدأ الاكتشافات العلمية الجديدة عادة من خلال أخذ الحالات الشاذة على محمل الجد. فمثلًا: اعتقد أكثر الفيزيائيين في نهاية القرن التاسع عشر أنَّ مجالهم متماسك تماسكًا جيدًا إلا في بعض الحالات الشاذة التي لم يستطع أحد تبريرها مثل ظاهرة إشعاع الجسم الأسود. أخذ هذه الحالة الشاذة في عين الاعتبار ولّد في نهاية المطاف نظرية الكمّ التي لو تُجُوهِلَتْ، لما أحدثت النظرية ثورة في الفيزياء. وكذا لو لم يأخذ كانتور مفارقة غاليلو على محمل الجد، لَمَا حدثت أحد أكثر الثورات الرياضية أهمية.
لا ريب أنَّ الثورات حدثت في المنطق (بأنواعه المختلفة) في الماضي، لكن يمكن أن نقول: إنَّ أعظم هذه الثورات حدث عند بداية القرن العشرين تقريبًا عندما أُسقط المنطق الأرسطي التقليدي، وبدأت التقنيات الرياضية للمنطق المعاصر. ربما نحن الآن على مشارف ثورة أخرى جديدة.
الكاتب: غراهام پريست أستاذ الفلسفة المتميز في مركز الدراسات العليا في جامعة المدينة بنيويورك، وأستاذ بويس جيبسون Boyce Gibson للفلسفة في جامعة ملبورن في أستراليا، وله مؤلفات منها: In Contradiction, Beyond the Limits of Thought, Towards Non-Being, and Introduction to Non-Classical Logic.
المترجم: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
Paradoxical Truth
Graham Priest
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”