يزيد بدر
حتى نفهم فلسفة بركلي علينا مُنذ البدء التطرق لرؤيته الابستمولوجية فعلى خلاف ديكارت ومن قبله أفلاطون يُنكر بركلي أي مصدرٍ للمعرفة يسبق الحس. من هنا يلتقي مع الفلسفات التجريبية كهوبز ولوك وهيوم، إلا أنه يختلف عنهم في تفسير المُدركات الحسية والصور التي تنشأ عنها. بمعنى أخر بركلي لا يُسلم بالجوهر المادي باستقلال عن العقل/المُدرك ويعتقد أن لا وجود إلا للجوهر الروحي، ومن ثم كل الصفات الحسية مشروطة بالإدراك، وهنا نضع الأسس التي أرسى عليها مثاليته أي الإدراكات الحسية والصور الذهنية. لكن ما هي حجج بركلي لنقد الجوهر المادي؟ حسب كتابه محاورات نستطيع أن نختزل نقده إلى وجهين:
– مبدأ اللذة والألم.
– مبدأ النسبية.
لأننا عادةً ننسب اللذة والألم للذات دون الواقع الموضوعي، فنحن نتألم ونشعر باللذة دون أن ننسب هذه الانفعالات للوجود الموضوعي. بمعنى أخر الألم واللذة مشروطة بالمُدرك. أما مبدأ النسبية فيعني أننا نتلقى الانطباعات الحسية وفق منظور نسبي كالكبر والصغر. واليد الحارة تشعر بالبروردة أكثر من اليد الباردة وقس على ذلك ومن ثم كل إدراك مشروط بالمُدرك. لكن يعترض هيلانوس بأن هناك فرق بين الصفات الأولية والصفات الثانوية وهذه تفرقة أحدثها ديكارت واعتمدها لوك إلا أن بركلي يرد على هذه الحجة بذات المبدأ، أي النسبية، فالامتداد الذي هو صفة الجوهر المادي كالطول والعرض والعمق كلها مقولات مشروطة بالمُدرك فما هو طويل عند قصير القامة قصيرٌ عند طويل القامة وهكذا ينتهي بركلي إلى خلاصة فلسفته اللاهوتية:
كل ما ندركه مشروط بالمُدرك أي ما يوجد هو ما نُدركه حسيًا. ومن ثم لا وجود لجوهر مادي مستقل عن الذات العاقلة بل كل شيء مشروط بالإدراك إلهيًا كان أم بشري. ولكن يبقى هناك سؤالًا ملحًا وهو: لماذا كان بركلي حسيًا في نظرية المعرفة؟ ويظهر لي أنه أتخذ من الحس مبدأً للمعرفة حتى لا يشكك في صدقيّة الحواس على طريقة ديكارت مثلًا(وهو تشكيك قديم جدًا منذ بدايات الرغ فيدا واليونان الخ) ومن ثم يمكنه الوثوق بنتائج الحواس والإقرار بوجود العالم الفيزيائي على طريقته. ولكن الأهم أن بركلي وثق بالحواس حتى يهرب من تلك التفرقة بين الوجود المُدرك والوجود كما هو في ذاته، وذلك يعود لتعريفه للأشياء الحسية وهي ما يُدرك إدراكًا مباشرًا عن طريق الحواس. يقول بركلي “المبدأ البسيط الذي يقول بأن العالم المحسوس ليس إلا ما ندركه بحواسنا العديدة وبأنه لا وجود لشيء وراء الصور التي تدركها الحواس وبأنه لا وجود لأية صورة أو لأي نموذج للصور مستقل عن العقل” (بركلي، ٢٠١٥، ص ١٠٦ ). لذلك كان وجود الأشياء مشروطًا عنده بالإدراك الحسي المباشر وهذا الإدراك هو ما يطلق عليه الصور ومن ثم تكون النتيجة كل ما هو موجود قائم في العقل “الأشياء المدركة بالحواس هي التي تدرك مباشرة والأشياء التي تدرك مباشرة هي الصور والصور لا توجد باستقلال عن العقل لذلك فإن وجودها قائم في كونها مُدركة”( بركلي،٢٠١٥، ص ١٣٨ ). ولو أردنا جمع الأسباب التي جعلت منه حسيًا فهي كالتالي:
– حتى يثق بنتائج الحس ويؤسس عليها حججه.
– كي يهرب من ثنائية ما هو مُدرك وما هو واقع بذاته دون إدراك.
– من أجل حصر الجوهر المادي داخل المُدركات الحسية وعليه يقوم بربط الاحساسات بالعقل ومن ثم يخلص إلى نتيجة: ما يوجد هو ما يُدرك.
عودًا للبداية نقول بأن بركلي ينطلق كما في كتاب المحاورات من تفرقة ابستمولوجية وعليها يؤسس نقده وهي تفرقة الإدراك المباشر والإدراك غير المباشر. الأول هو كما نُدرك الحروف على الورق والثاني تلك المعاني التي تشير إليها تلك الحروف كالفضيلة والجمال. ومن ثم ينطلق في نقده الذي يَبتَغي غايةً بسيطة وهي كل ما هو مُدرك مشروطٌ بالعقل ومن ثم يخلص إلى نتيجين:
– لا وجود للجوهر المادي.
– ولا وجود لإحساسات مستقلة عن العقل.
يبقى أن نطرح سؤالًا مهمًا وهو: لماذا وجد بركلي أنه من الضروري نقد الجوهر المادي؟ أي ما الدافع العميق خلف هذه الرؤية المثالية للعالم؟ إن السبب خلف كل هذه الرؤية الفلسفية التي تنكر وجود مادةٍ مستقلة عن الذهن وتنكر الجوهر المادي وتُثبت فقط الجوهر الروحي وكل شيء مشروطٌ بالإدراك/العقل/الصور الخ يعود للبعد الثيولوجي واللاهوتي لهذه الفلسفة فبركلي يقر في مقدمة المحاورات ” وإذا ثبت صحة الأسس والأفكار التي أعتزم الدعوة لها في هذا الكتاب فإن النتيجة الواضحة المباشرة لذلك ستكون فيما أعتقد تقويض الإلحاد والشك” (بركلي٢٠١٥، ص ٢١). هنا نقطتين تعد غاية هذه الفلسفة أي نقد الإلحاد وأسباب الشك، لكن كيف يكون الإعتقاد بجوهر مادي مستقل عن الذهن سببًا للشك والإلحاد؟ حسب بركلي أن الفلسفات التي تقر بجوهر مادي تشك بالحواس ولا تثق بها ومن ثم يحدث الشك بالعالم الخارجي والجسد البشري كما حدث مع ديكارت وهيوم فيما بعد. أما الإلحاد ففي نظر بركلي أن من يعتقد بوجود جوهر مادي مستقل عن العقول فهو يعتقد بوجود مكتفي بذاته لا يحتاج إلى إله كيف يحركه فالجوهر المادي يقود إلى “الإكتفاء الذاتي” وهذا بالمختصر غاية بركلي من نقده للجوهر المادي والذي قاده لرؤية تقول بأن كل شيء مشروطٌ بالعقل أي ما يوجد هو ما ندركه ومن ثم لا جوهر مادي مكتفي بذاته بل جوهر روحي علة كل الصو.ر كما أنه ليس هناك ما وراء الحس والحس لا يخدع فما ندركه صحيح وهذا ما جعله يعتقد بأن فلسفته أقرب للحس المشترك من كل تلك الفلسفات التي تقول بجوهر مادي.
خاتمة:
اكتفيت في هذه المقالة بعرض فلسفة بركلي دون أي نقد، وذلك من مبدأ أنه كي تنتقد شيء ما عليك أن تفهمه جيدًا وتعرضه بوضوح، فالفرضيات التي استنبطها من هذه الفلسفة والتي ستكون موضوع الجزء الثاني تكملةً لهذه المقالة هي أن بركلي توصل لهذه الرؤية كنتاج لتاريخ طويل من الاعتقاد بأن المعرفة صورةform أي منذ أفلاطون تحديدًا، ومن جهة أخرى بركلي يقع في مغالطة وهي أن الوجود إما أن يكون مطلق أو لا وجود والطريف في هذه النقطة أنها تشبه لحد بعيد نقد أرسطو لبارميندس في السماع الطبيعي حيث أخذ عليه بأنه ينطلق من مقدمة كبرى وهي أن الوجود مطلق أو لا وجود دون اعتبار لتراتبية مقولة الوجود، فلو كانت الأشياء محكومةً بالنسبية فلا يعني ذلك أنها غير موجودة ولا يعني أيضًا أن وجودها عقلي/صور ومن جهة ثالثة بركلي كديكارت أفترض بأن ماهية الذي يشك روحية ولا مسوغ لهذه النقلة أي من المادي للروحي فمن قال أن هناك تلازم ضروري ومطلق بين التفكير والروح أليس من الممكن أن يكون التفكير أمرٌ مادي؟
المراجع:
بركلي(٢٠١٥). المحاورات. ترجمة يحيى هويدي، المركز القومي.