تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
عم تدور قصيدتك؟
إنه السؤال الذي لطالما أربك الشعراء وأثار حنقهم لعصور، (وإن صادف وكنت تعرف أيًا من الشعراء معرفةً شخصية، فربما يكون لديك حتى دليل تجريبي على ذلك.)
لا علاقة لهذا السخط بالأمزجة المتقلبة المعهودة للشعراء. بل إن هذا السخط مستمد، جزئيًا على الأقل، من كون السؤال كما قد يبدو في بساطته ليس له إجابة مُرضية في الواقع.
لماذا؟
وصف كلينث بروكس في كتابه “The Well Wired Urn” – كتاب النقد الأدبي الشهير والمبتكر – ما أطلق عليه “بدعة إعادة الصياغة”. كانت فكرة الكتاب الرئيسية فكرة قديمة تنص على أن الجهود المبذولة في إعادة صياغة الشعر إلى نص نثري مآلها الفشل بطرقٍ لا تفشل فيها المحاولات المتوازية للنثر. فالأمر متفق عليه بشكلٍ عام منذ عهد أرسطو. وأيدت مدرسة النقد الجديد هذه الأطروحة الشكوكية في النصف الأول من القرن العشرين، بدعمٍ من موجهها الروحي الشاعر الأمريكي تي. إس. إليوت، الذي عندما طُلب منه ذات مرة تفسير مقطع “سيدتي، ثلاثة نمور بيضاء ربضت تحت شجرة عرعر في برد النهار” من قصيدة أربعاء الرماد Ash Wednesday، أجاب: يعني ذلك: سيدتي، ثلاثة نمور بيضاء ربضت تحت شجرة عرعر في برد النهار”.
كان إليوت يُلمّح إلى أن التكرار هو أفضل ما يمكن أن نأمل في تحقيقه لتفسير الشعر. ويأسف، بالمثل، مترجمو رامبو لأنه نظرًا لكون الفرنسية لغة ناعمة ولحنية وسلسة في إيقاعها، فإنه من غير المناسب ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية واللغات غير الرومانسية الأخرى. وذهب الشاعر إي.إي. كامينغز إلى أبعد من ذلك، مدعيًا أنه حتى التأثير البصري للطباعة في قصائده يجعلها عصية على إعادة الصياغة.
لقد تجاهل الفلاسفة واللغويون المعاصرون هذا التشكك أو رفضوه تمامًا. فليس من السهل تبني فكرة أن ثمة كلمة – لا لبس فيها – قد تعني شيئًا ما في مقال إخباري أو قائمة تسوق وتعني شيئًا مختلفًا تمامًا في قصيدة. كيف يمكننا أن نفهم ما تعنيه القصيدة إذا كانت كلماتها لا تحمل معانٍ مكتسبة مألوفة؟ أليس هذا التشكك، بالإضافة إلى ذلك، عرضة للتفنيد البسيط التالي: خذ أي تعبير من أي قصيدة وصِغ تعبيرًا جديدًا بديل ليعني تمامًا ما يعنيه الأول؛ كيف يمكن لهذه الممارسة أن تفشل في إعادة صياغة النص أو ترجمته؟ حتى وإن غيرت هذه البدائل الجودة الجمالية أو الانفعالية أو التخيلية للقصيدة الأصلية، فكيف يمكن لأيٍ من ذلك أن يُغيِّر المعنى؟
تظل بدعة إعادة الصياغة مقنعة على الرغم من هذا التفنيد البسيط. فأي شخص مطلع على أسفِ رومان جاكوبسون أو فلاديمير نابوكوف من ترجمة بوشكين إلى الإنجليزية سيشعر بقوتها. ولكن هل يمكن التوفيق بين الشكوك التي لا يمكن مقاومتها فيما يتعلق بترجمة الشعر وإعادة صياغته والمنطق الواضح للتفنيد البسيط؟
ثمة حل للخروج من هذا الإشكال، ولكن للعثور عليه، يجب علينا أولاً الانتباه إلى تمييز حاسم مُتجاهَل عمومًا بين التعبيرات اللغوية ووسائل التلفظ الخاصة بها: لتحقيق هذه الغاية، فكر في شخصين يعرف كلاهما اللغة الإنجليزية، لكن أحدهما لا يستطيع سوى التحدث بينما الآخر لا يستطيع سوى الكتابة. سيستحيل التواصل بينهما على الرغم من أنهما يتشاركان لغة واحدة.
يسهل الخلط بين الكلمات ولفظها، لأن كل تعبير يتطلب التلفظ لعرضه. (يقع العديد من الفلاسفة واللغويين في هذا الخلط). والأصوات أو العلامات اللغوية التي ننطق بها لغتنا، بالطبع في كثيرٍ من الأحيان، لا تُحدث فرقًا كبيرًا في رسالتنا المقصودة، فلا يهم عادة فهمنا لما يقوله شخص ما سواء أكان يتحدث أو يكتب، ولكن إذا فكرت في الاحتمالات المميزة لعملية عرض اللغة، فمن السهل أن ترى كيف يمكن لما لا يلاحظه أحدٌ عادةً أن يحتل مركز الصدارة.
إن كتابة كلمة “لَبُنة” على سبيل المثال بخطٍ مائل (على هذا النحو “لَبُنة“) سيلفت بوضوح الانتباه إلى عرضٍ مُحددٍ للكلمة، وليس للكلمة نفسها. وهذا مثال واحد من عدة أمثلة؛ فربما تُنطق الكلمة أو تُكتب بطريقة برايل أو حتى تُوقع. ما يثير الدهشة، في حالتنا هذه، أن التفكير والتأمل لبرهة لا بد وأن يقنعك أنه يتعذر استخدام أي لفظ آخر لتوضيح هذه النقطة بهذه الطريقة. لا يمكن، باختصار، نطق كلمة “لَبُنة” بخطٍ مائل بصوت مرتفع أو توقيعها أو كتابتها بطريقة برايل. تسمح ممارسة الكتابة المائلة، في الواقع، بعرض لغةٍ ما لتصبح جزءًا من اللغة نفسها.
إذا كانت القصائد أيضًا (جزئيًا) تتعلق بألفاظها الخاصة، فسيفسر ذلك سبب قدرتها على مقاومة إعادة الصياغة أو الترجمة لعبارةٍ اصطلاحية أخرى. لماذا؟ على سبيل المثال، إن استبدال كلمة “sheen” بكلمة “luster” في قصيدة لكوليردج، صقيع الملاح القديم Rime of the Ancient Mariner، سيكسر الأربطة بين سطورها القصيدة، وبالتالي يُغيِّر القصيدة ذاتها.
And through the drifts the snowy clifts
Did send a dismal sheen:
Nor shapes of men nor beasts we ken —
The ice was all between.
إن استبدال المترادفات في القصيدة قد يغير وزنها أو قافيتها، وما إلى ذلك، إلى الحد الذي تكون فيه القصائد تدور حول ألفاظها الخاصة بها بحيث أنها تمنع إعادة صياغتها وترجمتها. فأي جهد يُبذل في إعادة التلفظ بها سيغير الموضوعَ حتمًا، وفقًا لذلك كما هو الحال مع أشكال الإشارات الأخرى. إليك توضيح آخر لهذه النقطة: على الرغم من أن الرسام الإيطالي جورجوني Giorgione، ويعني اسمه جورج الضخم، سُمي بذلك بسبب بنيته الضخمة؛ فإن جورجيو بارباريللي دا كاستلفرانكو لم يكن كذلك على الرغم من إطلاق اسم جورجوني عليه. هذا ممكن لأن البنية “المزعومة” تتعلق جزئيًا بلفظها الخاص؛ وعند تغيير اللفظ سيتغير الادعاء حتى وإن كانت البدائل مترادفة. تكشف هذه الأنواع من الاعتبارات ما هو مضلل في التفنيد البسيط.
يمكننا، بالطبع، تقديم تعبير جديد ليعني بالضبط ما يعنيه التعبير القديم، ولكن نظرًا لأن القصائد يمكن أن تدور حول ألفاظها الخاصة، فإن استبدال المترادفات لن يؤدي إلى إعادة صياغة أو ترجمة دقيقة. لا يتطلب إجراء ذلك المترادفات فحسب، بل يتطلب كذلك ألفاظًا متطابقة، وهذه الغاية لا يمكن تحقيقها إلا بتكرار النص.
يختلف هذا التفسير لبدعة إعادة الصياغة عن استدعاء مدرسة النقد الجديد شبه الصوفي لمحتوى تشكيل الشكل. تعني التعابير اللغوية أيًا كان ما تعنيه أينما تحدث، ولكن في الشعر (كما في أشكال الإشارة الأخرى) يصبح الوسيط هو الرسالة نفسها. لا يستتبع ذلك، على أي حال، أن لغة الشعر لغة سحرية أو حتى متميزة عن لغات الخطابات الأخرى بل هي متطابقة. فالكلمات في قصيدة كامينغز تعني تمامًا ما هي عليه في النثر. ولكن نظرًا لأن القصيدة يمكن أن تكون أداة لعرض التعبير الخاص بها، فإن إعادة صياغة كامينغز مع تجاهل النظم الشعري الخاص به سيؤدي إلى الفشل.
هل يمكن أن يكون ذلك ما قصده سارتر عندما قال إن الشاعر “يعتبر الكلمات أشياء وليس علامات أو رموز”؟ ويكتب ديلان توماس، بالمثل، عن تجاربه الأولى مع الشعر، فيقول: “قبل أن أتمكن من قراءة القصيدة لنفسي، كنت أحب كلماتها، الكلمات وحدها. وما تمثله الكلمات أو ترمز إليه أو تعنيه كان ذا أهمية ثانوية للغاية، ما يهم هو وقعها ذاته كما سمعتها لأول مرة من شفاه البالغين البعيدين وغير المفهومين تمامًا الذين بدا أنهم لسببٍ ما يُقيمون في عالمي”. كان يمكن أن يقول توماس ببساطة إن اهتمامه الأول كان باللفظ، وخاصةً الأصوات، أي الجانب المسموع من الكلمات.
توقفْ وتفحصْ هذه الحروف وأنت تقرأها، ألا تبدو أشكالها جذابة؟ سيوافقك الشعراء على هذا الرأي. ولكن، على عكس الناس العاديين، يريد الشاعر أن يلفت انتباه الجمهور إلى هذه الألفاظ بقدر ما يريد أن يلفت انتباههم إلى الأفكار التي تعبر عنها الكلمات الواضحة للغاية. يحقق الشاعر هذه الغاية من خلال الأدوات، على سبيل المثال القافية والجناس وغيرها من الأدوات المتنوعة. يصحح إعادة التلفظ غالبًا القوافي أو الجناس أو الأخطاء غير المقصودة أو التشتتات في القصيدة، ربما باستخدام طرق نطق مختلفة لنفس الكلمات أو باستخدام كلمات مختلفة أو بنى لغوية تنقل المعنى نفسه. لا يتعلق الخطاب، في هذه الحالة، بالتأكيد بلفظه الخاص، فالأمر مختلف مع الشعر.
إن الشاعر،كما ذكر ويلبر مارشال ايربان، لا يستشعر موضوعه أولاً ومن ثم يجد وسيط مناسب لتبيانه. بل إن الشاعر بالأحرى من خلال الوسيط المختار يحدس موضوع قصيدته من الأساس. ذكرت الفيلسوفة سوزان لانغر ذات مرة: “صحيحٌ أن مادة الشعر لفظية، إلا أن فحواها ليس هو الادعاء الحرفي للكلمات، بل الطريقة التي كُتبت بها ويشمل ذلك الصوت والوتيرة… وبراعة الإيقاع الموحد الشامل”.
ما الذي يمكن أن تحققه التأثيرات الشعرية في ضوء ذلك؟ تُعتبر قصيدة الغراب لإدغار آلان بو حالة استثنائية، لكنها حالة واضحة. تدور القصيدة جزئيًا حول الصوت وتأثيراته على الفكر؛ إذ اختيرت الكلمات ووزنها لاستحضار أصوات بعينها، كما في المقطع: “the silken sad uncertain rustling of each purple curtain”، والقافية المتكررة مهمة أيضًا. إذ يتشكل النمط حين نصل إلى حيث يقول الغراب لأول مرة “nevermore”، بحيث يصل نطق الغراب بشعورٍ بالنهائية والحتمية يتردد صداه أو ينعكس أو يساعد فحسب القارئ على تقدير الطريقة التي استحوذت بها أفكار الموت والفقدان على عقل الراوي، وتمكن الهاجس الكئيب منه وهو موضوع القصيدة.
تحاول مدرسة النقد الجديد ومعها الناقد كلينث بروكس أن تجعلنا نؤمن أن ما يكمن في الأعمال الشعرية أمرٌ سحرى بطريقة أو بأخرى، لكن لا غموضٌ هنا.
الكاتب: إرني ليبور أستاذ الفلسفة ومدير مساعد في مركز العلوم الإدراكية في جامعة روتجرز، يكتب عن اللغة والعقل. يمكن العثور على المزيد من أعماله بما يشتمل على دراستين متصلتين “حول الكلمات” و”ضد المعنى المجازي”، في موقع روتجرز الإلكتروني.
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
Poetry, Medium, and Message
Ernie Lepore
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”