يزيد بدر
إن الضحك يعزى عادة إلى ما هو ناقص وخاطئ، ومن ثم إلى التناهي والمادة، ومن هنا جاء إستهجان وتهميش الضحك عبر التأريخ كما سنرى، والفرضية التي أدافع عنها في هذه المقالة هي كالتالي: الضحك وجوديا يحيل إلى(الفراغ) وليس العدم حيث أن هذا الأخير مرادف لمفهوم إشكالي أي الوجود ومن هنا نسج هيغل فلسفته، لكن ماذا أعني بالفراغ ؟
١-أولا علينا أن نعي بأن الفراغ لصيق للمادة ومن ثم هو مفهوم فيزيقي يتجاوز مباحث الوجود التي غرق فيها الفلاسفة مُنذ رِحلة بارمنيدس إلى الحقيقة! إن الفراغ مبحث في الذرية المادية وهو ما أطلق عليه : الذرية الفوضوية.
٢- الفراغ أيضا ليس عدمًا بقدر ما هو جدار مسدود كالجسد الذي لا يمكن تجاوز حدوده. ومن ثم ما يعنيني هنا هو التالي : الضحك هو موقف وجودي إزاء مساحة تُبقيها المادة خالية وهذه المساحة هي “المعنى” ولكن المعنى بوصفه يومي ولحظي فليس للحياة “معنى” وليس لها أيضا “معنى” أخير إنما هناك عالم واقع في تكرار لمعاني عابرة كالأشباح إذن لدينا بنية هنا : معنى زائل وفراغ . لذلك الرهان ينطلق من هذا السؤال : كيف نجعل اللاجدوى على قيد الحياة؟ كيف يكون الفراغ وترٌ ينبض من أجل العيش؟ لذلك إجابتي هي : الضحك. وهو نمط كينونة ومبدأ للعيش سيتم بيانه وتفصيله ومن ثم سيقودنا نمط الكينونة هذا إلى سرد بعض الشخصيات لتقريب الصورة للمتلقي على من أطلق عليهم(مُدبري اللاجدوى) ولكن قبل ذلك أريد أن أبدأ بتحليل تاريخي يتتبع مفهوم الضحك منذ أرسطو وكيف أنه أرتبط بالمادة وما هو ناقص ومتناهي وله منزلة دنيا على كل حال.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تباعد شديد بين أرسطو وبرغسون من حيث البُعد الزمني ومن جهة الإختلاف الظاهري في الأطروحتين، حيث أن أرسطو ذكر الكوميديا والضحك في معرض تفلسفه حول الفن وتحديدا التراجيديا في كتابه (فن الشعر) بينما نظر برغسون إلى القضية من زاوية إجتماعية بحتة، لذلك لا يهمني هنا عرض الأطروحتين بقدر ما أريد لفت الإنتباه إلى ما يشترك فيه ما هو “مُضحك” ففي كتابه المذكور آنفا يعرف أرسطو الكوميديا بوصفها : محاكاة الرداءة. لكن علينا أن نقف هنا قليلا فما هو رديء لا يؤخذ في بعده الأخلاقي وهذه النقطة في غاية الأهمية كونها تقودنا إلى ما هو مشترك في مفهوم الضحك عند هؤلاء، فما هو رديء عنده هو ما “يثير الضحك لأنه خاطئ وناقص ” ثم يضرب مثالا لا يخلو من طرافة وأعني القناع الكوميدي فهو مضحك لأنه “ناقص ومشوه” وما نريد بلوغه هُنا هو تلك الخصيصة التي للضحك وهي: النقص واللاإكتمال والتشوه الخ فهذه كلها معاني تفيد عكس الكمال والجليل الذي يتوفر في الملحمة والتراجيديا فالنقص لا يكون إلا في عالم المادة وهذا ما سيتبين بوضوح مع برغسون : فكيف نضع برغسون في هذا السياق ؟ لاحظنا لدى أرسطو بأن ما يثير إنفعال الضحك أمر ناقص ورديء فهو ينتمي لعالم المادة لأن الصورة لا يشوبها النقص أي المُثل بلغة أفلاطون. في كتاب(الضحك) لبرغسون الذي عده الكثير سابقة في تأريخ الفلسفة وهو أمر لا يخلو من مبالغة فهناك من تناول الضحك مثل كانط في(نقد ملكة الحكم) وكذلك شوبنهاور(العالم إرادة وتمثل) الخ لكن قد يُحسب له بشكل من الأشكال أنه أفرد كتابًا حول هذا الموضوع، وعلى كلا ليس هدفنا أن نعرض فلسفة برغسون في الضحك بل أن نقرأه كما قرأنا أرسطو لنخرج بما نريده من هذا المبحث بعامة أي علاقة الضحك بالمادة والفراغ.
القانون الأساسي للضحك عند برغسون هو أن ما هو آلي وميكانيكي فهو مُضحك، وبعبارة أوضح الأشياء التي تُثير الضحك فيزيقية بينما الميتافزيقا تخص التراجيديا والخوف والرعدة وما إلى ذلك ، يضرب مثال الخطيب الذي على المنبر بينما يتحدث عن الله واليوم الآخر ومحاسبة النفس وما إلى ذلك لنتخيل أنه “عطس” فهذه النقلة من الروح إلى الجسد تثير الضحك بمعنى أخر القدوم من الماوراء إلى الطبيعة يعد أمراً مُضحكا لذلك يقول برغسون في كتابه نصا ” لهذا يحرص المؤلف المأساوي(تراجيدي) على تجنب كل ما من شأنه أن يستدعي إهتمامنا نحو المادة. إذن نصل هنا إلى مبتغانا وأعني علاقة الضحك بالمادة والتناهي والنقص، حيث رأينا ذلك عند كلا من أرسطو ضمنا وبكل وضوح مع برغسون. إذن لنستمر حتى نبلغ تلك النقطة التي تستلزم منا “الضحك” كنمط للعيش .
لقد وضع كانط في كتابه(نقد ملكة الحكم) تعريفا للضحك ولا أبالغ بأن هذا التعريف كرره كل من قدم بعده وعلى رأسهم شوبنهاور ومن ثم برغسون وينص هذا التعريف على التالي: الضحك إنفعال ناتج عن تحول مفاجئ للعدم. وهنا أريد أن أقف عند لفظ “العدم” الضحك تحول إلى المادة ومن ثم العدم، إلا أن العدم هنا ليس “نفي” يقوم به الذهن على غرار ما سارت عليه الفلسفة منذ أفلاطون، بل العدم هو جزء من العالم الطبيعي الفيزيقي لذلك أضع بديلا لمفردة “العدم” “الفراغ” حيث أن الفراغ ليس “ذاتيا” أي أنه نفي يقوم به الذهن لما هو موجود بل يسكن الفراغ المسافة بين الإنسان والطبيعة وذلك على إفتراض أنه هناك دائما قيمة(X) فليس الإنسان كائن منغلق بتجاربه على ذاته ولا هو خارج ذاته إنما هو في الطبيعة وهذه الأخيرة في تغير مستمر “تطور” مما يعني أنه لا يوجد إمكانية لخطاب مُكتمل ونهائي، الفراغ منطقة في العالم بمثابة الجدار الذي يجعلنا نرتد إلى الخلف ونعي جيدا بأنه لا يوجد غير هذا “الكون المُغلق” وداخل هذا الكون تكون أحد طُرق العيش الممكنة هي (الضحك) هنا تلمسنا عند كانط قليلا علاقة الضحك بالعدم ولكن سوف نلاحظ أن مفهوم السخرية كما عرضه هيغل في(دروس في الإستطيقا) أكثر وضوحا .
ذكر هذا المفهوم هيغل كما قلنا سابقا في دروسه عن الاستطيقا، وعلينا أن نقف بعض الشيء عند هذا المفهوم وكيف نشأ حيث من خلاله سوف نعي جيدا معنى (الفراغ) ومن ثم : الذرية الفوضوية .
يقوم مبدأ السخرية على فلسفة فيخته التي ترى بأنه لا شيء راسخ ومطلق في هذا العالم إلا “الأنا” فهي تضع الأشياء ولديها القدرة على نفيها، فلا وجود هنا لما هو موضوعي فقط الأنا المطلقة القادرة على نفي كل شيء ، بعبارة أخرى الأنا التي تزرع العدم في “الوجود” فعند هذه الأنا لا شيء يعتبر في ذاته حقيقةً بل كل ما هنالك هو ظاهر فحسب. إن هذه السخرية للعبقري الإلهي تحطم كل القيود ومن ثم تعيش على ما يسميه هيغل “التمتع بالذات” والغبطة داخل “أنا” مطلقة لا ترى في الآخرية إلا ظواهر وصور ، وهنا أريد أن أقف قليلا عند هذا السؤال : كيف بلغت الأنا هذه المنزلة من اليقين والثبات بينما كل شيء قابل للتعديم والعدم؟ يعود ذلك(كما يتلمس هايدغر هذا الأمر في مشروعه الفلسفي) إلى فجر التأريخ عندما رأى الفلاسفة بأن الذهن أو العقل هو “موطن الحقيقة” ومن ثم جاءت الذاتوية مع ديكارت والأنا المطلقة التي تستطيع أن تشك في كل شيء. ومن هنا ألتمس خيطًا أوضح فيه قصدي من الفراغ و “الذرية الفوضوية” أولا الحقيقة ليست في الذهن وثانياً الفراغ الذي يسمونه العدم موجود في الطبيعة وليس أداة من أدوات الذهن أو قدرة عقلية لنفي الأشياء، الطبيعة مليئة بالعلل المجهولة(الفراغ) كما أنها لا تتسم بنظام محدد أبد الدهر لذلك هي “ذرية فوضوية” وهنا نبلغ الينبوع حيث يصل الفيلسوف إلى المنطقة القصوى والتخوم من هذا العالم وعندها يقرر بين أمرين أما سبيل هيغل ” ويمكن ألا يُشبع الأنا ذاته في دلك التمتع بالذات بل يصير هو نفسُه ناقصا على نحو أنه يشعر عندئذ بالتعطش إلى ما هو ثابت وجوهري” أو طريق كامو ” والحق أننا نهدف إلى إلقاء الضوء على الخطوة التي يقوم بها الذهن حين ينتهي به الأمر إلى العثور على معنى عميق في الفلسفة التي ييدأ منها والتي تقول بعدم وجود أي معنى في العالم” الصراع هنا بين ما هو ثابت وما هو مُتغير فماذا نختار ؟
الذرية الفوضوية تقول بكون مُغلق ليس له قوانين ولا قواعد، وأن هذا الكون عبارة عن ذرات لا تُختزل إلى “صورة ذهنية” كما عند أبيقور والذرية المنطقية حديثا، إنها تُبقي مساحة لعلل غير معلومة وفي ذات الوقت ترى بأنه لا شيء خارج الزمان والمكان، والذي يهمني هنا أنها تقودنا إلى حيث اللاإمكانية على الحسم ومن ثم يتبقى لنا ضربا من ضروب العيش الممكنة وهو ” الكينونة الضاحكة” فالضحك هنا موقف وجودي إزاء ينبوع العالم المتناهي وليس اللامتناهي حتى لا تُقرأ هذه الذرية بأي طريقة صوفية أو هرمسية ثيولوجية الخ في حقيقة الأمر “الضحك” يأتي متأخرا بعد أن يبدأ الإنسان معركة البحث عن الحقيقة والمعنى يصطدم بجدار الفراغ والذي يعني أن هناك حقيقة وهي “الموت” وتطور الكائنات الحية والعالم بإستمرار(هذا التطور البيولوجي والفيزيائي أحد ركائز الذرية الفوضوية)والأهم أن علاقة الإنسان بهذا العالم “تكيف”(مفهوم التكيف يحتاج تفصيل) وليس “معرفة” أو “تمثل” ببساطة هذه هي :الذرية الفوضوية. الإنسان عندي لا يعيش عالم بلا معنى أو له معنى بل يعيش عالمًا بلا “ضمانة” فما هي الضمانة الممكنة لأجل العيش؟ بمعنى آخر: كيف أبقي اللاضمانة على قيد الحياة نابضة ويانعة حية؟ إنه من خلال الضحك فما هو الضحك؟
إننا كما أسلفنا أرتبط الضحك منذ القِدم بما هو مادي وناقص ومن حيث الأخلاق أُعتبر رذيلة نوعا ما وخاصة الإفراط في الضحك، وبينا بأن المادة ليس لها “قوانين” ولا “قواعد” إنما هناك ذرات مادية فوضوية أي لا يمكن وضعها في قانون أو إطار ، وهذه الفوضوية لا تأتي من النفي العقلي بل هي من صميم العالم كونه مُتغيرا، والذي يهم في سياقنا هذا بيان أن “الضحك” موقف يُتخذ عند بلوغ نقطة ما من البحث والتقصي “للمعنى الأخير” لهذه الحياة، الضحك بمثابة الصرخة الأخيرة لكل واقعٍ صلب أي ميتافزيقا الواقع. والمادة ليست خطيئة ومن ثم وجب الدفاع عن حقنا في الضحك. هذه المقالة دعوة للضحك بكل أشكاله الخفيف والهستيري دون أي شعورٍ بالخطيئة أو الإثم.
أرسطو(٢٠١٤). فن الشعر. هلا للنشر والتوزيع
هنري برغسون. الضحك. المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع
ايمانويل كانط(٢٠٠٥) نقد ملكة الحكم. المنظمة العربية للترجمة
هيغل(٢٠١٤) دروس في الاستطيقا. منشورات الجمل