العطسة: تأملات فينومينولوجية
شيخة اليلك
“لتحيا! يحفظك الإله زيوس” (الإغريق القدامى)[1]
“الأرواح المباركة عطست عليك بركاتها!” (الرومان)
“عطس ابني البركات على جميع كلماتي” (بينولوبيه زوجة يوليسيس)
“عشت!” (الهندوس)
“يهبك الرب الحياة” – “صحة!” (اليهود)
“ليباركك الرب” (المسيح)
“يرحمك الله” (المسلمين)
تتعدد العبارات التي تقال عند تشميت العاطس بتعدد الثقافات، وأغلب هذه العبارات تأتي على شكل دعاء بحلول بركة أو رحمة إلهية. يبدو أن الدعاء للعاطس أصبح ومنذ زمن بعيد أمر مفروغ منه وبديهي على مر العصور. ولكن مهلاً، لم نفرغ منه أنا وصديقتي حتى الآن.
سمعت هذه الكلمة “مهلاً” في تساؤلٍ أثارته تلك الصديقة عندما دغدغ الهواء البارد أنفها في أحد أيام الخريف. أتى ذلك التساؤل بعد ما سَمِعتُ صوت عطستها للمرة الأولى. لم يكن صوتاً مألوفاً لي. كان مختلفاً عن صوتها عندما تتحدث، تضحك، تتنهد، أو تغني. كان صوتاً آخر، بتردد آخر، يتحدث بكلماته الخاصة، بكلمات أخرى بعيدة عن الكلمات، صوت يقول ما لا يمكن أن يُقال بالكلمات، صوت يتحدث عن الآخر، يتحدث عنها ويقول “اسمعيها، التفتي، أنها هنا. لا، ليس جسدها، بل هي“.
اخبرتني تلك العطسة بشيء ما جعلني وبعفوية أردف “يرحمكِ الله” بـ “لم أسمع صوت عطستكِ من قبل”. لا أعلم لما قلت ذلك. ولكن حتماً كانت هذه بداية تأملي بما وراء تلك العطسة. ضَحِكت بخجل من قولي الأخير ثم شكرتني وهي تشعر حتماً بتأملي، ثم تساءلت معي، كما تفعل عادةً، وبنغمة تقابل، بل وتحث تأملي: “ماذا يعني حقاً أن نُشمّت العاطس؟ ولما ندعو له بالرحمة الإلهية؟”
في حين كانت البداية الفعلية لهذا التأمل بالنسبة لها في لحظة تساؤلها: “ماذا يعني أن نُشمّت العاطس؟” يبدو أن البداية كانت بالنسبة لي عند “لم أسمع صوت عطستكِ من قبل”، وهناك شيء مشترك بين تلك اللحظتين. فإن سماعي لعطستها للمرة الأولى هو ما جعل “يرحمكِ الله” مسموعة بشكل مختلف لديها، فهي أيضاً لم تسمع مني هذه العبارة إلا بعد تلك العطسة، والتي أرغب بتسميتها هنا “بالعطسة المُلهمة”.
توقفنا هناك. أعتقد أننا ما زلنا هناك في تلك اللحظة؛ مازلنا نسمع ذلك الصوت. هناك، في الهدوء المشبّع بصوت تلك العطسة. ماذا حدث في هذا الحدث الذي قد يبدو عادياً ومألوفاً جداً؟ حلقنا معاً في رحلة غريبة، رحلة تأمل بالعطسة المألوفة بصوتها، وبصوت الدعاء الملازم لها. لم تكن محاولة استحضار المشهد مرة أخرى أمراً ضرورياً، فقد كان صوت العطسة والدعاء يرّنان في أذهاننا معاً. في الواقع، لقد قمنا بتغريب هذا المشهد المألوف معاً، فهذا ما شاهدناه وسمعناه معاً مراراً وتكراراً:
تبدأ العطسة بدخيل يستثير الأنف تتبعه شهقة مسموعة مع استنشاق للهواء بسرعة وحجم متساويان. تُغمَض العينين ليخرج نفس ذلك الهواء من الأنف والفم بسرعة كبيرة جداً طارداً معه أي أجسام دخيلة ومسبباً صوتاً لا بد أن يكون مسموعاً، مهما حاول العاطس إخفاءه. عند مراقبتنا لمشهد العطسة بدقة، بدا لنا أن هناك أمرين مثيران للاهتمام فيها: حقيقة عدم قدرة العاطس على فتح عينيه أثناء العطسة، وصعوبة حبسها أو اختلاقها.
تُغمض العينين أثناء العطسة بالضرورة، فلا يستطيع أحدٌ أن يعطس وعينيه مفتوحتين مهما حاول. في الواقع، لا يمكن ذلك أبدا. مع أن العطسة تبدأ وتنتهي في غضون الثانية، إلا إن إغماض العينين في تلك اللحظة صفة أساسية للعطاس. استحضارنا لذلك المشهد استحضر معه العطسة المترددة، تلك التي يُقاومها الجسد. تغمض العينين وتفتح، تأتي وتذهب. يُقال ان الضوء الساطع غالباً ما يناديها. أتذكر ذلك الصباح المشمس الجميل عندما كنت أمشي مع أختي في مكان محاطٍ بالأشجار والأزهار، مكان يملئه هواء نقي بارد وشمس دافئة. وبينما كنا نتحدث عن ضرورة محاولتنا للفصل بين مشاعرنا أو حالاتنا المزاجية ورؤيتنا للأشياء، أحسّت بعطسة مترددة تداهمني، تحضر وترحل، فقالت وبسرعة: “واجهي ضوء الشمس! وسوف تعطسين”. في الواقع، لم أعطس وقتها، فقد غادرتني العطسة حالما توجه كل تركيزي نحو ما قالته لي عن ضوء الشمس؛ لمَ ضوء الشمس؟ بعد ذلك علمت انه علمياً، يؤثر الضوء الساطع على بؤبؤ العين فينقبض، وقد يسبب هذا الانقباض وبشكل غير مباشر احتقاناً مؤقتاً للأغشية المخاطية للأنف، مما يؤدي بعد ذلك الى العطس.
لولا تشتت تركيزي الذي شعرتْ به العطسة وتبددتْ معه فوراً، لأغمضت عيني رغماً عني عن الشمس وضوئها الساطع، لأغمضتها رغماً عني عن أختي، وعن الطبيعة الجميلة بأشجارها وأزهارها وعصافيرها المغردة وقططها المتجولة. يبدو أن العينين تُغمض لتسمح للعاطس وفي لحظة وجيزة باستشعار حياة جسده بعيداً عن جسده وبعيداً عن محيطه. تُغمض العينين فلا يرى العاطس جسده ولا شيئاً من العالم الخارجي. لا حاجة لفتح العينين في تلك اللحظة، فهي لحظة تسكن ما وراء العالم المرئي، إنها لحظة مخصصة للروح الدابة في الجسد.
حين نرى العينين المغمضة تلك نرى عجز التحكم بالجسد. وبالحديث عن العجز، فإن محاولة حبس العطسة أمر بالغ الصعوبة أيضاً. صحيح أن العطسة تبدأ بدغدغة في الأنف بلطافة، إلا أنها عنيدة فهي لا تقبل الحبس وتحدث رغماً عن محاولات منعها. ومع ذلك فإن حاول أحدهم، فقد ينجح بحبسها، ولكنه لن يتغلب عليها تماماً لأن حبس العطسة أمر خطير جداً. في الواقع، تذكر بعض الدراسات العلمية ان كبت هذا الضغط العالي قد يؤدي إلى اضرار مثل تمزق طبلة الاذن أو الأوعية الدموية في المخ مما قد يسبب نزيف داخل الجمجمة. لذا تأتي الاستجابة الجسدية العفوية لها، فذلك الضغط العالي يحث العاطس وبإلحاح أن يغمض عينيه ويستجيب ويُطلق صراح نداء جسده. وكما يصعب إغماض العينين أثناء العطسة أو حبسها، فإنه يصعب أيضاً اختلاقها. أعني قد يتمكن أحدهم بالطبع من اختلاقها بطرق مختلفة كاستنشاق مثيرات معينة مثلاً، ولكن وعلى عكس السعال الذي يمكن وبسهولة تزييفه وفي اللحظة، فإنه يصعب اختلاق لحظة العطسة في الحال، يصعب اختلاق تلك اللحظة التي تستحضر معها وبشكل ما خروج الروح من الجسد. انها لحظة لا تزييف فيها، لحظة صادقة، وصادقة بندائها.
بعد العطسة وعند فتح العينين، نستشعر رحمة تجاه العاطس عند شعورنا بالراحة التي يشعر بها فنحن نعرف ذلك الشعور جيداً، نستشعره وبتعاطف كما شعورنا بالحاجة للتثاؤب عندما يتثاءب، بالضحك عندما يضحك، وبالبكاء عندما يبكي. كل هذا يحدث في ثواني معدودة تلحقها عبارة التشميت بسرعة وبدون تردد، فتأتي العطسة مع هذا الدعاء جنباً إلى جنب. يخرج الدعاء بعفوية مشابهة لعفوية العطسة، يخرج غالباً بدون إعادة تفكير أو تقييم وبدون استثناء. فالصديق والغريب يُشمّت، والصغير والكبير. القريب من العاطس يشمّت عن قرب، والبعيد قد يكتفي بابتسامة؛ يبتسم ليقول أنه سَمِع صوت الحياة، سَمِع صوت القوة وصوت الضعف؛ سَمِع نبضات قلب تدب في جسد، بأعلى وأرّق صوت.
يكاد يكون تشميت العاطس بين الناس استجابة بديهية وربما تغيبت المعاني الرقيقة الملازمة له. في حين انه امر واجب عند بعض الأديان، وامر لبق في الثقافات عامةً، إلا أنه أمر إنساني لطيف ومستحسن.
يبدو أن الدعاء للعاطس بالرحمة يكشف عطف الإنسان على الآخر للدرجة التي يحتاج فيها لدعاء ورحمة إلهية تفوق رحمة البشر. ذُكرت هذه الرحمة في أحد روايات خلق آدم عندما بُثّت فيه الروح، عطِس فيعلمه ربه أن يحمده بعد أن بث في جسده الحياة فتكون “الحمدلله” أول كلماته. ثم تدعو له الملائكة برحمة من الله، رحمة إلهية تعانق ضعفه البشري، وتهديه روحه، وقلبه النابض بالحياة، والدم الذي يجري في عروقه، وقوته الجسدية المستعدة للعيش. من الممكن أن تُثير العطسة بعض القلق لأسباب عدة كالعدوى أو الحساسية أو المرض فيصبح الدعاء ذا معنى مختلف. ولكنها، وقبل كل هذه الافتراضات، إعلان مسموع عن الحياة؛ فهي تعلن وبصوت واضح للجميع أن هذا الجسد حي يرزق حتى مع إغماض العينين. تعلن بأعلى صوت أن هذا الجسد الرقيق حي. أي أن هذا الجسد فانِ، أنه غير أبدي. ولكنه وفي تلك اللحظة، في لحظة إغماض العينين لبرهة، جسد نابض وحاضر، فتأتي “يرحمك الله” للعاطس بكاف الخطاب، والتي تشابه وتستدعي معها “رحِمه الله” بضمير الغائب؛ دعاء لغائب مغمض العينين أبداً. يلتفت الجميع عند سماع صوت الحياة. لا بد أن يلاحظ الجميع هذا الشخص العاطس ولا بد أن يناديهم ذلك الصوت باتجاهه ليتذكروا فناء الجسد، وليتذكروا ضرورة التذكر، وعدم نسيان الضعف. هذه تذكرة لطيفة ومِعطاءة، فهي تأخذ بأيدينا نحو العطف والرحمة تجاه الآخر، ترقق قلوبنا فندعو له.
ماذا عمن لا نشمته لفظاً كالأطفال الرُضّع مثلاً، أو حتى الحيوانات الأليفة؟
على عكس العطاس، قد يثير سعال الأطفال قلقاً أكبر يدفع الأم أو الأب لمعرفة سببه. ولكن لا يحدث ذلك غالباً عند العطس، فهو عامةً منظر رقيق ولطيف وخاصة عند الأطفال. قد تدعو رقة الأمهات والآباء لتشميت أطفالهم الصغار بعفوية مع علمهم بعدم استيعابهم لمعنى العبارة، ولكنهم حتماً يفعلون شيئاً آخر عند هذا الحدث. تجعيده لطيفة على أنوف الأطفال الصغيرة تدفعهم لإغماض أعينهم فيخرج صوت لطيف يداعب القلب، فنحن نعلم بالراحة الأكيدة التي تصاحب تلك العطسة، والتي غالباً ما تدفع الأم أو الاب لاحتضان أطفالهم أو مداعبتهم بلطف بدلاً من الحرص على التلفظ بأي عبارات. شاهدت واستشعرت تلك العطسة الطفولية، وشهدت لطافة مماثلة في عطسة أحد قططي.
لا أنوي أن اضع الاثنين هنا في كفة واحدة؛ إن البراءة المشتركة هي ما تجعلني أستحضر تلك اللطافة التي تتركز في الكائنات الأليفة. لا يمكنني وصف كائنات عدة هنا، سيكون هذا أمراً غريباً جداً لأنني لم أعش يوماً مع حيوان بري مثلاً، أو مع أي حيوان أليف آخر سوى القطط. لم تسبب لي يوماً عطسة أي من قططي أي قلق لأنها، وفي معظم الأحيان، ردة فعل طبيعية. أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها عطسة أحد قططي. كما عطسة الإنسان، كان صوت عطستها غير مألوف، صوت لا يشبه مواءها، ولا خرخرتها؛ كان صوت آخر يقول انظري إليّ ولا تنظري، اسمعي صوتي ولا تسمعيه. أنا هنا. الأكيد والطريف أنني لا أشمّت قطتي عند سماعي لذلك الصوت، ولكنني بدلاً عن ذلك أعانقها أو أُربت على رأسها وظهرها؛ يبدوان هذان الأمران مُشابهين كثيراً للمعنى العميق للتشميت.
لا يمكن السيطرة بسهولة على هذا الدفع السريع للهواء من خلال الانف والفم، وحتى لو حاول أحدهم، فإنه سيفشل إن تأخر جزءاً من الثانية ما بين كبت العطسة وسماع دويها المباغت. يبدو أن العطسة تُرينا ضعفاً في أنفسنا وفي الآخرين، ضعف ضروري، فهو يرقق قلوبنا ويجعلنا ندعو برحمه إلهية. ضعف صوته عالي ينادينا لنستجيب له، يجعلنا نمد أيادينا بعفوية وليس فقط لمناولة المناديل والمحارم … يجعلنا نرى الطفل بلطف زائد اثناء عطسته الهادئة … يجعلنا نرى الشاب اليافع النشيط وهو يتوقف للاستجابة لتلك المباغتة بعيون من رحمة … نرى الشيخ الكبير بعطف أكبر أثناء فتحه لعينيه برفق بعد تلك المداهمة غير المتوقعة … تتجلى أمامنا هشاشة روح لتذكرنا بان هناك حاجة دائمة للرحمة … تذكرنا بأن لا ننسى ذلك الصوت وأن نستمر بسماعه بمختلف تردداته وفي كل حين، وليس فقط في تلك اللحظة المدوية الصارخة.
[1]تم اقتباس هذه العبارات من المرجع:
Wallis, Wilson D. “The Romance and the Tragedy of Sneezing”. The Scientific Monthly
Vol. 9, No. 6 (Dec., 1919), pp. 526-538.
https://www.jstor.org/stable/6847?seq=1#metadata_info_tab_contents