تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
تخيّل أنك عبدٌ في روما القديمة، الآن تذكّر كونك عبدًا في روما القديمة. ستبدو لك المهمة الثانية مهمة مجنونة بخلاف الأولى. إذا كنتَ، كما أعتقد، لم تكن أبدًا عبدًا في روما القديمة، فسيترتب على ذلك عدم إمكانية تذكّر كونك عبدًا، ولكن لا يزال بإمكانك ترك خيالك يتّقد. إذ يمكن للمرء، مع القليل من الجهد، أن يتخيل المستحيل، مثل اكتشاف أن ديك تشيني ومادونا هما في الحقيقة شخصًا واحدًا. يبدو وكأنه من المبتذل القول أن التخيّل هو مملكة الخيال، والواقع هو مملكة المعرفة.
لماذا طوّر البشر القدرة على تخيّل بدائل للواقع؟ هل كانت رواية القصص في عصور ما قبل التاريخ مثل ذيل الطاووس، ليست ذات فائدة عملية مباشرة لكنها طريقة جيدة لجذب رفيقة؟ فقد أبقت رواية القصص شهرزاد على قيد الحياة طوال الألف ليلة وليلة كما تقول الحكاية.
يتبين، بمزيدٍ من التفكير، أن التخيّل موجّه إلى الواقع أكثر بكثير مما توحي به الصورة النمطية. فإذا تخيل طفلٌ ما أن العبد في روما القديمة كان يقضي حياته بشكلٍ أساسي في مشاهدة الرياضة على التلفاز، مع القيام بأعمال منزلية من حينٍ لآخر، فإنه حتمًا يتخيل ذلك بشكلٍ خاطئ. لم يكن هذا ما كان يعنيه أن تكون عبدًا. فالخيال ليس مجرد مولّد أفكار عشوائي. ويكمن الاختبار في مدى قدرتك على الاقتراب من تخيّل حياة العبد كما كانت فعليًا، وليس مدى قدرتك على الانحراف عن الواقع.
إنّ قدرة الخيال الموجَّهة للواقع لها قيمة نجاة جليّة. وذلك من خلال تمكينك من تخيّل جميع أنواع السيناريوهات، فالخيال ينبهك إلى المخاطر وإلى الفرص. فأنت تعبر داخل كهف وتتخيل قضاء الشتاء فيه مع فرصة وجود نيران دافئة، ثم تتخيّل دُبًا يستيقظ في باطن الكهف فيكون خطرًا. يمكنك أن تضع هذه الاحتمالات، بعد أن تخيلتها، في الاعتبار عند التخطيط للطوارئ. فإذا كان ثمة دبّ في الكهف، فكيف ستتعامل معه؟ وإذا كنت تقضي الشتاء هناك، فماذا ستفعل لتوفير الطعام والشراب؟ تتطلب الإجابة على هذه الأسئلة مزيدًا من التخيل الذي يجب أن يكون مُوجَّهًا إلى الواقع. يمكنك، بالطبع، تخيّل أنك تقبِّل الدُّب الغاضب وهو يخرج من الكهف بحيث يصبح صديقك مدى الحياة ويُحضِر لك كل الطعام والشراب الذي تحتاجه؛ لكن، من الأفضل عدم الاعتماد على مثل هذه الأوهام! دع تصوراتك، بدلاً من ذلك، تتطور بطرق أكثر استنارة من خلال معرفتك بحقيقة كيفية حدوث الأشياء.
إنّ تقييد الخيال بالمعرفة لا يجعل من الخيال أمرًا غير ضروري. فنحن نادرًا ما نعرف صيغة واضحة تخبرنا بما يجب فعله في موقف معقّد التركيب. علينا أن نتوصل إلى ما يجب فعله من خلال التفكير مليًا في الاحتمالات بطرق تخيلية وواقعية في الوقت ذاته، وهذا لن يعني أننا سنفقد شيئًا من إبداعنا عندما نكون أقرب للواقعية. فالمعرفة بعيدًا عن تقييد الخيال، تمكِّنه من أن يقوم بوظيفته الجوهرية.
يمكننا، للمضي قُدمًا، استعارة تمييز من فلسفة العلم بين سياقات الاكتشاف وسياقات التعليل. إذ نحصل، في سياق الاكتشاف على أفكار بغض النظر عن الكيفية، عبر الأحلام أو العقاقير. ثم نُجمِّع في سياق التعليل، الأدلة الموضوعية لتحديد ما إذا كانت هذه الأفكار صحيحة أم لا. ولا تنطبق معايير العقلانية، في هذه الصورة، إلا على سياق التعليل، وليس على سياق الاكتشاف. فمَن يقلل من أهمية الدور المعرفي للخيال يقيِّده بسياق الاكتشاف ويستبعده من سياق التعليل؛ لكنه مخطئ، فالخيال يلعب دورًا حيويًا في تعليل الأفكار وفي توليدها في المقام الأول.
إن اعتقادك بأنك لن تكون مرئيًا من داخل الكهف إذا جثمت خلف تلك الصخرة قد يكون له ما يعلِّله؛ لأنك يمكنك تخيّل كيف ستبدو الأمور من الداخل. ولتغيير هذا المثال، ماذا سيحدث إذا غادرت جميع قوات الناتو أفغانستان بحلول عام 2011؟ ماذا سيحدث إذا لم تفعل ذلك؟ يتطلب تعليل الإجابات على هذه الأسئلة العمل بشكلٍ تخيلي من خلال سيناريوهات مختلفة بطرق مستنيرة بعمق مع المعرفة بأفغانستان وجيرانها. فلا يمكن للمرء، من دون الخيال، أن ينتقل من معرفة الماضي والحاضر إلى توقعات مُعلّلة حول المستقبل المُعقَّد. نحتاج إلى الخيال كذلك للإجابة على أسئلة حول الماضي. هل كانت عائلة روزنبرغ (زوجان يهوديان اتُهِما بالتجسس لصالح السوفيت) أبرياء؟ ولماذا انقرض إنسان نياندرتال (إنسان ما قبل التاريخ)؟ يجب علينا أن نضع عواقب الفرضيات المنافسة مع الخيال المنضبط لمقارنتها بالأدلة المتوفرة لدينا. حيث نطبق في استخلاص الآثار المترتبة على سيناريو ما، الكثير من إدراكنا المعرفي ذاته سواء كنا نعمل عبر الإنترنت مع مدخلات من الإدراك الحسي، أو دون الاتصال بالإنترنت مع مدخلات من الخيال.
حتى تخيل أشياء تتعارض مع معرفتنا يساهم في نمو معرفتنا، على سبيل المثال في التعلم من أخطائنا. وقد نتعلم، عند الدهشة من العواقب السيئة لأفعالنا، كيفية فعل ما هو أفضل من خلال تخيل ما كان سيحدث إذا كنا تصرفنا تصرفًا مختلفًا عن الطريقة التي نعرف بها جيدًا تصرُّفنا.
يتمثل الدور الواضح للخيال، في العلم، في سياق الاكتشاف. فالعلماء المفتقرون إلى الخيال لا ينتجون أفكارًا جديدة أصيلة؛ لكن حتى في العلم نجد الخيال يؤدي دورًا في التعليل أيضًا، إذ لا يمكن للتجربة والحساب إجراء عمل الخيال بالكامل. وعند استخدام النماذج الرياضية لاختبار تخمين ما، فإن اختيار نموذج مناسب قد ينطوي في حد ذاته على تخيل الكيفية التي كانت ستسير بها الأمور إذا كان التخمين صحيحًا. وعادةً ما يعلّل علماء الرياضيات مسلِّماتهم الأساسية، لا سيما تلك الخاصة بنظرية المجموعات، من خلال استدعاءات غير رسمية للخيال.
أحيانًا ما يكون الرد الوحيد الصادق على سؤالٍ ما هو قولنا : “لا أعرف”. و قد يعتمد المرء، عند إدراك ذلك، على الخيال بالقدر ذاته ، لأن المرء يحتاجه لتحديد كون العديد من الفرضيات المتنافسة متوافقة بشكل متساوٍ مع الدليل المنفرد.
لا يكمن الدرس في أن كل الاستقصاءات الفكرية تتعامل مع القصص الخيالية. بل المقصود هو الرجوع إلى الصورة النمطية البدائية للخيال، تلك التي يُحتاج إلى التزود منها دومًا. والدرس الأفضل من ذلك هو أن الخيال لا يتعلق بالتخيّل فحسب: بل إنه جزء لا يتجزأ من تقدّمنا المؤلم في فصل الخيال عن الواقع. صحيحٌ أن التخيل هو استخدام هزلي للخيال، لكن ليست كل استخدامات التخيل هزلية. مثل لعب القطة بالفأر الصغير، فقد يُظهِر التخيل القصصي صورة منتج ثانوي ذا استخدامات مزعجة ويصقل مهارات المرء لهذه الاستخدامات.
يشكو نقاد الفلسفة المعاصرة أحيانًا من أنها تفتقر إلى الاتصال بالواقع عند استخدام التجارب الفكرية؛ بينما يتذمرون بدرجة أقل من تجارب جاليليو وآينشتاين الفكرية وتجارب الفلاسفة الأوائل. وإذا كان أفلاطون قد استكشف طبيعة الأخلاق بسؤاله عن كيفية تصرف المرء إذا كان يمتلك خاتم جيجس، الذي يجعل مَن يرتديه غير مرئي؛ فإننا اليوم، يمكننا دحض دعوة أحدهم بأن العلم بطبيعته نشاط بشري، من خلال التقدير الخيالي لإمكانية وجود علماء خارج الأرض. ويمكن، بمجرد التعرف على التخيل كوسيلة طبيعية للتعلم، اعتبار استخدام الفلاسفة المعاصرين لهذه التقنيات مجرد تطبيقات منهجية ومستمرة بشكل غير عادي لجهازنا المعرفي العادي. لا يزال هناك الكثير مما يجب فهمه حول كيفية عمل الخيال كوسيلة للمعرفة، ولكن إذا لم ينجح، فلن نكون موجودين الآن للاستمرار في طرح السؤال.
الكاتب: تيموثي ويليامسون هو أستاذ ويكهام في المنطق في جامعة أكسفورد، وهو زميل في الأكاديمية البريطانية وعضو فخري أجنبي بأكاديمية الفنون والعلوم. كان أستاذًا زائرًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة برينستون. تتضمن كتبه “الغموض” (1994)، و”المعرفة وحدودها” (2000)، و”فلسفة الفلسفة” (2007).
المترجمة: أستاذة النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة.
Reclaiming the Imagination
Timothy Williamson
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”