تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١٨ أغسطس ٢٠١٢
ثمة فقرة لافتة للنظر في بداية كتاب “الأنا والهو” لفرويد، حيث يشير إلى أن الهو تتصرف “كما لو” كانت لا واعية. قد تكون العبارة مُحيِّرة، لكن المعنى واضح: فالهو هي المحرك السري لرغباتنا، تلك الرغبات التي تحفز حياتنا الواعية، لكن الأنا لا تتعرف عليها على هذا النحو. إذ الأنا – التي نعتبرها ذاتنا الواعية والمستقلة – جاهلة بفاعلية الهو، وترى نفسها في مقعد السائق بدلاً من ذلك. يقدم فرويد الاستعارة التالية: الأنا مثل رجل يمتطي حصانًا، يكافح ليحتوي الوحش القوي تحته؛ إلى الحد الذي تنجح فيه الأنا في توجيه هذا الوحش، ولا يكون ذلك إلا من خلال “تحويل إرادة الهو إلى عمل كما لو كان هذا العمل خاصًا بالأنا”.
إن الاستقلالية الواعية، وفقًا لتفسير فرويد، عبارة عن أُحجية؛ “نحن نعيش” – على حد تعبيره – لكننا لا نرى الأمر على هذا النحو. يشير فرويد، بالفعل، إلى أنه ليكون المرء إنسانًا فعليه أن يتمرد على تلك الرؤية – أي الحقيقة. فنحن نميل إلى أن نرى أنفسنا باعتبارنا فاعلين مقررين لمصائرهم واعين لأنفسهم في كل ما نقرره ونفعله، ونتشبث بهذه الصورة، لكن لماذا؟ لماذا نقاوم الحقيقة؟ لماذا نرغب – نجاهد ونكافح ضد جوهر الواقع – بأن نكون أفرادًا مستقلين، ونرى أنفسنا على هذا النحو؟
ربما يكون فرويد متشككًا للغاية فيما يتعلق بالاستقلالية الواعية، لكنه محقّ في التشكيك في افتراضنا لذلك. إنه محق في الإشارة إلى أننا عادةً ما نتجاهل، على نحوٍ خاطئ، المدى الذي تُحدِّدنا به قوى غير معلومة، ونبالغ في تقدير ضبط أنفسنا. إن الطريق إلى السعادة أو بعض مظاهرها، من وجهة نظر فرويد في وصفه العاصف عن النفس، ينطوي على قبول حالتنا الأساسية. لكن لماذا نفترض وجود فاعلية فردية في المقام الأول؟ لماذا نصر عليها إصرارًا عنيدًا، وغير عقلاني، ومتهورًا في كثيرٍ من الأحيان؟
ذكرتني مقالة مؤثرة في صحيفة التايمز قبل بضعة أشهر بمفارقة فرويد. إذ تصف المقالة مقاطعة في مينيسوتا تميل للجمهوريين، وتتحدث عن رغبة ناخبيها المتضاربة في الاعتماد على ذاتهم (“حتى منتقدي شبكة الأمان يعتمدون عليها اعتمادًا متزايدًا” 11 فبراير). استشهدت المقالة بدراسة أجراها أستاذ العلوم السياسية في كلية دارتموث دين لاسي، حيث كشفت الدراسة أنه رغم دعوة الجمهوريين إلى إجراء تخفيضات كبيرة في شبكة الأمان، فمقاطعاتهم تعتمد على الدعم الحكومي أكثر من نظرائهم الديمقراطيين.
تحدث مراسلو التايمز مع السكان في مقاطعة تشيساغو بولاية مينيسوتا، الذين أيدوا حركة حزب الشاي وتخفيضاتها المقترحة للإنفاق الفيدرالي، حتى في الوقت الذي اعترفوا فيه بأنهم لن يستطيعوا تدبير أمورهم دون الدعم الحكومي. يوصَف عادةً المتحمسين لحركة حزب الشاي والكثيرين من اليمين المتطرف بالحزب الجمهوري بأنهم جماعة من الطبقة الوسطى المكتفية ذاتيًا، الذين يشعرون بالغضب من إعالة الفقراء العاطلين عن العمل بدولاراتهم الضريبية. وقد كشفت مقاطعة تشيساغو عن جانبٍ مختلف من هذا الغضب: وهو ادعاء الأمريكيين الذين يعانون اقتصاديًا الفردية القوية وتقرير المصير، وإحباطهم بسبب فشلهم في تحقيق هذا المثل الأعلى.
لماذا هذا الإصرار العنيد على تقرير المصير رغم الحقائق؟ قد يقول المرء أن هناك شيئًا ما أمريكيًا عميقًا في هذا الأمر، ألا وهو فرديتنا الشرسة التي تشع من خلاله. يتشبث سكان مقاطعة تشيساغو بمفاهيم الاعتماد على الذات في الماضي قبل الركود، قبل دولة الرفاهية. وهو أمر مثير للإعجاب بطريقةٍ ما. ويستحضر، بطريقةٍ أخرى الاستقلالية الوهمية لـ “أنا” فرويد المسكينة.
هؤلاء الناس، مثل كثيرين في جميع أنحاء البلاد، يعتمدون على المساعدة الحكومية؛ لكنهم يتظاهرون بأنهم لا يفعلون ذلك. حتى أنهم يستاءون من الحكومة بسبب اعتمادهم على مساعدتها. لكنهم إذا نظروا عن كثب، فسيرون أننا جميعًا مشبعين بالكامل بالمساعدة الحكومية في هذا البلد: الإعانات الزراعية التي تُخفِّض أسعار المواد الغذائية لنا جميعًا، وتخفيضات فوائد الرهن العقاري التي تفضل بشكلٍ غير متناسب ضمانات الرهن العقاري الفيدرالية الغنية التي تحافظ على معدلات الفائدة منخفضة، وزارة دفاع متضخمة تدعم قطاعات كاملة من الاقتصاد وتوفر العمل لمئات الآلاف من الأشخاص. فنحن لا يمكننا أن نفهم عمق اعتمادنا على الحكومة، ونتظاهر بدلاً من ذلك بأننا فردانيون جريئون.
لقد تجلى سياسيًا استمرار هذا الوهم، بما أننا في عام الانتخابات. ولا سيما باعتباره أساسًا في أيديولوجية الحزب الجمهوري – بدءًا من إصرار رون بول خلال الانتخابات التمهيدية على أن الحكومة لا ينبغي أن تتدخل لمساعدة غير المؤمّن عليهم حتى عندما يكونون مصابين بمرضٍ مميت، إلى خبث ريك سانتوروم مع المدارس العامة، وحتى اختيار ميت رومني لبول رايان كنائبٍ له. ليس هناك شك في أن الفردية الراديكالية ستبقى نقطة بيع مركزية في حملة الحزب الجمهوري. يدعو عمل رايان المميز، اقتراحه للميزانية الفيدرالية، إلى إجراء تخفيضات جذرية في برامج التأمين الصحي (Medicaid) والرعاية الصحية (Medicare) ومنح بيل (Pell) وبرامج التدريب على الوظائف، من بين أمور أخرى. ولم يكن مفاجئًا، كما كشفت صحيفة نيويوركر في ملف شخصي حديث عن ريان، أن المقاطعة الرئيسة التي تدعمه يعززها سخاء حكومي كبير.
يحظى الأفراد المعلنون، بالطبع، بوقتٍ هين فيما يتعلق بقطع الخدمات عن الفقراء. لكن هذا الأمر مضلل، فهناك العديد من المقاطعات في جميع أنحاء البلاد التي قد تشعر بأنها معزولة عن تجارب المعدَمين مثل مقاطعة تشيساغو. ربما يرجع ذلك إلى قدرة هذه المقاطعات على تجاهل الفقر الكامن في وسطهم، أو لأنهم متجانسون إلى حدٍ ما ومُبعَدون جغرافيًا عن تمركزات الفقر، مثل الأحياء الفقيرة في المناطق الحضرية. لكن مصير مقاطعات الطبقة الوسطى والأحياء الحضرية الفقيرة متشابك. فعندما يُترك الفقراء يتعفنون في بؤسهم، لا يبقى البؤس محتجزًا، بل يضرنا جميعًا. إذ تشيع الجريمة، ويؤدي البؤس إلى ارتكاب الجرائم، الأمر يحط من الجميع. فلا يمكن عزل الأفراد، ناهيك عن المجتمعات، عن هذه النتائج.
لقد نسينا اختبار العيش من دون الشبكة الآمنة، بفضل وجودها على مدار عقودٍ من الزمن؛ لذلك قال المؤرخ توني جودت أنه إذا كان من السهل على البعض التحدث بشغف عن عالم دون حكومة، فلا يمكننا بشكلٍ كامل تخيّل أو تذكّر الكيفية التي يبدو عليها هذا العالم. لا يمكننا حقًا تقدير الفظائع التي شهدها أبتون سنكلير في مسالخ شيكاغو قبل اللوائح التنظيمية، أو عبء العيش دون التطلع إلى الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية. يمكننا، بالتالي، الاستمتاع بالحنين إلى وقتٍ كان فيه كل شخص يعتني بنفسه، ويتحمل مخاطرته الخاصة، وكان سيد مصيره. كان ذلك الوقت أسطورة. لكن فكرة الاعتماد على الذات هي أيضًا مغالطة.
أثّر سبينوزا تأثيرًا كبيرًا على فرويد، وأضاف رؤية مقنعة سيساعدنا كثيرًا أن نأخذها في الاعتبار، إذ تساءل سبينوزا أيضًا عن التظاهر البشري بالاستقلالية.
فقال إن الناس يؤمنون بأنهم أحرار لمجرد أنهم يدركون إرادتهم وشهواتهم، لكنهم محدودون كليًّا. لقد ادعى سبينوزا في الواقع – ما أثار صدمة معاصريه – أننا جميعًا مجرد أنماط من مادة واحدة، أطلق عليها “الله أو الطبيعة”، والتي هي في الحقيقة شيء واحد. وأن الأفعال الفردية ليست بفردية على الإطلاق؛ بل هي تعبيرات عن كيانٍ آخر بالكامل، يعمل من خلالنا عن غير قصد. أن تكون إنسانًا، وفقًا لسبينوزا، يعني أن تكون طرفًا في وهم وجودي مربك – بكون الأفراد البشر فاعلين مستقلين – الأمر الذي يفرض علينا خسائر عاطفية وسياسية فادحة. إنه مصدر القلق والحسد والغضب – كل المشاعر التي تعذب نفسنا – والعنف الذي يترتب على ذلك. يؤكد سبينوزا أنه إذا كان بإمكاننا أن نرى طبيعتنا كما هي حقًا، وإذا كان بإمكاننا أن نرى أنه لا يوجد على الإطلاق “أفراد” بالمعنى الصحيح للكلمة، فسيفيد ذلك البشرية بشكلٍ كبير.
يشير سبينوزا إلى أنه ليس هناك فرد منفصل. فهذا خيال، وحدود “الأنا” مطّاطة وغير واضحة. نحن جميعًا مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بطرقٍ لا حصر لها لا يمكننا إدراكها. فقراراتي وخياراتي وأفعالي مستوحاة من الآخرين مدفوعة بهم إلى حدٍ كبير. حاجج سبينوزا إن المشاعر تنبع من رؤية الناس كأفراد مستقلين مسؤولين عن جميع الأفعال المرفوضة التي تصدر عنهم. وفهم الطبيعة المترابطة لكل شخص وكل شيء هو المفتاح لتقليل العواطف والفوضى التي تسببها.
يبدو أن سبينوزا والرئيس أوباما متفقان في ذلك: فنحن جميعًا في هذا الأمر معًا. لسنا وحدنا مَن نُقرِّر مصيرنا، فكل واحد منا كذلك، أقدارنا متشابكة – بشكلٍ فوضوي وغير متوقع. ومطالبنا الثقافية بالفردانية متطرفة للغاية. يخبرنا سبينوزا وفرويد أنها غير عقلانية بنيويًا، وعواقبها المحتملة وخيمة. نعيش، بفضل شبكة الأمان الخاصة بنا، في مجتمعٍ يؤكد اعتماد الجميع وتكافلهم. يؤكد ذلك، إلى هذا الحد، حقيقة أساسية لطبيعتنا نتخلى عنها على مسؤوليتنا الخاصة.
الكاتب: أستاذ مشارك في الفلسفة في كلية الفنون بمعهد ماريلاند في بالتيمور ومؤلف كتاب “سبينوزا والرواقيون”.
المترجمة: أستاذة النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة.
Deluded Individualism
Firmin Debrabander
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”