تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
نقضي اليوم، وبشكل أكبر من أي وقت مضى، أوقاتنا منغمسين في اللغة. نتواصل تحدثًا وكتابة وقراءة من خلال مجموعة مزدهرة من الوسائط والتقنيات. ولكنَّ القليلَ منا يقف للتفكّر في كيفية عمل اللغة أو كيف لنا أن ننجح في إيصال أفكارنا من خلال الكلمات. يبدو لنا أنَّ كل هذه الأمور تحدث بشكل طبيعي. الشعراء والروائيون وكتّاب الخطابات أو المتسائلون عمومًا يواجهون تلك الأسئلة المتعلقة بعمل اللغة، ولكنها تبقى المهمة التي تقع كثيرًا على عاتق اللغويين وفلاسفة اللغة.
هنا إحدى الأحاجي الملفتة للانتباه. من الواضح أننا نتحدث ونكتب بأهداف مختلفة. نحاول أحيانًا أن نكون واضحين تجاه الوقائع، فنحاول أن نصل إلى اتفاق حول ما هي عليه الأمور في الواقع. ولكننا في أحيان أخرى نحاول أن نعبّر عن أنفسنا بحيث نقبض على انفراد رؤانا وخبراتنا. الأمر ذاته للمستمعين، إذ تمكّننا اللغة من معرفة الإجابات عن الأسئلة العملية، ولكنها أيضًا تطلعنا على التبصّرات والمنظورات الجديدة. وبشكل أسهل نقول: تمتطي اللغة الهوّة بين العلم والفن.
أحد التحديات المركزية التي تواجهها الفلسفة هو تفسير كيفية قدرة اللغة على أداء هذه المهام المختلفة. يقول المنظرون الأدبيون والمترجمون: “إنَّ اللغة الفنيّة التي تهتم بمعنى خاص (علم دلالات الألفاظ) تختلف عما نجده في الأحوال العاديّة. ويقول علماء الإدراك: “بل إنَّ الفرق ينبع من قدرتنا على إدراك غايات المتحدثين الذين يستخدمون اللغة بطرق مختلفة (النظرية التداولية). أمَّا نحنُ فنعتقد –خلافًا للآراء السابقة- أنَّ الفروق الأساسية يمكن العثور عليها في الطرق التي ينخرط فيها الجمهور مع اللغة.
من منظورنا الخاص نرى أنَّ جزءًا مما يجعل اللغة فنيّة هو أنَّ علينا أن نستكشفها بفعالية إذا أردنا تقدير قيمتها. ربما علينا أن ننظر إلى ما تحت السطح، وأن نفكّر تفكيرًا أعمق في الصور التي استخدمها المؤلف وفي الشخصية التي يتلبّسها الكاتب، بل أيضًا في كيفية بناء اللغة وتنظيمها. قد تقودنا تلك المجهودات إلى تبصّرات ورؤى وخبرات جديدة.
الشعر أحد أشكال الكتابة التي يكون فيها هذا النوع من الانخراط ملفتًا ومهمًّا بشكل خاص. سيكون هذا إيضاح جيّدًا للطريقة التي يمكن أن يساعدنا بها العمل الفلسفي على إيقاظنا لإثراء اللغة المحيطة بنا حتى في هذا النشاز الظاهر للعصر الرقمي.
ولكي نطوّر أفكارنا هذه أكثر، دعونا نبحث في حالة محددة، تلك الحالة التي لفتت انتباهنا في يناير الماضي. في عرض خاص في النيويورك تايمز عَرَضَ المراسل آلان فيور Alan Feuer عددًا من الأشياء المعروضة في موقع كريقلست “العلاقات المفقودة” Craigslist’s “Missed Connections” والمنشورة في الموقع كـ “الشعر الذي عثرنا عليه”. تلك القصائد إعلانات أصلية “مطبوعة كما هي حرفيًّا مع إضافة فواصل الأسطر والمقاطع فقط وعناوينها هي ذات عناوين الموضوع”. هناك أمر لعوب ووقح في هذا المشروع. القصائد ليست صدفًا، والشعراء الحقيقيون يشحذون مهاراتهم على مدار عقود من الزمن، ويعانون من أجل كمال كل قطعة يكتبونها. ولكنّ المراسل بالطبع قد اختار عددًا من النماذج من عدد كبير من المواد التي لا يمكن اعتبارها شعرًا. وهذه المعالجة تحديدًا هي ما جعل هذا العمود احتفاءً بالخيال الشعري.
هنا نموذج من عمود “العلاقات المفقودة” التي ظهرت في يناير:
من الفتى الآيرلندي الثمل إلى الفتاة بالهيلاهوب في المترو المنطلق لكوينز.
فتى آيرلندي ثمل.
للفتاة بالهيلاهوب الأحمر الضيّق.
في الميترو المتجه لكوينز.
أتمنى بعمق
أني لم أخفكِ ولم أبعدكِ عنّي.
كنتُ ثملًا جدًّا،
وكنتِ مغرية جدًّا.
ليتني لقيتك في لحظة أخرى وفي مكان آخر.
الإعلان الأصلي كان خاليًا من الفنّ. أيقونته الافتتاحية لا تقدّم أكثر من مجرد توصيف خارجي للقاء ما، أحد المشاركين يأمل في الوصول للآخر. يستمر الإعلان باعتذار غريب لا يبدو اعتذارًا، إنما هو تفسير فظّ مباشر لتصرّف لم يكن مهذّبًا و دعوة تلمّح لفرصة أخرى. إذا قرأناها حرفيًّا، فإنَّ تلك الكلمات تعطي انطباعًا سيئًا، وتلك المواقف التي أوقعت ذلك الشاب في المشاكل -وهو ثمل- هي ذاتها تعطي الانطباع ذاته عنه وهو في حالة الصحو.
لكنَّ المراسل فيوير رغم ذلك يقدم لنا قصيدة. البنية اللغوية المحددة التي استدعت النص في فقرات قبضت على اللغة، وهي تدمّر ذاتها لتعطينا فرصة أن نرى -مباشرة وبشكل أعمق- القوى المتصارعة داخلها. عملية التخطيط -فصل الأسطر وتحديد أماكنها- تقسّم النصّ باستخدام خليط من الإعراب والأسطر مغلقة النهايات. تختم تلك الأسطر مغلقة النهايات عند حد جملة ما. تحليل الأسطر يفكك الجمل الكبرى إلى شذرات متناسقة. هذه الشذرات -“أتمنى بعمق” أو “ليتني لقيتك”- حُلِّلت في أفضل مكان طبيعي للتوقف. عملية التخطيط هذه تبدو بسيطة، لكنها في الواقع تفاجئنا بالمتناظرات غير المتوقعة التي تكشف عنها.
يؤسس المقطع الأول قياسيًّا لنمط ثابت من الصياغة، حيث يستقبل مقطعين في كل سطر نبراتٍ بارزة. (في المقطع الأول: ثمل، الهمزة في الأيرليندي، الفتاة، الضيقة، ميت في ميترو و كويينز). يدعونا هذا التخطيط إلى أن نستكمل هذا النمط في بقية النص وحين نفعل ذلك، فإنَّ التخطيط يعلّق على الكلمات الأساسية (أتمنى، أنا، أنتِ) مع مهمة إبراز تلك الكلمات التي ما كانت لتتحقق لولا ذلك التخطيط.
يُبرز هذا التخطيط خطابيًّا المقارنات الصورية التي تربط بين توصيفات القصيدة. هذا الفنُّ “العلاقات المفقودة” يتيح تنوّعًا كبيرًا في الخصوصية التي توصف بها اللقاءات وكذا في كيفية ترتيب تلك التوصيفات. لكنَّ فيوير يعدّ المشهد في أجزاء بسيطة تميّز لنا الأفراد ببعض السمات الرئيسة.
التناظرات الصورية في المقطع الثاني تحديدًا تضع الثمالة (حالة غير جذابة بشكل عام) بجانب الجاذبية. يؤكد التركيز التوضيحي للخطوط على التباين. يشك أحدنا في كون هذه الصفات أكثر دلالة على معارضة بعضها من التفسير الذي تقدمه لمبادرة الرجل الأيرلندي. تكشف مباشرة البدائل عن وجود النماذج الأصليّة: القبح يؤدبه اللقاء مع الجمال. يمكننا سماع “المختلف” المكرر والمؤكد، من السطرين الأخيرين كصدى للاختلاف في موضوع القصيدة (رغم أنه ليس موضوع الإعلان). وكأنَّ الكاتب يعيد صياغة رغبته في الاختلاف وينقحها.
يوضح التناقض بين الأصل وبين الأداء الشعري الارتباطَ الفريد الذي يتطلبه الشعر. تخيل النسخة الأصلية المعروضة على شاشة هاتف ذكي بالتصميم المطبعي نفسه الذي يفرضه المراسل فيوير. يمكنك قراءتها دون وعي ذاتي من أجل المعنى الحرفي، أو قد تصدمك بنيتها الصورية لتدرك الآثار الأعمق. لدينا إذن الحد الأدنى من الأزواج: عرض واحد يُفهم بطريقتين. دعوانا الفلسفية هنا هي أنَّ هذا الفرق حاسم لأي محاولة لتحديد موقع الخبرة المميزة والبصيرة الشعرية في الفلسفة. فمثلًا يسلط الاختلاف الضوء على الدور النشط للقارئ في تطوير تأويلٍ ما، ويكشف أيضًا أنَّ التأثيرات الشعرية ليست مجرد نيات الكاتب أو معاني الكلمات، كما يقترح كثير من المنظرين.
والأهم من ذلك أنَّ المثال يوضح أننا لا نستطيع رسم حدود حادة لتحديد لغة ما على أنها لغة شعرية في جوهرها. يمكننا أن نوجه اهتمامنا الشعري إلى اللغة الشائعة، ومن ثَمَّ نمنح تلك اللغة عمقًا وأهمية غير متوقعة. في الواقع، يتحدانا شعراء مثل ويليام كارلوس ويليامز William Carlos Williams عن قصد لتوسيع حساسياتنا والعثور على الشعر في لغة الحياة اليومية، كلما بَنَوْا قصائد بمفردات مألوفة وإيقاع مألوف.
كيف ننمي المخيلة الشعرية؟ يجب أن تتناغم أنفسنا، حسبما نراه مناسبًا، مع السمات التي نلاحظها في القصيدة، كحافز لتجربة لغتها بشكل أعمق. يمكن أن يستهدف هذا البحث أيَّ ميزة ملحوظة في القصيدة، أيًّا كان المعنى الذي سيُرمز له حرفيًّا. يمكننا الاستماع إلى أصوات القصيدة وإيقاعها. يمكننا أن نشعر بتركيبها وبنيتها. يمكننا حتى أن ننتبه إلى شكلها البصري وتخطيطه أمامنا، كما هي الحال بالنسبة للشاعر إي. إي كومينقس e. e. cummings الذي كثيرًا ما يدعو قراءه لفعل ذلك.
ومع ذلك، حتى عندما نستكشف المجالات المألوفة للصوت والمساحة والقافية والسطر، يجب أن نكون مستعدين لاستكشاف الأهمية المتغيرة والمفتوحة لكل ملاحظة. كنّا رأينا مثلًا التأثيرات المختلفة لرسم الخطوط في قصيدة العلاقات المفقودة. لا يوجد معنى أو تأثير واحد لتحليل السطور والتعليق على السطور أو لمقابلة الاثنين مع بعضهما. ما نجده في كل هذه الحالات هو مجرد تباين صوري، صًدى لمزيد من الاختلافات التي لا يمكننا أن نقدرها بشكل أعمق إلا من خلال البحث في القصيدة أكثر. يُبرز هذا التباين الإبداع الذي يجلبه الشعراء والقراء إلى فنهم.
باختصار، إنَّ القصيدة -واللغة الفنية عامةً- منفتحة على كل ما يمكن أن نجده فيها. عندما نلاحظ أنَّ سمة صورية غير متوقعة توسّع تجربتنا مع القصيدة بطريقة جديدة، فإننا نضيفها إلى فهمنا. وفي الوقت ذاته فإنه لا يزال بإمكاننا أن نقول” ما الذي يجعل هذه الجهود التفسيرية شاعرية؟ إنها لا تتعلق بالدلالة العادية للشكل في اللغة. عندما نتعامل مع اللغة بطريقة عملية، ينصب تركيزنا على الأعراف الاعتباطية التي تربط الكلمات بالأشياء في العالم وبمحتويات الفكر. تسمح لنا هذه الروابط بطرح أسئلة حول ما هو صحيح وبتنسيق تحقيقاتنا للعثور على إجابات. لكنَّ الشعر موجود؛ لأننا مهتمون أيضًا باكتشاف أنفسنا واكتشاف بعضنا فيما نقوله. يستحضر الشعر نوعًا خاصًّا من التفكير، حيث نفسر الروابط العادية بين اللغة والعالم والعقل كنوع من الرسم البياني لإمكانيات الخبرة.
يمكن للتقنيات الجديدة أن تضيف فقط إلى هذه الاحتمالات.
الكاتبان: إيرني ليبور أستاذ الفلسفة ومدير مشارك لمركز العلم الإدراكي في جامعة روتجيرز. ماثيو ستون أستاذ مشارك في قسم علوم الحاسب الآلي ومركز العلوم الإدراكي في روتجيرز.
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
Philosophy and the Poetic Imagination
Ernie Lepore and Matthew Stone
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”