تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٠ مايوم ٢٠٢٠
ذلك الذي تساعدنا أنماطه على الوصول إلى الحقائق الداخلية التي لا يستطيع العلم التعبير عنها
كنت –وأنا في سن الخامسة– مع والدي الذي كان عازفَ قيثارةٍ في المنتجع الصيفي في كاتسكيلز، حيث أتيح لنا استعمال منزل الطابق الواحد (بانغلو) في عطلة نهاية الأسبوع، وبسبب الأمطار الغزيرة في المنتجع، دُفعنا جميعًا مع المخيمين إلى قاعة الرقص الكهفية، وذلك للعب لعبة مرتجلة بسيطة. سألني كبير المستشارين حين صعدت إلى المنصة عدة أسئلة كان أولها: “من أين أنت؟” لحظتها كنت شديد التركيز على شغفي الخاص الجديد لدرجة أنني بالكاد أسجل السؤال، فأجبته: “الرياضيات”. فانفجر كل من حولي ضحكًا، وأنا في حيرة من أمري.
الرياضيات لغة عالمية للنمط. تُفَسِّرُ العلاقات بالمعادلات. فالرياضيّون يتحدثون عن حقائق لا يمكن دحضها تقف وراء تقلبات الإدراك والتفسير؛ فكل مثلث مسطح قائم الزاوية مرسوم قبل فيثاغورس، وكل مثلث بعد ذلك -أبديًّا- يُرضي النظرية الشهيرة التي تحمل اسم الفيلسوف اليوناني القديم، ولا استثناءات. هذه هي طبيعة البصيرة الرياضية. والرياضيات إذ تحدد المقتضب والأصلي للحقيقة غير المرنة، فإنها توفر لنا راحة المصداقية وجمال الدقة. ومنذ بداياتي الأولى، شعرت بالجاذبية العميقة لهذه الأنماط التي لا تتغير. الأنماط التي لا تخضع للسلطة. الأنماط التي تتجاوز كل الأشياء الشخصية. إنه منظور وجدته مشتركًا على نطاق واسع بين أولئك الذين يمارسون الرياضيات أو الفيزياء تخصّصًا.
وعلى الرغم من ذلك، ينجذب كثير منا إلى أنماط من نوع مختلف، وأنماط منقولة من خلال مجموعات معينة من الأصوات والألوان والأشكال والأنسجة والحركات، فينتج عنها أعمال موسيقية أو رقص أو فيلم أو رسم أو نحت لِتُكَوِّنَ أنماطًا تُظْهِرُ كونها تعبيرًا إنسانيًّا إبداعيًّا. وهذه الأنماط تفوز بتقديرنا بسبب قدرتها على إبراز الاستجابات الشخصية للغاية والذاتية العميقة للطيف اللامتناهي من التجربة الإنسانية. وكما تشهد لوحات الكهوف و التماثيل والآلات الموسيقية القديمة، سعى واستهلك جنسنا البشري هذا التعبير بشكل مكثف، منذ أقدم بصيص للفكر.
وهذا يمثل لغزًا.
لا أكاد أشك أننا لو اتصلنا ذات يوم بذكاء ما خارج كوكب الأرض فسوف تُفهَم رياضياتنا، لا سيما المعادلات التي طورناها لشرح انتظام الواقع. في نهاية المطاف، فإنَّ التعرف على الأنماط المتأصلة في الظواهر الفيزيائية أمر أساسي للبقاء. لقد انتصرنا لأننا نستطيع أن نستشعر إيقاعات العالم ونتجاوب معها، فكل غد سيكون مختلفًا عن اليوم، ولكن تحت عدد لا يحصى من المجيء والذهاب – الحركة- نحن نعتمد على الصفات الدائمة؛ إذ ستشرق الشمس، وستسقط الصخور، وسيجري الماء.
إنَّ المجموعة الواسعة من الأنماط المتصلة التي نواجهها من لحظة إلى أخرى تؤثر بشكل أساسي على سلوكنا. فالغرائز ضرورية، والذاكرة مهمة؛ لأنَّ الأنماط تطرد. إذا كانت البيئة المحددة لذكاء بعيد قد تختلف اختلافًا كبيرًا عن بيئتنا، فمن المحتمل أنها سادت أيضًا من خلال تطوير حس مصقول للنمط الموصوف بدقة من خلال بعض صور الرياضيات.
ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بتطلعاتنا الفنية، فهناك احتمال أن تكون الكائنات الفضائية في حيرة شديدة. لماذا ينفق أي نوع وقتًا وطاقة على أعمال إبداعية لا تبدو لها قيمة للبقاء؟ اللغز إذن -في عالم غير مستقر وموارد محدودة- يكمن في فهم سبب انجذابنا إلى الأنشطة التي تتعلق تعلقًا غير مباشر بأهداف تأمين الغذاء، أو الرفيق، أو المأوى.
تناول تشارلز داروين بنفسه هذا السؤال، وتساءل عما إذا كانت الأهداف قد لا تكون مباشرة كما تبدو. ربما -كما اقترح- نشأ الدافع الفني باعتباره نوعًا من نداء التزاوج، حيث انجذب العديد من أسلافنا، فتحقق انتشار هذه الأنواع. اقترح باحثون آخرون أنَّ إنشاء الأعمال الفنية واستهلاكها قد يوفر ساحة لعب فكرية، حيث يتم تقديم البراعة والمهارات في حل المشكلات الخيالية وصقلها في بيئة آمنة. وفق هذا الرأي، فإنَّ أنواع العقول التي يمكنها استدعاء كل شيء من “ليلة النجوم” إلى “غيرنيكا”، ومن “ديفيد” إلى “مواطني كاليه”، ومن “تنويعات غولدبرغ” إلى نهاية “قصيدة الفرح”، هي عقول تخيلت بطريقة إبداعية طريقها للخروج من تحدٍ مدمرٍ تلو الآخر. إذن فلعلَّ الفنَّ مهمٌّ؛ لأنه أسّس قدرتنا على البقاء.
بين أولئك الذين يفكرون مليًّا في العلاقة بين الفن والاختيار التطوري، هناك كثير من الجدل بقدر ما هناك إجماع. إنَّ تأسيس أساسًا داروينيًّا لا يقبل الجدل للفن ليس بالأمر الهين. بل عند التفكير في سبب أهمية الفن اليوم لا في ماضي أجدادنا فحسب، قد يمنحنا الدور التكيفي نظرة ثاقبة، ولكنه في أحسن الأحوال لن يوفر سوى محاسبة جزئية. لملء هذا الحساب، يجب أن نركز على كثيرة من الفروقات الدقيقة في الحقيقة.
تسعى الرياضيات والعلوم إلى الحقيقة الموضوعية. ويتعامل الفيزيائيون معها من خلال تحليلاتهم للجسيمات الأساسية والقوانين الرياضية التي تحكمها. ويقوم الكيميائيون بإلقاء الضوء عليه من خلال استدعاء مجموعات من هذه الجسيمات منظمةً في الذرات والجزيئات. وينظر علماء الأحياء إلى مستويات أعلى من التنظيم، ويدمجون الذرات والجزيئات في التعقيد الرائع الذي يتضح لنا داخل الخلايا وأشكال الحياة. ولا يزال علماء النفس وعلماء الأعصاب والفلاسفة يضيفون طبقات أخرى، ويدرسون طريقة عمل العقل والأسئلة التي يمكن أن تطرحها العقول عن أنفسهم وتجاربهم. إذن، لا توجد قصة واحدة تحكي كل شيء. فقط من خلال مزج الرؤى من كل هذه الحسابات يمكننا الحصول على الفهم الكامل.
والفن عنصر حاسم في هذا المشروع، وهو طريق نحو مجموعة واسعة من الحقائق التي تشمل التجارب الذاتية وتحتفي باستجابتنا الإنسانية المميزة للعالم. هذا أمر حيوي. فهناك حقائق تتجاوز التعبير، سواء في لغة الرياضيات أو لغة الخطاب البشري. هناك حقائق يمكننا الشعور بها، ويمكن أن تتضاءل من خلال الترجمة من التعبير الداخلي. الفنُّ أكثر وسائلنا دقة للوصول إلى مثل هذه الحقائق. ولا يوجد ملخص عالمي للفن، ولا تعريف يحدّده تحديدًا لا لبس فيه. ردود أفعالنا تجاه الفن هي ردود أفعالنا بشكل فريد. لكنَّ هذه المرونة خاصة، وهذا الاعتماد على الفرد، وهذا الاعتماد على الذات، هو ما يجعل الفن ضروريًّا لفهم مكاننا البشري بالكامل في النظام الكوني.
إذا كانت أنماط الرياضيات والعلوم مهمة؛ لأنها تتحدث عن صفات الواقع الموجودة خارج نطاقنا، فإنَّ أنماط المادة الفنية تتحدث عن صفات الواقع الموجودة في داخلنا.
*هذا المقال جزء من “الأفكار الكبيرة”، قسم خاص من ذا ستون The Stone، السلسلة الفلسفية في صحيفة التايمز The Times، حيث أجاب أكثر من اثني عشر فنانًا وكاتبًا ومفكرًا عن سؤال : “لماذا الفن مهم؟”
الكاتب: بريان جرين هو مدير مركز الفيزياء النظرية بجامعة كولومبيا وأحد مؤسسي مهرجان العلوم العالمي. تم اقتباس أجزاء من هذا المقال من كتابه الأخير ، “حتى نهاية الوقت: العقل، والمادة، وبحثنا عن المعنى في عالم متطور، تحت الطبع.
المترجمة: أستاذة النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة.
Art Is a Different Kind of Cosmic Order
Brian Greene
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”