الفن والفلسفة
العودة الجمالية للواقع المعيش
شتيوي الغيثي
في البدء كان الفن!
هل يمكن قول ذلك الآن؟
ربما نعم وربما لا، لكننا حينما نعود إلى تاريخ الإنسان فسوف نشاهد أن من أوائل آليات التعبير الإنساني كانت اللوحات الفنية على جدران الكهوف قبل اختراع الأبجدية. يظهر لنا كهف (لاسكو) في فرنسا وكهف (التاميرا) في اسبانيا رسوم الإنسان الأول في العصر الحجري من صور الحيوانات أو الأيادي، فهي جزء من الحالة التعبيرية التي لجأ إليها الإنسان لخلق حالة تعبيرية جمالية في تلك الفترة من عمر البشرية، ويعني ذلك أن المعطى الجمالي هو في أساسه معطى غريزي في الإنسان، وإن كان بعض الباحثين يحيلونها إلى الوعي السحري الذي يحاول من خلاله البشر أن يؤثروا على واقعهم المحيط أي محاولة الهروب من التحكّمية الزائدة في وجودهم(1)، وهذه الحالة التعبيرية مازالت حاضرة في الوعي البشري حتى هذه اللحظة، فالفن في جانب من جوانبه هو جزء من تحويل المألوف إلى الغرابة، فـ”الشيء الغريب هو ما يأتي خارج منطقة الألفة ويسترعي النظر بوجوده خارج مقرّه”(2) ، كما يقول كليطو، ولذلك ترى كثير من الناس في عصرنا يرفضون الصور الفوتغرافية القديمة بوصفها نوعاً من إحياء الإنسان الميت مثلاً، حتى وإن كان إحياءً شعورياً، وهي عودة إلى سحرية الفن في نظر الإنسان، والمقصد هنا أن فيه نوع من التصديق الشعوري بالفن باعتبار أنه يُلقي على الإنسان سؤال الحقيقة أحياناً فيما يرى من لوحات أو فنون أو قصائد أو سرديات أو غيرها.
من هنا سعت الفلسفة في غالب عصورها إلى طرح سؤال الحقيقة في الفن، وإذا اختلف الفلاسفة حول هذا السؤال في عدم ربط الحقيقة بالفنون أو الشعر إلى الدرجة التي جعلت أفلاطون يطرد الشعراء من جمهوريته، أو أن يرى بعض الفلاسفة الوضعيين بأن الفنون مناقضة للحقيقة(3) _ فإنّ هيدغر يعيد الحقيقة إلى الفنون باعتبار أن الفن هو نوع من انكشاف الوجود أو ظهوره للوعي(4)، أي أن الأعمال الفنية في رأيه هي “التعبير عن الجوهر العام للأشياء”(5)، فلوحة مثل لوحة حذاء الفلاحة لفان جوغ التي يحاول أن يقرأها هيدجر تُظهر لنا حقيقة أدائية الحذاء وتعطينا كامل حياة الفلاحة دون أن تكون موجودة في الصورة(6).
مثال آخر أكثر وضوحاً؛ إننا نرى النخلة في الكثير من مواقفنا الحياتية لكنها لا تظهر لوعينا إلا كونها شجرة عادية من ضمن أشجار الجزيرة العربية، لكن المصور الفوتوغرافي يأتي بكاميرته ويلتقط لها صورة فتظهر للوجود أكثر جمالية، وكأنها قبل هذه الصورة لم يكن لها وجوداً ظاهراً. إنها تظهر للوعي هنا وجوداً جمالياً غير وجودها الوظيفي الأداتي الذي اعتاد الناس أن يروها عليه، وهنا تأتي أهمية القصدية في فلسفة هوسرل الظاهراتية وكيف أنها تكشفت للوعي؛ القصدية التي جعلت من المصوّر يتقصد إظهار جمالية النخلة، ليكون لها وجود بعد أن كان غائبة عن الوعي، أو كانت في حالة العدم قبل حالة الانكشاف الجمالي هذا، ولذلك يمكن القول إن الرؤية الفنية هنا عملت على إظهار حقيقة وجودها.
إننا جميعاً نحاول بشكل متواصل اختيار أفضل صورة لنا أو نحاول أن تكون صورنا جميلة رغم أن لنا وجودنا المتمثل في هذه الحياة، ورغم ذلك فرغبتنا في كشف وجودنا جمالياً يضيف وجوداً إلى وجودنا الأصل، فإذا كنا وجودنا الأصلي حاضراً فلماذا نبحث عن وجودنا الجمالي إذن؟
يحاول غادامير أن يعيد مساءلة ذلك من خلال التأكيد على فكرة التعرف على الأشياء من خلال الفن، أن نعيد التعرف على الأشياء وكأننا نتعرف عليها لأول مرة، وفي هذه الفكرة يحاول تجاوز عقبة أفلاطون في جعل الصورة أقل من الأصل، فالفنون ليست مجرد محاكاة للأصل؛ بل هي تكشف عن الأصالة الوجودية للشيء، بمعنى آخر الفن هو زيادة في الوجود(1)، ولتوضيح ذلك يمكن القول: إننا لا نعرف الموناليزا بشخصها لكن اللوحة منحتها وجودها التي يتمثل أمامنا حتى الآن. لقد تحققت مع اللوحة وجودية المرأة، وهذا يصدق في أغلب الفنون التي ذهب عصرها وبقيَ وجودها ماثلاً، فهي ليست مجرد صورة وإنما أصل، فلا نعرفها على حقيقتها إلا بسببها، نحن لا تعرف الموناليزا إلا بوصفها وعي دافنشي الذي يمحنا خبرته الجمالية، فالفن هو وعي جمالي بالعالم.
في الحالة الفنية فإن هذا الوعي لا ينفصل بين الذات الموضوع، فكما ترى ذات الفنان العالم يتكون الموضوع. في لوحة الصرخة لإدفارت مونك نرى العالم من خلال الوعي المأزوم لدى الفنان، الذي يتحول معه الليل إلى حمرة والخطوط المستقيمة إلى اعوجاج فني هو اعوجاج هذا العالم الذي تجسد في وعي الرسام، والمدرسة التكعيبية هي وليدة كل صخب ما بعد الحداثة النسبي المتكسر والمتشظي واللامركزي، في حين أن المدرسة السريالية تمثل حالة الضياع الإنساني، فهاتان المدرستان تمثلان وجه الحضارة الإنسانية المشوّه في الحداثة الغربية التي تأثرت أمام الضربات النقدية لفلسفات ما بعد الحداثة(2).
هذا التشوّه الحضاري هو الذي جعل العالم الكفكاوي السردي عالماً يحوّل جريغور سامسا إلى شخصية صرصار في رواية المسخ، وهو نفس العالم التنويري شديد الاستنارة الذي أعمى البشرية عن حقيقتها المأساوية في رواية العمى لساراماغو. وهو ذاته الذي أظهر لنا الأخلاق التدميرية لشخصية الجوكر، فإذا كان “الآخر هو الموت” على حد تعبير سارتر، أي موت إمكانيات تحقيق الذات والخوف من محاولة سلب الأخر لكينونة الذات(3)، فإن الجانب المخفي من حرية الإنسان تشكل ثقلاً يجب تحمّله مثل الوجه المستور من ورق اللعب(4)، ولذا سعى الجوكر إلى تدمير تلك الآخرية وتحقيق وجوديته من خلال تحقيق كل إمكانيات حريته المطلقة ضد الآخرين من خلال التمرد على أخلاق العبودية إلى نسبية الأخلاق والعدمية النتشوية. على اعتبار أن ورقة الجوكر هي ورقة كاشفة لكل بقية الأوراق الأخلاقية والإنسانية والسياسية.
وإذا كان الجوكر مجنوناً فإن تاريخ الجنون بحسب ميشيل فوكو هو الوجه الآخر لتاريخ العقل(5)، أو هو الوجه الآخر لفكرة التقدم الحضاري التي تمدّ الإنسان بحالة الاستلاب(6)، حيث تشكل الحضارة وسطاً ملائماً لتطور الجنون(1)، بحكم فقدان الحقيقة التي تتمثل في سقوط السرديات الكبرى التي عاش عليها الإنسان فترة من الزمن، حيث اكتشف الإنسان الحديث غياب المعنى في حياته، ولذلك لجأ إلى كافة المحاولات لتغييب العقل بكل الممكنات المتاحة.
إن باتمان دائماً ما يحاول أن يحقق أخلاق الواجب التي كان يقول بها الفيلسوف (كانط) في حين أن الجوكر يمثل الأخلاق النيتشوي التي تضع الأخلاق النسبية أمام المثل الأخلاقية، هي ذات النسبية الأخلاقية التي تحدث عنها (أنمي هجوم العمالقة) الذي لا نعرف معه من هو الذي يمكن له أن يمثل مفهوم الحقيقة، فالشخصيات في هذا الأنمي شخصيات تحمل في داخلها الكثير من الخير بقدر ما تحمل في داخلها الشر(2)، ونحن أمام أنفسنا نرى تلك الشخصيات بتناقضاتها وبتطرفها على أرض الواقع. إنها عودة إلى نسبية الأخلاق النيتشوية.
ولأجل ضغط المعطيات الأخلاقية فإن الجوكر يلجأ إلى حالة الرقص كرغبة في التحرر الجسدي من ثقل الحاضر؛ إنه ذات الرقص الذي يلجأ إليه زوربا اليوناني حينما تتأزم حياته، فالرقص حالة من حالات تطهير النفس(3).
وكما يتدفق الجسد في حالة الرقص تتدفق الموسيقى لتمنح الإنسان اتصالاً مع وجوده كحالة تعبيرية أحيانا لتفاعلات الشعور مع المحيط الخارجي، فتأتي مثلاً موسيقى ( الراعي الوحيد) للموسيقار الروماني جورج زامفير كنوع من النوستالجيا الإنسانية لذلك الماضي الذي لن يكون سوى الماضي الذي سوف نحافظ على وجوده في اتجاهنا إلى المستقبل بسبب ثقل الزمانية الحاضرة على الإنسان، لذا نعيده من خلال الموسيقى، وتأتي سيمفونية (دخول الجنة) للموسيقار اليوناني ايفانجيلوس أوديساس لتمنح الإنسان رؤية الزمن المستقبلي أو هي أحلام الزمن القادم، لشعور الإنسان بضرورة تحقيق غاياته رغبة في تحقيق وجوده الممكن، وحين يغني محمد عبده ( في عيني اليمنى من الورد بستان… وفي عيني اليسرى عجاج السنين) فإن ذلك تعبير عن حالة القلق الوجودي ما بين الإمكانية واللإمكانية؛ بين فرصة الاختيار وضغط الوقائعية الزمنية للوجود البشري(4).
فلسفياً تمنحنا المشاعر مفتاحاً لفهم الوجود الذي يحيط بنا. يقول بول ريكور: “لا تكون المشاعر بذاتها كلية إلا من خلال الوعي بالوجود الفعلي للعالم … وأيا ما كان الوجود فإن الشعور يشهد بأننا جزء منه فهو ليس ذلك الآخر كلية وإنما هو الوسيط أو المكان الذي نظل نوجد به”(5)، والموسيقى بوصفها محاولة فنية لتنغيم الشعور الإنساني فهي في شكل من أشكالها كشف لتجربة من تجارب الإنسان الحياتية.
في الأخير فإن سؤال الفن فلسفياً هو اشتغال أصيل من اشتغالات عودة الفلسفة إلى سؤال الواقع المعيش كما طرحه هوسرل والارتداد لعالم الأشياء والظواهر من حولنا(6)، والفن واحد من تلك الأمور التي تعيد الإنسان إلى واقعه المعيش، فالفنون بشكل عام تعمل على “الحماية من نسيان الوجود”(7) كما يقول ميلان كونديراً، وإن كان يقصد السرد تحديدا؛ إلا أن ذلك يمكن أن نطبق على بقية الفنون.