تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
تحسَّر العالِم والروائي البريطاني تشارلز سنو، قبل نصف قرنٍ مضى، على الانفصال الذي أطلق عليه اسم “الثقافتان” في العالم الحديث وهما الثقافة العلمية والثقافة الأدبية. ثمة أسباب تدعونا في هذه الأيام للاحتفاء بتواصل أفضل بين هذين المجالين، لا لشيء ولكن للبروز المتزايد البادي للعيان للأفكار العلمية. لا تزال الفجوة قائمة بين الثقافتين، ولهذا أرغب بإلقاء نظرة غير مباشرة في هذه المقالة حيال تناقضات غير مألوفة بين مجالي الثقافتين الفرعيين والتقسيمات بينهما، ولا سيما التناقضات بين القصص والإحصائيات.
سأبدأ بملاحظة أن مفهوم الاحتمالات والإحصائيات ليس بغريب على سرد القصص، فمنذ أوائل التواريخ المُسجَّلة كانت هناك بوادر لهذين المفهومين، مما انعكس على مفردات وقصص الحياة اليومية. انظر إلى الأفكار المتعلقة بالنزعة المركزية: كالمتوسط، والوسيط، والنمط، على سبيل المثال لا الحصر. لا شك أنها نمت من نشاطات عملية يومية وأدت إلى كلمات (إنجليزية) مثل: المعتاد، المألوف، المعروف، الأغلب، المعياري، المتوقع، العادي، الاعتيادي، المتوسط، المشترك، الشائع، وما إلى ذلك. ينطبق الأمر ذاته على أفكار التباين الإحصائي: كالانحراف المعياري والمتغيرات وما شابههما. وتتبادر إلى أذهاننا كلمات مثل “غير معتاد” و”غير مألوف” و”غريب” و “أصلي” و” متطرف” و” مميز” و “مغاير” و”منحرف” و”مُباين” و” مُختلف”. يصعب أن نتخيل البشر ماقبل التاريخ وقد خلى وفاضهم من أفكار بدائية حول ماهو مألوف أو ماهو غير معتاد؛ فمن الطبيعي أن تؤدي المواقف أو الظواهر كالعواصف، الحيوانات، الصخور، التي تكررت أمامهم مرة تلو أخرى إلى هذه الأفكار. هذه الأمور وغيرها من المفاهيم العلمية الأساسية كانت بطريقة أو بأخرى مُتضمنة في كون القصة عبارة عن حدث متميز بما يكفي ليستحق أن يُروى، منذ رسومات الكهف إلى “جلجامش” ووصولاً إلى حكايات كانتربري وما تلاها.
تحضر فكرة الاحتماليات بحد ذاتها في كلمات من قبيل “الصدفة” و “الأرجحية” و “المصير” و “الاحتمالات” و” الآلهة” و”الطالع” و”الحظ” و”الصدفة” و” العشوائية” وكثير غيرها. إن مجرد قبول فكرة الاحتمالات البديلة يستتبع تقريبًا فكرة الاحتمالية، حيث سيُحكَم على بعض البدائل أكثر من سواها؛ وبالمثل فإن فكرة اشتقاق العينات متضمنة في كلمات من قبيل “المثل” و “الحالة” و “المثال” و”المقطع المستعرض” و” النموذج” و “العينة”. وتنعكس كذلك فكرة التعالق في كلمات “الاتصال” و”العلاقة” و”الترابط” و”الاقتران” و”الاعتماد” والكلمة الشهيرة “السبب”. حتى اختبار الفرضيات والتحليل البيسياني له أصداء لغوية في العبارات والأفكار الشائعة التي تعتبر ركنًا ركينًا في الوعي البشري والسرد القصصي. نجد أنفسنا، فيما يتعلق بالإحصاءات غير الرسمية، مثل إحدى شخصيات موليير الذي انصدم باكتشافه أنه كان يتحدث بالنثر طيلة حياته.
ثمة توتر بين القصص والإحصائيات، وهنالك تناقض مُهمل بينهما يتلخص ببساطة في العقلية التي نتعامل بها معهما، بمعزل عن كون هذه الأفكار طبيعية. عندما نستمع للقصص نميل إلى عدم تكذيبها مؤقتًا لكي نتسلى بها، بينما أثناء تقييمنا للإحصائيات فلدينا بشكلٍ عام ميل مضاد لذلك، حيث نعلق تصديقها حتى لا ننخدع بها. إن التمييز المُحدَّد الجاف من الإحصائيات الرسمية وثيق الصلة بالموضوع: فنحن نقترف الخطأ من النوع الأول حين نلاحظ شيئًا لا وجود له في الواقع، ونقترف خطأ من النوع الثاني حين لا نلاحظ شيئًا موجودًا، وما من بد من اقتراف أحد الخطأين، فلدينا أخطاء تبدأ مع مساعينا المختلفة، لكن الخطأ الذي يشعر الناس بالارتياح أثناء اقترافه هو سرد القصص، حيث إنه يقدم مؤشرًا ما على نمط شخصيتهم الفكرية والجانب الذي يميلون إليه ويستكينون نحوه من الثقافتين (أو الطبقتين: بالفرنسية coutures ).
مَن يحبون التسلية والانجذاب الأعمى، أو بشكلِ أدق مَن يرغبون في تجنب الخطأ من النوع الثاني، قد يفضلون أكثر القصص على الإحصائيات. ومَن لا يحبون المتع على وجهٍ أخص ولا الخداع، أو مَن يخشون الوقوع في الخطأ من النوع الأول، فقد يفضلون أكثر الإحصائيات على القصص. إن هذا التمييز ليس فارغًا بين مَن نسبتهم 61.389% ممَن يرون أن الأرقام تقدم في القصص تجميلاً بلاغيًا ومَن ينظرون إلى هذه الأرقام بوصفها تقدم معلومة توضيحية.
إن ما تسمى بـ ” مغالطة الاقتران” تقترح وجود فارق آخر بين القصص والإحصائيات؛ فبعد قراءة رواية ما، سيكون القول بأن الشخصيات فيها غير موجودة عجيبٌ أحيانًا؛ إذ كلما كثرت تفاصيل هذه الشخصيات في القصة، أصبحت في حسباننا أكثر إقناعًا. إن كثرة الإقناع هُنا تعني احتمالية أقل. في الواقع إذا كثرت التفاصيل في قصةِ ما صار الاقتران بينها بالجُملة أضعف. يُعرَف عضو الكونغرس سميث أنه يعاني من ضائقة مالية وبأنه فاسق؛ فأي الاحتمالين أرجح؟ أن يأخذ سميث رشوة من أحد الأعضاء في مجموعات الضغط السياسي، أم أن يكون أخذها منه من قبل وأنفقها على رحلات “تقصي الحقائق” بصحبة بضعة متدربات جميلات؟ القصة المحتملة الأولى هي الأرجح، مع أن القصة البديلة الثانية متماسكة لكنها تُكثر التفاصيل. في كل نص: (أ)، و(ب)، و(ج) تكون احتمالية (أ) دائمًا أكبر من احتمالية (أ)، و(ب)، و(ج) مجتمعين لأنه عندما يحدث (أ)، و(ب)، و(ج) معًا، فإن (أ) تحدث؛ لكن العكس ليس صحيحًا.
هذه إحدى نقاط ضعف الإدراك الكثيرة التي تستقر في المنطقة الغامضة بين الرياضيات وعلم النفس والسرد القصصي. توصَف امرأة تُدعى ليندا، في الشرح الكلاسيكي لمغالطة طرحها عاموس تفيرسكي ودانيال كانمان. هذه المرأة عازبة في بداية الثلاثينات من عمرها، صريحة، وذكية للغاية، متخصصة في الفلسفة، وكرست نفسها لقضايا مثل تحجيم السلاح النووي، فأيٍ من الخيارين التاليين أكثر ترجيحًا:
(أ) تعمل ليندا مصرفية في أحد البنوك.
(ب) تعمل ليندا مصرفية في أحد البنوك وهي ناشطة في الحركة النسوية.
يعد الاختيار (ب) أقل احتمالاً مع أن أغلب القراء سيختارونه ؛ إذ يجب توفر شرطين لأجل تحقيقه، بينما لا يتطلب الخيار (أ) سوى شرط واحد ليتحقق.
(ترتبط مغالطة الاقتران، بالمصادفة، ارتباطًا خاصًا بالنصوص المقدسة، حيث تُضمّن شخصية إله في كل سردية تفصيلية للغاية للكتاب المقدس، وتُبني ثقافة كاملة حول هذه السردية بما يبدو في حد ذاته أنه يمنح نوعًا من الوجود له.)
ثمة تناقض آخر بين القصص العادية والإحصائيات الرسمية، يبرز من خلال التمييز مابين الامتدادية والحدودية. يُعبَر عن العلم المعياري والمنطق الرياضي بامتداداتهما، أي بعبارة أخرى عبر وحداتهما؛ فالكيانات الرياضية التي تملك نفس الوحدات تظل متطابقة حتى وإن أُشير إليها بصورة مختلفة. لهذا يمكن دائمًا استبدال الرقم (3) في سياقات الرياضيات الرسمية أو الاستعاضة عنه بالجذر التربيعي للرقم (9) أو أكبر عدد صحيح أصغر من pi (ط: ثابت الدائرة) من دون أن تتأثر حقيقة العبارة التي ظهر بها.
ليست الأمور بهذه البساطة في المنطق اليومي الحدودي لأن الاستبدال ليس ممكنًا على الدوام. تدرك لويس لين أن سوبرمان قادر على الطيران، ومع أن سوبرمان وكلارك كينت هما نفس الشخص، فهي لا تدري أن كلارك كينت يستطيع الطيران. وقد يعتقد أحدهم، بالمثل، أن أوسلو تقع في السويد، ومع أن أوسلو عاصمة النرويج فعلى الأرجح ألا يعتقد هذا الشخص أن عاصمة النرويج تقع في السويد. إن عبارات من قبيل ” يعتقد بكذا ” و “يرى كذا وكذا” هي عبارات حدودية بشكلٍ عام ولا تسمح باستبدال كيان بكيان آخر مساوٍ له.
ما علاقة ذلك كله بالاحتماليات والإحصائيات؟ لأنهما نظامان من الرياضيات الخالصة، فمنطقهما المناسب هو منطق الامتداد المعياري للبرهان والحساب. لكن في تطبيقات الاحتماليات والإحصائيات، وهو الأمر الذي يهم الناس حين يتطرقون لهذه التطبيقات، فإن المنطق المناسب حدودي وغير رسمي، والسبب يعود لكون احتمالية حدث ما، أو بالأحرى حكمنا على هذه الاحتمالية يتأثر على الدوام تقريبًا بسياقها الحدودي.
لنأخذ في الاعتبار ” مُشكلة الولدين” ضمن الاحتماليات. ثمة عائلة لديها ولدان، أحدهما على الأقل هو صبي، فما احتمالية أن يكون الولدان صَبيين؟ إن الحل الشائع أكثر من غيره يخبرنا بوجود أربع إمكانيات محتملة ومتساوية وهي: صبي وصبي، وصبي وفتاة، وفتاة وصبي، وفتاة وفتاة، وترتيب هذه الخيارات يشير إلى تسلسل الولادة. ستُحذَف احتمالية “فتاة وفتاة” بحكم معرفتنا أن العائلة لديها صبي واحد على الأقل؛ وسيُتاح خيار واحد فقط من الاحتمالات المتبقية والمتساوية وهو أن للعائلة صَبيين، بالتالي فإن احتمالية وجود صبيين في العائلة هي 1/3 لكن كيف اعتقدنا بذلك وكيف عرفنا وصدقنا أن للعائلة صبي واحد على الأقل؟ ماذا لو بدلاً من إخبارنا بوجود صبي واحد لدى العائلة، التقينا بالوالدين وعرفاننا على الإبن؟ حينها لن تتوفر لنا سوى احتماليتين متساويتين: وهما أن الابن الآخر فتاة أو صبي، لذا فاحتمالية وجود صبيين ستكون 1/2.
كثير من مشكلات الاحتماليات والاستفتاءات الإحصائية حساسة تجاه سياقاتها الحدودية (مثل صياغة الأسئلة وترتيبها على سبيل المثال) ولنأخذ في الحسبان هذا المتغير الجديد نسبيًا في مشكلة الولدين. ثمة زوجين لديهما ولدان واُخبِرنا أن أحدهما على الأقل هو صبي وُلِد يوم الثلاثاء، فما احتمالية أن يكون للزوجين صَبيّان؟ صدق أو لا تصدق أن يوم الثلاثاءعامل مهم، وستكون الإجابة هي 27/13 حال اكتشافنا أن ولادة يوم الثلاثاء تختلف قليلاً في السياقات الحدودية. وأيما كان الأمر فإن الإجابة ربما تكون 1/3 أو 1/2.
لا تنتهي التناقضات بين الإحصائيات والقصص عند هذا الحد بالطبع.، هنالك مثال آخر يكمن في دور الصدف والذي يتجلى بشكلٍ كبير في السرديات؛ إذ تُستثمر كثيراً وميزتها أنها لا تثبت الأمور بنهجٍ احتمالي، ومنها أمثلة: مفارقة يوم الميلاد، والعالم الصغير الذي يربط الناس ببعضهم، وأحكام علم النفس الصحيحة المُبهَمة، والخبير الرياضي الأخطبوط بول، وكذلك الرموز الإنجيلية المختلفة. ولو افترض أحدهم وجود قاعدة بيانات كبيرة بما يكفي، ستبرز هذه الصدف العديمة المعنى له: أفضل المتنبئين بقيمة مؤشر لسوق أسهم S&B 500 أوائل التسعينات من القرن الماضي هو إنتاج الزبدة في بنجلاديش. أو فلتفحص الحروف الأولى من الشهور أو الكواكب: ج ف م أ م ج-ج أ س ون-د أو م ف أ م ج م – س ي ن – ب. فهل (ج ا س و ن) و (س و ن) مُهمان؟ بالطبع لا. فكما كنت أكتب غالبًا إن أروع مصادفة فيها جميعًا ستكون الغياب الكامل لكل المصادفات.
سأختتم مع ما يبدو أنه التوتر الأساسي بين الإحصائيات والقصص. يقع تركيز القصص على الأفراد بدلاً من المعدلات، وعلى الدوافع بدلاً من التحركات، وعلى وجهات النظر بدلاً من النظر بشكلٍ محايد، وعلى السياق بدلاً من البيانات الخام؛ والأهم من ذلك كون القصص ذات نهايات مفتوحة وهي مجازية بدلاً من الحتمية والحرفية.
في نهاية الأمر سواء أكنا نتفاعل بشدة مع مأزق الملك لير حيال تقسيمه لمملكته بين بناته الثلاث، أو كان لا يسعنا سوى التفكير في مختلف أفكار التقسيم الرياضي التي كانت من الممكن أن تساعد الملك لير كي يتضح موقفه، ربما كان هذا أمر يتجاوز الحسبان. فأغلبنا، في أزمنة وأمكنة مختلفة نستطيع، وينبغي علينا، ونستجيب بكلتا الطريقتين.
الكاتب: جون ألين بولوس أستاذ الرياضيات في جامعة تيمبل، ومؤلف للعديد من الكتب التي تتضمن “الضعف في الحساب”، و”حدث ذات رقم”، والكتاب الأحدث “اللادين.”
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
Stories vs. Statistics
John Allen Paulos
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”