تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
عالم إدراك معرفي وفيلسوف ألماني يسيران في الغابة ويَعثران على شجرة تتفتح: فماذا يرى كل واحد منهما؟ ولماذا يهم هذا الأمر؟
في حين أن ذلك قد يبدو كمشهد لمُزحة تجري على الألسُن في أحد مؤتمرات الفلسفة، إلا أنني أطرح المسألة هنا بصدق، كوسيلة لاستكشاف الآثار المترتبة على نزعتين فكريتَين مُتباينتين: وهما نزعة العلوم الإدراكية ونزعة علم الظواهر أو الفينومينولوجيا، وعلى وجه الخصوص فِكر الفيلسوف مارتن هايدغر الذي يقدم رؤية أكثر إقناعًا للأهمية القُصوى لوجودنا هنا، وماذا يعني أن نكون بَشرًا بحق.
يمكن القول إن علماء الإدراك يميلون إلى تجاهل أهمية ما يعتبره الكثيرون سِمات أساسية للوجود البشري، ويفضلون رؤيتنا كمُعالجين للمعلومات، بالأحرى عن رؤيتنا كبشر مُرهفي العواطف منغمسين في عوالم ذات أهمية. وعادة ما يكون مقصدهم هو شرح النشاط البشري والحياة كما نعيشها، وذلك على أساس العمليات الفسيولوجية والفيزيائية، بافتراضٍ ضمني وهو أن هذا هو مجال ما هو حقيقي في الأساس. ونظرًا لأنه فعليًا، كل ما يهمنا كبشر يمكن إرجاعه إلى الحياة كيفما تُعاش، فَمثل هذا التفكير لا بد أن يكون مُقلقًا.
على سبيل المثال، زعم مقالًا في صحيفة التايمز العام الماضي بقلم مايكل غرازيانو، أستاذ علم النفس وعلم الأعصاب في برينستون حول ما إذا كنا نحن البشر “واعين حقًا” وجادل، من بين أمور أخرى، بأنه “ليس لدينا في الواقع مشاعر داخلية بالطريقة التي يعتقد بها معظمنا”.
أحد سِمات هذا المسار الفكري الذي قد يصدمنا باعتباره غريبًا على وجه الخصوص، هو بدلا من كوننا على اتصال مباشر بالأشخاص والأشياء، يُقال إننا نُعالِج أجزاءً من المعلومات التي تنتقل لتكوين صورًا تمثيلية للعالم، والتي تُعد أساسًا لأي علاقات تربطنا برفقائنا. قد يبدو ذلك مُختلف تمامًا عن الطريقة التي نُجرّب بها بالفعل الأشياء، لكن قيل لنا أن نثق في أن العلم يُعَد أكثر موثوقية لأن التجربة تكون، في كثير من الأحيان، مُضلِلة في هذا الصَدد.
هذا لا يعني بأن جميع علماء الإدراك يرون الأشياء بهذه الطريقة؛ في الواقع هناك مدرسة فكرية مزدهرة يشار إليها باسم “4 E’s” (ما هو مُضمن، وما هو مُتجسد، وما هو مُمتد، وما هو نشط أو فاعِل) مستوحاة جزئيًا من هايدغر والفلاسفة ذوي التفكير المماثل، والتي تسعى إلى تطوير رؤية أكثر ثراءً للحياة مما هو سائد في تيار العلوم الإدراكية. ولكن الآن، أود التركيز على كيفية تعامل هايدغر مع موضوع ذي أهمية كبيرة في العلوم الإدراكية، وهو ظاهرة الانتباه.
وعلى هذا الأساس، سأوضح أنه بالنسبة لهايدغر، نحن لسنا فَحسب على اتصال مباشر مع الناس والأشياء في هذا العالم، بل إن وجودنا أيضًا مُهم لمعرفة كيفية ظهورها–كيف تأتي إلى الوجود–بكامل إمكاناتها المرتبطة بنوع الكينونات التي هي عليها. وهذا لا يعني وجودنا بالمعنى المادي، بل بالأحرى بمعنى كيفية انخراطنا كبشر أحياء-نَمر بتجربة كوننا بشر- وهو ما يشير إليه هايدغر، على نحوٍ معروفٍ، بـ “كينونتنا في العالم”. الفكرة هي أن وجودنا في الكون مهم فيما يخص الكيفية التي تتكشّف بها الأشياء بالفعل، بما يتجاوز بكثير أي عمليات جسدية أو فسيولوجية تدعي بأنها الأساس الجوهري للنشاط البشري. ولذلك على سبيل المثال، عندما نشعر بأن شخصًا ما يستمع إلينا حقًا، نشعر بأننا أكثر حيوية، ونشعر بأنفسنا الحقيقية قادمة إلى السطح: وهذا هو المعنى الذي يكون به الوجود في الكون أمرًا ذا أهمية.
الانتباه هو واحد من أكثر المجالات التي دُرست بشكل مكثف في العلوم الإدراكية. وكما هو مُدرَك تمامًا في هذه الدراسة، لا يمكننا استيعاب جميع المحفزات التي تؤثر على الحواس في وقت معين، لذلك يجب أن يكون هناك نوع من آلية الترشيح (التي يُطلق عليها اسم الانتباه) قبل الشروع في توجيه جهودنا إلى مجال تمثيل الواقع. كما تتعلق مسألة الانتباه بجميع الأحوال الممكنة للوجود الإنساني–جميع الحواس (البصرية والسمعية وما إلى ذلك) وغيرها من الطرائق مثل الفكر والشعور والخيال. وبذلك، يجب أولًا أن تمر أي عملية معالجة للمعلومات تمنحنا الوصول إلى الأشياء حتى يمكن تمثيلها، وذلك من خلال مُرشَح الانتباه.
يرى هايدغر بالمِثل الانتباه كونه طريقًا نصل به إلى الأشياء، ولكنه بخلاف ذلك، يراه مختلفًا تمامًا عن كيفية تصوره في العلوم الإدراكية. فبالنسبة لهايدغر، الانتباه هو الكيفية التي تأتي بها الأشياء إلى حيز الوجود بالنسبة لنا. (يمكننا العثور على معظم تأملاته المستمرة حول الانتباه في محاضراته التي تحمل عنوان “ما الذي يُطلق عليه تفكير؟”). وللتعرف على ذلك، لاحظ أنه إذا بقينا مع حركة الانتباه من لحظة إلى أخرى، فإننا نرى أنها تنتقل من كيان إلى آخر؛ أي أن الأشياء تأتي إلى الوجود في المُقدمة ثم تنحسر إلى الخلف.
وعلى سبيل المثال، لنفترض أنني يجب أن أكتب تقريرًا، ولكن هناك ضجيجًا في الغرفة الأخرى، ولدي ألمٌ في ساقي، كما أنني قَلقٌ من إصابة أعين زوجتي بالحول. ولأنجز التقرير، عليّ أن أولي الانتباه للمهمة، ولكن مع وجود المؤثرات المتنافسة، فإنها قد تستحوذ على المقدمة وتُقصي المهمة إلى الخلف. كل هذه المراكز المحتملة للانتباه تأتي إلى السطح ثم تنسحب مع ظهور مركز آخر في الأمام.
يتمثل منهج هايدغر في البحث عن طبيعة “الكينونة” والذي يُفهم ببساطة على أنه كيف تأتي الأشياء بصفة عامة إلى الوجود ثم تنسحب. وهذا يعني أن الانتباه هو الجانب الإنساني لعملية شاملة لظهور الكيانات، مع جهد مرتبط يشار إليه باسم اليقظة في دراسات العلوم الإدراكية. ويُعد هذا الجهد للبقاء مع الكيانات التي نواجهها مهم للغاية بالنسبة لهايدغر، لأنه إذا كان الاهتمام هو كيفية الوصول إلى أي شيء على الاطلاق، فحينئذٍ، من شأن البقاء مع كيان ما أن يتيح الكشف بشكل أعمق عن طبيعته. وفي هذا الصدد، يؤكد هايدغر على حقيقة أن الكيانات تتجلى على مرّ الزمن (ومن هنا جاء عمله الشهير لعام ١٩٢٧، “Being and Time” “الوجود والزمان”). الفكرة هي أن البقاء مع كيان ما أثناء تكشّفه يؤثر على الطريقة التي يظهر بها.
على سبيل المثال، إذا أوليت اهتمامًا أفضل لزوجتي على مدار علاقتنا، فأنا أرى وأفهم بعمق أكبر ما الذي يجري معها، وقد تستجيب بالمثل، وتتطور علاقتنا بطرقٍ غير متوقعة نتيجةً لذلك. وينطبق نفس المبدأ العام على شيء مادي بحت مثل الحجر. يمكن أن تتأثر الطريقة التي يظهر بها مثل هذا الجسم بخاصية حضوري، وهو ما يفسر سبب اهتمام هايدغر بالكيفية التي يعيش بها الشعراء في العالم بطريقة مبتكرة، وبجلب تلك التجربة إلى اللغة.
وللتحقق من حقيقة مثل هذا التوكيد، سيكون من الضروري إخضاعه لاختبار التجربة؛ أي أنه من الضروري رؤية ما يحدث عندما نتعامل مع كيان مثل الحجر، وذلك بانتباه حاد ومستمر، وعلينا فقط أن نبقى منفتحين على ما قد يظهر في مواجهته. إن الفرضية هي إمكانية أن يؤدي الانتباه الحاد إلى الشعور بأحد الكيانات بطريقة تتجاوز التجربة المعتادة. ويمكنني الشعور بشيء أعمق لأنني على اتصال مباشر به أثناء وجودي في هذا الكون.
ومثال ذلك، في إحدى المحاضرات المذكورة أعلاه، يتدارس هايدغر في حال الوقوف أمام شجرة تتفتح في أحد المُروج. ويسأل كيف يُقرر العلم أيًا من أبعاد الشجرة التي تُعد حقيقة؛ هل هي الشجرة التي يُنظر إليها على المستوى الخلوي (الخلية)، أم كنظام آلي للمعيشة، أم أنها الشجرة كما نميّزها في الواقع؟ في الواقع، كيف يستمد العلم سلطة الرأي في مثل هذه الأمور؟ يقول هايدغر:
نحن اليوم نميل إلى تفضيل المعرفة الفيزيائية والفسيولوجية الفائقة على وجه الافتراض، ونسقط الشجرة المزهرة… الشيء المهم أولا وقبل كل شيء… ليس أن نسقط الشجرة المزهرة، ولكن أن نسمح لها بالوقوف حيث تقف ولو لمرة واحدة… وحتى يومنا هذا، لم يسمح الفكر أبدًا للشجرة بالوقوف حيث تقف.
وهذا يعني أن البقاء مع تجربة الشجرة يُمكِّنها من أن تؤتي بثمارها الكاملة، وأن هذه التجربة مهمة في المخطط العام لوجودها بذاتها. ولأننا نكون أعمق وأكثر حيوية وعلى اتصال عميق بجميع الكيانات التي نواجهها عندما تُحقق مثل هذه الحالة، مما يعني أننا نشارك بشكل أكمل في عملية الظهور الشاملة هذه.
في هذه المرحلة، سيثار الاعتراض بلا شك “بالتأكيد، أنت لا تقصد أن تقول إن أي شجرة أو حجر يمكن له الظهور بطريقة أكثر عمقًا. كيف يمكن أن يؤثر وجودنا على وجود مثل هذا الكيان؟” هذا يقودنا إلى عمق فكر هايدغر وفكرته عن الوجود كعملية من التكشّف والظهور. لأنه ليس من المعقول أن أسأل، نظرًا لأنني أختبر حجرًا ما بطريقة أكثر عمقًا، فما علاقة ذلك بوجود الحجر ذاته؟
لقد مررنا بوجهة نظر متأصلة بعمق حول ما يعنيه أن تكون إنسانًا (مما يُضفي مصداقيةً على وجهات النظر التي تقول بأن تجربتنا ليس لها أهمية في نهاية المطاف)، وهي أن التجربة الذاتية تحدث في عالم خاص ومعزول عن بقية الواقع. ولكن هايدغر لا يميز حتى بين ما هو عقلي وما هو مادي؛ بالنسبة له تجربتنا هي حدث ما في العالم. وتجربة الحجر التي مررت بها هي جزء من عملية ظهوره في جميع إمكانياته. وبهذه الطريقة، نحن مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالحجر في وجودنا في هذا الكون، وهي البقعة التي يكون ظهوره بها أكثر عُمقًا. والادعاء هنا هو أن وجود الحجر بذاته ليس مستقلًا عن مثل هذا الحدث.
إذن التساؤل هو، ما هو الحجر وكيف نرتبط به؟ لا يمكن تصور وجود الحجر وعلاقتنا به بشكلٍ مستقلٍ عن السياق الكامل الذي ننشأ فيه. والرأي السائد هو أن الكون يتكون من كيانات منفصلة ترتبط في نهاية المطاف بالقوانين الفيزيائية. نحن نرتبط بكيانات أخرى عن طريق تمثيلات الصُور الذهنية للكل: وهو شيء شبيه بالمُراقبين العلميين الذين لا ينتمون حقًا إلى هنا. يقدم هايدغر، من ناحية أخرى، نظرة شمولية لكل ما هو موجود. إننا ننتمي هنا مع الأشجار والحجارة، لأننا نظهر سويًا. وبدلًا من كوننا كيانات منفصلة، تأتي العلاقة أولًا، كما يهم المدى الذي نرتبط وفق درجته، وذلك لأجل إدراك ماهيتنا نحن والحجر في نهاية الأمر.
لا بد أن هذا النهج يبدو غريبًا بالنسبة المحسوسات المُدرَكة في الزمن الحديث، ولكن علينا أن ننظر إلى ما هو على المحك. من وجهة نظر مبدئية، نحن معزولون بشكل جوهري عن العالم، بينما من ناحية أخرى نحن في علاقة مباشرة وربما عميقة مع الناس والأشياء التي نواجهها. وفيما يخص وجهة النظر الأخيرة، هناك إمكانات غير محدودة لما يمكن أن يتكشّف بما يستدعيه من جهد. وفي الواقع، يوحي هايدغر بأنه قد يكون هناك إضاءات سماوية بانتظار أولئك الذين يمهدون الطريق لها. كما سيكون هناك شك ضئيل بأن وجودنا له أهمية، إذا كان ذلك يمثل أي دلالة على مُهمتنا الحقيقية.
الكاتب: يُعد لورانس بيرجر واحدًا من المُرشّحين لنَيل درجة الدكتوراة في الفلسفة لدى الكُلية الجديدة للبحوث الاجتماعية في مدينة نيو يورك. لقد كان سابقًا أحد الأساتذة بكُلية وارتون في جامعة بنسلفانيا.
المترجم: باحث سعودي.
Being There: Heidegger on Why Our Presence Matters
Lawrence Berger
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”