تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٤ أغسطس ٢٠١٣
لاحظت سيمون ويل Simone Weil خلال استكشافها للدين الكاثوليكي، في كتاب “رسالة إلى كاهن” الذي كتبته قبل عامٍ من وفاتها في ١٩٤٣، أنه في مرحلة ما، “تغيير الدين بالنسبة لأي إنسان يُعد أمرًا خطيرًا شأنه شأن تغيير اللغة بالنسبة للكاتب. قد ينتهي الأمر كواحدٍ من النجاحات، ولكنه يمكن أن يكون له أيضًا عواقب وخيمة”. يتحدّث الفيلسوف الروماني إميل سيوران Emil Cioran الذي كان أحد هؤلاء الكُتّاب، عن تغيير اللغة كحدثٍ كارثيٍ في سيرة أي مؤلف. وهو محقٌ في ذلك.
عندما تصبح كاتباً، فإنك لا تقوم بذلك من الناحية النظرية، بل مع علاقة بلُغة معينّة. ممارسة الكتابة تعني أن تُرسّخ جذورك في تلك اللغة؛ فكُلما أصبحت كاتبًا أفضل، كلما أخذت هذه الجذور بالتعمّق. البراعة الأدبية دائماً ما تُظهر شعورًا بالانغماس العميق والمُريح في تربة مألوفة. وعلى هذا النحو، إذا اضطر الكاتب أن يغيّر لغته لأي سبب من الأسباب، فإن المرور بهذه التجربة لا يقل عن كونه مُهددًا للحياة. إذ ليس عليك فحسب البدء بكل شيء من الصفر مرة أخرى، ولكن عليك أيضًا التراجع عما كنت تفعله تقريبًا طوال الفترة التي عِشت خلالها. إن تغيير اللغة ليس لضعاف القلوب ولا لقليلي الصبر.
كما قد تكون التجربة مؤلمة على المستوى الإنساني بالتحديد، فإنها قد تكون أيضًا مذهلة من الناحية الفلسفية. نادرًا ما نحظى بفرصة الانتباه إلى إعادة تكوين جوهرية للذات. بالنسبة إلى لغة الكاتب، بعيدًا عن كونها مجرد وسيلة للتعبير، فهي قبل كل شيء نمط من الوجود الذاتي وطريقة لخوض التجارب في العالم. إنه بحاجة إلى اللغة ليس لوصف الأشياء فقط، ولكن لرؤيتها أيضًا. يكشف العالم عن ذاته بطريقة معينة للكاتب الياباني، وبطريقة أخرى للكاتب الذي يكتب بالفنلندية. إن لغة الكاتب ليست مجرد شيء يستخدمه، ولكنها جزء أساسي من تكوينه. لذلك فتخليك عن لغتك الأم وتبنيك للغة أخرى يعني أنك تُفكّك ذاتك قطعة تلو الأخرى، ثم تعيد تجميعها من جديد، بشكل مختلف.
بادئ ذي بدءٍ، عند تغيير اللغة، فإنك تنزل إلى نقطة الصفر من مستوى وجودك. يجب أن تكون هناك لحظة مهما كانت وجيزة تتوقف حينها عن الوجود. لقد هجرت للتو اللغة القديمة ولم تستقبلك اللغة الجديدة بعد. فأنت الآن في طيّ النسيان، بين عوالم، معلقاً فوق الهُوّة. عادة ما يحدث تغيير في اللغة عندما يُنفى الكاتب أو عندما ينفي هو ذاته. ومع ذلك، فإن النفي الجسدي يتضاعف في مثل هذه الحالات من خلال نفي آخر وجودي؛ نفي يقع على هامش الوجود. يبدو الأمر كما لو أن ذات الكاتب، ولو للحظة، وأثناء عبوره خلال الفراغ، أي الشقّ الضيّق بين اللغات، حيث لا توجد كلمات يمكن التمسّك بها، كما لا يمكن تسميّة أي شيء، تُمحى ذات الكاتب من الوجود. تُعد مقارنة ويل للتحوّل إلى لغة أخرى بالتحوّل الديني ملائمة حقًا لأنها تشبه تمامًا حالة المُعتنق لدينٍ جديدٍ، حيث يمرّ الكاتب الذي يتحوّل عن لغته بتجربة الموت والولادة من جديد. وعلى نحوٍ مُهمٍ، يموت ذلك الشخص ثم يعود كشخص آخر. يقول سيوران: “عندما غيّرت لغتي، قضيت على ماضييّ. فقد غيّرت حياتي كلها”.
عندما يبدأ الكاتب الكتابة بلغة جديدة، يُولد العالم أمامه من جديد. ولكن الولادة الجديدة الأكثر دهشةً هي ولادته. ولأن هذا المشروع يُعد مشروعًا لإعادة البناء للذات بالكامل، حيث لا يُترك حجرٌ بلا قلب ولا شيء سيبدو كما كان مرة أخرى، فلُغتك الأم، ما كنت عليه من قبل، تبدو الآن أقل ألفة على نحوٍ متناقص بالنسبة لك. لكن ينبغي ألا يُزعجك هذا الأمر على الإطلاق. في الواقع، إنك تتطلع إلى وقتٍ ما سوف تستغله كأي لغة أجنبية أخرى لك. بعد فترة ليست بطويلة من تبني صامويل بيكيت (Samuel Beckett) للغة الفرنسية، اشتكى هذا الأيرلندي من لغته الإنجليزية الأم قائلًا: “لغة مروّعة، مازلت أعرفها جيداً”. فالوعد الأنطولوجي بالتجديد الكامل الذي يُصاحب اللغة الجديدة لا يقل عن كونه مُسببًا لفقد الصواب.
عندما تولد من جديد بهذه الطريقة، يبدو الأمر كما لو كانت كل الاحتمالات متاحة. لقد مُنِحتَ فرصة لإعادة تشكيل ذاتك وفقًا لأي شكل تختاره. أنت خالق ذاتك: فَمن لا شيء كما كُنت، يُمكنك أن تصبح كل شيء. حينما سُئِل بيكيت في عام ١٩٥٤ عن سبب اختياره لتغيير لغته، أجاب: أنه كان من منطلق “الحاجَة إلى أن يكون غير مؤهَل.” كان رده ماكرًا للغاية لأنك إذا أصغيت إليه عن كُثبٍ، فإنك ستجد أن نبرة تفاخره تصمّ الآذان. حيث إنه في اللغة الفرنسية، لا تبدو الحاجة إلى “أن تكون غير مؤهل” (d’être mal armé) مختلفة تمامًا عن الحاجة إلى أن تكون الشاعر مالارميه Mallarmé (شاعرًا آخراً) (d’être Mallarmé). لم تكن أي مكانة أقل من مكانة الشاعر مالارميه كافية بالنسبة لبيكيت في سعيه وراء الذات الجديدة. في النهاية، لم يصبح مالارميه، لكنه أصبح صامويل بيكيت، المؤلف الفرنسي لـ “مولوي” و “مالون يموت” و “في انتظار غودو” والتي على الأرجح تُعد جيدة بنفس القدر. وكأنه لم يكن هناك ما يكفي من الاغتراب في تبنيه للغة جديدة، فقد عزل نفسه مرة أخرى بترجمة عمله الفرنسي إلى الإنجليزية. وفي موضعٍ آخر، ادّعى بيكيت أنه يفضّل الفرنسية لأنها سمحت له بالكتابة “بلا أسلوب”. ومع ذلك، فإن الكتابة “بلا أسلوب” هي من أصعب أساليب الكتابة. أنت حقًا بحاجة لأن تكون مؤهلًا بشكل جيد للقيام بذلك.
هناك شيء “فِطري” في أن يصبح المرء كاتباً بلغته الأم. عقب بلوغ الوعي الذاتي في تلك اللغة، وبعد أن استوعبها بالكامل ومزجها مع حليب الأم، إن جاز التعبير، يجد مثل هذا الكاتب نفسه في وضع متميز إلى حد ما: فما عليه إلا أن يصل إلى الكمال لكل شيء تعلمه، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار لضرورة التدريب الدقيق والانضباط الذاتي والممارسة المستمرة. ففي نهاية المطاف، الفن هو ما يقابل الطبيعة. ومع ذلك، بغض النظر عن الطريقة التي تنظر بها إلى الموضوع، هناك شعور واضح بالاستمرارية والنمو المُتأصل في مسار هذا الكاتب.
ورغم هذا، أن تصبح كاتباً بلغة ليست لغتك الأم يتعارض مع الطبيعة. فلا يوجد شيء مُتأصل في هذه العملية، بل توجد البراعة فقط. لا توجد “غرائز” لغوية ترشدك على الطريق ونادرًا ما تهمس الملائكة الحارسة للغة في إذنك: أنت حقًا في طريقك الصحيح. يقول سيوران: “عندما كتبت بالرومانية، لم تكن الكلمات مستقلّة عني. فبمجرد أن بدأت الكتابة بالفرنسية، اخترت كل كلمة بوعي: فكانت أمامي، وخارجي، كل واحدة منها في مكانها. وكُنت أختارها كالتالي: الآن، سآخذ هذه الكلمة، ثم سآخذ تلك، وهكذا.”
كثير من الذين يتحولون إلى الكتابة بلغة ثانية يطورون وعيًا لغويًا حادًا، على نحوٍ غير مُعتاد. ففي مقابلة أجراها جوزيف برودسكي (Joseph Brodsky) عام ١٩٧٩، بعد حوالي سبع سنوات من انتقاله إلى الولايات المتحدة من موطنه الأصلي روسيا، يتحدث عن “علاقته الغرامية المستمرة مع اللغة الإنجليزية.” فاللغة حضور طاغٍ لهؤلاء الأشخاص حيث إنها تُهيكل سيرهم الذاتية الجديدة. يقول برودسكي: “اللغة الإنجليزية هي الشيء الوحيد المثير للاهتمام الذي بقى في حياتي”. فالحاجة إلى إيجاد الكلمة الصحيحة المناسبة le mot juste تبدأ كمصدر قلق، وتتحوّل إلى هوس، وينتهي بها الأمر كأسلوب حياة. يتفوّق هؤلاء الكُتّاب في فن صُنع الفضيلة من الضرورة: فبدافع الحاجة إلى فهم كيفية عمل اللغة الجديدة، يتحولون إلى مهووسين لغويين، وبدافع الاهتمام بالدقة، يصبحون نحويين لا يُمكن مقاومتهم.
حينما انتقل إلى فرنسا في سن السادسة والعشرين، كان إتقان سيوران للغة الفرنسية يعتبر بالكاد مقبولاً، ومع ذلك انتهى به الأمر كواحد من أعظم أصحاب الأساليب لتلك اللغة. وبالمثل، تعلّم جوزيف كونراد Joseph Conrad اللغة الإنجليزية في وقتٍ متأخرٍ نسبياً من حياته – وهذا لم يمنعه من أن يصبح أحد أكثر ممثليها خبرة. ڤلاديمير نابوكوڤ Vladimir Nabokov هو بلا شك ممثل آخر من هذا القبيل، على الرغم من أنه بدأ تعلم اللغة الإنجليزية في سن مبكرة. نفس النمط مراراً وتكراراً: كل شيء من لا شيء، من إيقاف الجهل إلى نمط من أنماط التعبير من الدرجة الأولى.
عند الاقتراب من نهاية رواية فهرنهايت 451 (Fahrenheit 451) للكاتب راي برادبري Ray Bradbury، يُصادف القارئ شيئًا تتجاوز أهميته حدود القصة. إنه المشهد الذي يلتقي فيه مونتجيو (Montague) “بالأشخاص المُهتمين بالكُتب”. ففي عالم تحظر فيه النصوص المطبوعة، كرس هؤلاء الأشخاص حياتهم للحفاظ على ” الكُتب العظيمة” للبشرية. كل واحد فيهم يلتزم بحفظ أحد الكُتب في ذاكرته ويقضي حياته كلها في قراءته. إنها نصوص حيّة، وهؤلاء الناس يتحلون بلغة متجسدة. فبصرف النظر عن الروائع التي تسكن هؤلاء الأشخاص، إلا أنهم لا يُولون الكثير من الاهتمام. لا تهم أجسادهم كثيراً كالورق الذي يُطبع عليه الكتاب. بطريقة ما، الكاتب الذي غيّر لغته لا يختلف كثيرًا عن هؤلاء الناس. فعلى المدى البعيد، وبسبب انشغالهم القهري بالدقّة اللغوية وبالكمال الأسلوبي، يحدث استعمار من نوعٍ ما: تخترق اللغة كل تفاصيل حياة ذلك الكاتب، وتزودّه بالخبرة وتعيد تشكيله، وتعلن هيمنتها عليه – إنها تستحوذ عليه. إن ذات الكاتب الآن تحت احتلال قوة غازية: كتابته الخاصة باللغة الجديدة.
بمعنى ما، إذًا، يمكن القول أنك في النهاية لا تغيّر لغتك حقاً، بل اللغة هي التي تغيّرك. وعلى مستوى أعمق وأكثر شخصية، فإن كتابة الأدب بلغة أخرى تتسم ببُعد أدائي مميز: عندما تفعل ذلك، يحدث لك شيء ما، وهو أن اللغة تؤثر عليك، حيث ينتهي المطاف بالكتاب الذي تعكف على تأليفه، بأن يعكف هو على تأليفك. والنتيجة هي نوع من “التشبيح ghostification”. تغيير الكاتب للغته يُمثّل خضوعًا لعملية إزالة الماديات dematerilization،فقبل معرفتك بها، أنت لست سُوى لغة، أكثر من أي شيء آخر. ذات يوم من الأيام، فجأة، يبدأ حدس معين بزيارتك، أي أنك لم تعد في الأساس تتكون من جسدٍ بعد الآن، بل إنك تتكون من السطور والقوافي، ومِن الاستراتيجيات الخطابية والأنماط السردية. تمامًا مثل “الأشخاص المُهتمين بالكُتب”، فأنت لا تعني الكثير بمعزلٍ عن النصوص التي تسكن داخلك. أنت لا تزيد عن كونك رجل أو امرأة من لحم ودم، فأنت الآن لست سُوى واحدة من تفاصيل اللغة نفسها، مشروع أدبي يشبه إلى حد كبير الكتب التي تكتبها. الكاتب الذي غيّر لغته هو حقاً “كاتب لقصص الأشباح” (ghost writer). هو الشخص الوحيد الجدير بهذا الاسم.
بعد القيام بكل هذا، بعد أن مررت بألم تغيير اللغات وخضعت لبدء عملية الموت والولادة من جديد، فإنك تُمنح أحياناً، وكما لو كانت مكافئة، إمكانية الوصول إلى استبصار ميتافيزيقي عن جمال غير مألوف وبِدائي. إنها الفكرة القائلة بأن العالم قد لا يكون سوى قصة في طور التكوين، وأننا نحن الذين نسكنه قد لا نكون سوى شخصيات فيه. أي شخصيات باحثة عن مؤلف.
الكاتب: كوستيكا براداتان Costica Bradatan أستاذ شرف مشارك في جامعة تكساس التقنية، وهو مُحرر دراسات دينية/مُقارنة لـمجلة مراجعة لوس أنجلوس للكتب ((The Los Angeles Review of Books. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “الفلسفة والمجتمع ومكر التاريخ في أوروبا الشرقية” (Philosophy, Society and the Cunning of History in Eastern Europe).
المترجم: باحثة دكتوراه في الأدب. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
Born Again in a Second Language
Costica Bradatan
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”