تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
يواجه آلاف اللاجئين الذين يواصلون التوافد على أوربا في كل يوم العوائق التي لا تتمثل فحسب في العوائق الفيزيائية من أسوار وسياجات وأسلاك شائكة، بل تمتد إلى مقاومة أعمق في نزعات القومية وكراهية الأجانب المحتدمة في كل أرجاء القارّة.
إذ يستمر عددٌ من الأحداث الأخيرة في تغذية الخوف المتأصل وغير العقلاني غالبًا من الآخر كما هو الحال مع هجمات الدولة الإسلامية “داعش” في إسطنبول وباريس وأماكن أخرى وكما هو الحال في الاعتداء الجماعي على النساء في مدينة كولونيا بألمانيا في ليلة رأس السنة. ومن ثم هناك الجدل الدائر حول اللاجئين القادمين إلى الولايات المتحدة، حيث ظهرت مشاعر قومية، غالبًا في خطابات عددٍ من المرشحين للرئاسة.
تُغلَق الآن الأبواب في ألمانيا وفي بلدان أخرى أمام الغرباء والمحتاجين لكن ما هي العواقب المحتملة لهذه المقاومة؟ وهل يمكن تبريرها؟ هل ندين للمتألمين والمحرومين بما هو أكثر، إذا أردنا أن نصف أنفسنا بأننا كائنات أخلاقية؟
قلّة من الفلاسفة هم من واجهوا مثل هذه الأسئلة بشكلٍ مباشر أكثر من مواجهة إيمانويل ليفيناس لها. وُلِد ليفيناس لعائلة يهودية في كوناس، ليثوانيا، عام ١٩٠٦ م؛ وانتقل إلى فرنسا عام ١٩٢٣م ودرس الفلسفة في ألمانيا تحت إشراف إدموند هوسرل ومارتن هايدغر في أواخر القرن العشرينات من القرن الماضي. صنع ليفيناس اسمًا لنفسه في الثلاثينات باعتباره من أوائل المؤولين والمدافعين عن فينومينولوجيا هوسرل وهايدغر في فرنسا، لكن التزامه تجاه بحث الفينومينولوجيا الخفي عن معنى الوجود وفهمه له قد تغيّر أثناء الحرب العالمية الثانية. التحق ليفيناس بالجيش الفرنسي عام ١٩٣٩م واعتقله النازيون عام ١٩٤٠م. وبينما نجى ليفيناس من الإرسال إلى معسكرا الاعتقال، قُتِل جميع أفراد أسرته على يد النازيين بسبب معتقداتهم وجذورهم اليهودية.
بعد الحرب، كان شغل ليفيناس الشاغل هو توصيف المصدر الملموس للعلاقات الأخلاقية بين البشر: أي قدرتنا على الاستجابة لاحتياجات الآخرين ورغباتهم.
كانت العبارة الافتتاحية في كتاب ليفيناس” ما سوى الوجود” تقول “في ذكرى أولئك الذن كانوا الأقرب من بين الستة ملايين الذي اغتالهم الاشتراكيون القوميون، وذكري الملايين والملايين من جميع الطوائف والأمم، ضحايا ذات الكراهية للإنسان الآخر، ذات العداء للساميّة”. يعد الكتاب الذي يلي هذه المقولة تأمل عميق في جوهر الإقصاء، كما أنه أطروحة ثابتة حول الضيافة الأساسية التي تشكِّل إنسانيتنا. تحتوي مجموعة أعمال ليفيناس الواسعة على الكثير لتعلمنا إياه حول طبيعة القومية وخطرها وكذلك ضرورة الترحيب بالكائنات البشرية الضعيفة وحمايتها.
تنتج القومية عن تحديد الهوية وتحديد الفروق كما أنها تنتج عن التشابهات والفروق التي نراها بيننا وبين الآخرين. كأمريكي فإنك تتشارك مع كثير من المواطنين في ذات التنشئة، وتختلف خلفيتك هذه عن خلفية أكثر البريطانيين أو الإيطاليين. يتطوّر حسك بهويتك تطورًا جزئيًا من خلال إدراكك للخصال التي تشاركها مع الأمريكيين وتميّزهم عن مواطني بقية الدول. لكن كما نعلم من التاريخ، فإن بناء الهوية هذا حينما يؤخذ لحدود الطرف فإنه من الممكن أن يؤدي غالبًا إلى أمورٍ مروّعة.
يتتبع ليفيناس جذور القوميّة الخبيثة إلى التمييزات الحادة التي نصنعها بين “المثيل” و “الآخر”. وبينما يمكِّن تحديد الهوية وتمييزها من تشكيل الهويّة الشخصية، فإنه قد يؤدي أيضًا إلى العدوانية حينما تكون الخصال التي نستعملها لتمييز ذواتنا عن الآخرين ذات طبيعة شموليّة ومطلقة. تحدث “الشمولية” عندما يعتبر أفراد مجموعةٍ ما خصلة من خصال مجموعة أخرى خصلة قطعية لهذه المجموعة ولجميع الأفراد الموجودين فيها على حدٍ سواء. إذ غالبًا ما تُطبَّق تعميمات مثل كون “الأمريكيون اجتماعيون” و “البريطانيون متحفّظون” و”الإيطاليون انفعاليون” تطبيقًا غير عادل على الأفراد الأمريكيين أو البريطانيين أو الإيطاليين. كذلك للصور النمطية السلبية مثل “اليهود طماعون” و”السود خطيرون” و “المسلمون إرهابيون” على تاريخ من التسبب في عدوان جائر ضد أفراد هذه المجتمعات. في كلٍ من هذه الأمثلة نختزل الآخرين في فئة بسيطة أو واحدة تميّز “بيننا” و “بينهم” تمييزًا مطلقًا. وغالبًا ما ينتج عن هذا الاختزال رد فعل حساس تجاه الآخرين؛ كردود الفعل المتمثلة في الاستعجال في بناء سياجات حول أوروبا لمنع دخول اللاجئين الأفغان والعراقيين والسوريين.
تنطوي مضادّات ليفيناس لهذه الحساسية في ردود أفعالنا على ثلاثة أمور: اللجوء إلى “اللاتناهي” في الكائنات البشرية، والتوصيف التفصيلي للمقابلات الشخصية وجهًا لوجه، واعتبار الضيافة الأساسية التي تشكِّل الإنسانية.
اللاتناهي هو مفهوم ليفيناس التقني لفكرة أن الناس دائمًا ما يكونون أكثر مما تستطيع فئاتنا إدراكه. فقد تكون بريطانيًا أنغليكانيًا من ميدلاندز، لكنك أكثر من ذلك بكثير؛ فأنت أب، وابن، وزوج؛ لديك شعر أسود، وعينين زرقاوتين، ولحيتك خطّها المشيب؛ لديك آراء سياسية ومعتقدات مثيرة للجدل حول بداية العالم؛ وهكذا إلى ما لا نهاية.
على نحوٍ مماثل، فإن اللاجئة السورية قد تكون مسلمة، لكنها أكثر من ذلك بكثير؛ فهي أم، وابنة، وزوجة؛ لديها شعر أسود وعيون بنيّة وخط فكّ حاد؛ لديها آراء سياسية ومعتقدات مثيرة للجدل حول بداية العالم؛ وهكذا إلى ما لا نهاية. يحاول ليفيناس، من خلال لفت الانتباه إلى هذا اللاتناهي في الكائنات البشرية، أن يكشف لنا أن محددات هوياتنا والعوامل التي نختلف بها عن الآخرين دائمًا ما تفشل في أن تكون توصيفًا كافيًا للآخرين. كما أنه يستهدف أن يعيق نزعاتنا الخاصة بالتجميع والخوف من الآخر من خلال الإشارة إلى إنسانية الأشخاص الآخرين غير القابلة للاختزال.
وبشكل ملموس، فإن إنسانية الآخرين غير القابلة للاختزال تكمن في الوجه. إذ تقابلنا الوجوه مقابلةً مباشرةً وفوريةً وترفض القوالب. يشير ليفيناس إلى عدم إمكانية اختزال الآخرين من خلال الحديث عن حضور الله في الوجه، لكن هذا الطرح عن الوجه يكشف كذلك جانبًا آخرًا لدى البشر: وهو قابلية التأثر. إذ يكون الوجه عارٍ ومكشوف وعرضة للهجوم؛ ويكون جائعًا وظامئ؛ كما أنه يبحث عن الحماية والتغذية. يستدعي ليفيناس الغريب والأرملة واليتيم كأمثلة على الحرمان. يمكننا أيضًا إضافة طالبي اللجوء والمنفيين المحاصَرين كحالات حادّة للمعاناة. لكن أطروحة ليفيناس العامة عن قابلية التأثر توضح لنا كيف تؤسس الضيافة في وجه احتياج الآخر لذاتية الفرد وتعكس الإنسانية التي تسبق تأسيس جميع الحدود القومية والتي تعد أكثر أهمية منها.
وفقًا لليفيناس، فإن الضيافة تنطوي على تقييد استمتاعنا بالعالم عندما نواجه احتياج الآخر. ويتمثّل ذلك في فعل الترحيب بالآخر في بيوتنا ومشاركة ما نملكه. فهذا الترحيب وهذه المشاركة مع الآخرين تحددنا وتحدد ماهيتنا ككائنات بشرية مُحدَّدة. يعبّر ليفيناس عن هذه الفكرة في نقاشه للذاتية حيث توصف الذات بكونها مضيفة ورهينة لدى الآخرين. فنحن مضيفون للآخرين لأن الترحيب بهم في عالمنا شرط مُسبَق لعلاقة تحديد الهوية والتفريق بيننا. كما أننا رهائن لأن هويتنا الشخصية تتحدد بمدى استجابتنا لمطالب الآخرين منّا.
على سبيل المثال فإن هويتك كمعلم ثانوي إيطالي تتحقق من خلال إدراكك لرغبة الآخرين في التعليم واستجابتك لهذه الرغبة. وبالمثل، فإن حال الرجل السوري كمهرّب للاجئين حال ممكن من خلال إدراكه واستجابته لحاجة المنفيين إلى مرور آمن عبر البحر. نكتشف من خلال هذه الأمثلة أن مكاننا في مجتمع بشري مُميَّز يستند إلى قدرتنا على الاستجابة لاحتياجات الآخرين ورغباتهم. لكن ليفيناس يوضح لنا أن الضيافة لا تحدد فحسب هوياتنا في مجتمعات مُحدَّدة، لكنها تعد أيضًا علامة للإنسانية—فالضيافة هي أساس المجتمع الإنساني في حد ذاته.
يفترض وجود مجتمعات إنسانية متميزة قدرتنا على الترحيب بالآخرين ومشاركتهم ممتلكاتنا. كتب ليفيناس في كتابه الشمولية واللاتناهي “أن تدرك الآخر يعني أن تصل إليه متجاوزًا عالمًا من المقتنيات، لكنه يعني في ذات الوقت أن تؤسس، بالهديّة، مجتمعًا وكونيّة”. عندما يُسائل احتياجُ الآخر استمتاعنا بالعالم، تؤسس الضيافة مجتمعًا إنسانيًا في فعل العطاء مع خلق لغة مشتركة. تكون هذه اللغة، كما كتب ليفيناس، لغة كونيّة؛ إذ تكون هي الممر من الفرد إلى العامّ، لأنها تقدم ما لديّ للآخر، وعند التحدث تجعل العالم مشتركًا، وتخلق أماكن مشتركة. فلا تحيل اللغة إلى عمومية المفاهيم، لكنها تضع الأسس لما يمكن امتلاكه بالشراكة. إذ تقضي على ممتلكات المتعة التي لا يمكن التصرف فيها. لم يعد عالم الخطاب كما هو عليه في حال الانفصال، فحينما أكون مع نفسي في منزلي حيث يُقدَم لي كل شيء؛ هو ما أقدمه: ما يمكن التعبير عنه، والفكر، والكون.
وفي حين أن خلق اللغة المشتركة هو أساس المجتمع البشري، تتيح لنا اللغة أيضًا تصنيف الآخرين وبالتالي فهي تحددنا وتميزنا عنهم على نحوٍ واضح. ييسّر لنا ذلك ميلنا إلى التغاضي عن الوجه المحتاج ورؤية “السوري” أو “المسلم” الذي لا يشبهني بدلاً منه. كما يثير أساس المجتمع الإنساني سؤال “آخر الآخرين”، حيث يمكن مقاطعة أي لقاء وجهًا لوجه من خلال وجه إنسان آخر. بعبارة أخرى، فإننا مطالبون بمشاركة ممتلكاتنا مع كل البشر. ينظر ليفيناس لهذا الطلب على أنه مسؤولية لا متناهية لكنها مستحيلة، باعتبار أننا قد نعطي كل ما نملك لأي شخص لكننا لا نملك ما يكفي لنعطيه للجميع. وفي وجه هذه المسؤولية المستحيلة نطالب بالعدالة: أي التنظيم المنهجي للموارد وتوزيعها بين الناس. ومن هنا فلسنا بعيدين عن تشكيل دول قوميّة بهويات قاسية وحدود مادية والمقاومة بالأسلاك الشائكة التي بدأنا بها.
على الرغم من أنه يبدو أننا عدنا لنقطة البداية، إلا أن ليفيناس قد علّمنا أن مسؤوليتنا تجاه الآخرين هي أساس كل المجتمعات الإنسانية وأن إمكانية العيش في عالم إنساني ذي معنى تعتمد على قدرتنا على إعطاء ما يمكننا إعطائه للآخرين. وبما أن الترحيب والمشاركة هما الأساس الذي تتشكَّل عليه كل المجتمعات، فإنه لا يمكن بشكلٍ ثابت الدفاع عن أي مقدار من القومية غير المضيافة في مواجهة معاناة الآخرين. كما يقول ليفيناس “في العلاقة بين المثيل والآخر، يكون ترحيبي بالآخر هو الحقيقة المطلقة”. إنها ضيافة الإنسانية أو السلام السابق على العداوة. وفي هذا السلام الأولي وفي هذا الترحيب الأساسي باللاجئين يذكرنا ليفيناس بأن “ما يهم ليس ما يبنيه الإنسان بل ما يقدمه.”
الكاتب: آرون جيمس وندلاند زميل باحث في جامعة تارتو في إستونيا، ومحرر مشارك في كتاب “ فيتجنشتاين وهايدجر” والكتاب المرتقب “هايدجر والتكنولوجيا.”
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
?What Do We Owe Each Other
Aaron James Wendland
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”