تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
الحياة المعاصرة مليئة برؤى للمستقبل. فنحن الآن نعاني من هوس ما ينتظرنا في المستقبل، في حين تحسر فريدريك نيتشه على فائض المعنى التاريخي وسحق أوروبا القديمة تحت وطأة ماضيها. تتراكم الديون، على المستويين الشخصي والوطني، بالسرعة نفسها التي تتراكم بها التزاماتنا تجاه الأجيال اللاحقة. وتغمرنا التقارير التي تفيد بأن الأزمة البيئية العالمية قد تصل قريبًا إلى نقطة تحول مأساوية. فكيف لنا أن نواجه الزمن القادم مع تكهنات تنذر بقرب نهاية العالم تطل علينا من كل زاوية؟
يتشكل على قدم وساق، في خضم هذا الاضطراب، علمٌ جديد للتنبؤ بالمستقبل، نشأ بناءً على ثقة متزايدة في قدرتنا على التنبؤ بما يريده المستقبل ويحتاجه. إننا نتخذ القرارات بشأن قضايا مثل حماية البيئة أو التحكم في التكاثر البشري باسم الأجيال القادمة. ونثق، بصفتنا النيتشويين المتأخرين على مسرح التاريخ الذي نعتبر أنفسنا في ذروته، من أن معرفتنا المطلقة تمتد إلى ما وراء الأفق الزمني للحاضر. لكن كيف نحدد مصالح أولئك الذين لم يولدوا بعد ونحدد التزاماتنا تجاههم؟ هل نحن قادرون حقًا على الاستماع إلى ما يخبرنا به المستقبل أو في كثير من الأحيان، ما يهمس لنا به بصوتٍ خافت؟ والأهم من ذلك، لماذا لا تكون مطالب الحاضر مُلِّحة ولا جاذبة بما يكفي في حد ذاتها؟
صحيح أن عواقب أفعال اليوم سيكون لها تأثير طويل المدى. فآثار كارثة، مثل فوكوشيما[1]، سوف تدوم بالتأكيد أكثر من عمر أولئك المسؤولين عن الكارثة. لكن هل يعني الحجم الهائل لبصمتنا الزمنية أنه يمكننا التحدث باسم بشر لم يصبحوا على قيد الحياة بعد؟ ما هي الأسس المعرفية والأخلاقية، بعبارة أخرى، التي يمكن أن تتكشف على أساسها علاقتنا بالمستقبل؟
إن الإصرار على أية فكرة عن المستقبل في المناقشات السياسية والفلسفية يجازف بتحويلها إلى أداة أيديولوجية تُستخدَم لتبرير السياسات الحالية. يؤكد خطاب دعاة مناهضة الإجهاض، على سبيل المثال، على حقوق الجنين لتنظيم النشاط الجنسي للإناث. البرهان بنقض فرض هذه الحجة هو حظر أي شكل من أشكال منع الحمل يُجريه بعض المحافظين الدينيين الذين يضعون إمكانيات الإنجاب المجردة فوق أهمية الأشخاص الموجودين فعلاً. تحوِّل مثل هذه الحجج الأجيال القادمة إلى مجرد بيادق في صراعات القوى التي تجري في الحاضر.
إننا، بالتالي، نُسقط مخاوفنا على المستقبل ونغتصب مساحته الصحيحة لأننا نختنق تحت عبئه المفرط. وعندما ندعي أننا نتحدث عن المستقبل، فإننا نمثله بمعنى مزدوج: من خلال انتخاب أنفسنا كمندوبين له، وفي نفس الوقت من خلال تحويله إلى امتداد للحاضر.
يعد إضفاء المثالية على أفعالنا لتكون كل شيء ونهايته بُعدًا آخر لاستعمار المستقبل. إذ يتحول المستقبل إلى هوس يكمل النواقص ويصلح العيوب الأصيلة في الحاضر؛ ونظراً لأن الأجيال القادمة لم تصل بعد إلى الوجود الفعلي، فلن يتمكن أولئك الذين يعيشون الآن من الوصول إلى مستوى الكمال المزعوم.
هذه الظاهرة التي تبدو جديدة، هي في الواقع طفرة في النزعة الميتافيزيقية القديمة لتحطيم صورة العالم هنا بالأسفل لصالح المثل الأعلى للعالم الآخر: مثل أفكار أفلاطون، ومحرك أرسطو الذي لا يتحرك، وإله فلسفة القرون الوسطى، وروح هيجل، والبقية. بيد أن النموذج الميتافيزيقي الناشئ يختلف عن أسلافه من حيث أن مصيره مرتبط بالصيرورة التاريخية، وليس بالمبادئ الأبدية للكينونة. هذه الخاصية الزمنية خادعة، لأن المستقبل مؤجل إلى أجلٍ غير مسمى. فهو يبقى دائمًا بعيدًا عن الحاضر، محصنًا ضد أي اعتراض، مثل الكايميرا[2] في الميتافيزيقيا القديمة.
ليس هناك ما هو أسهل من مصادرة أصوات أولئك الذين لا يستطيعون التحدث عن أنفسهم في الصراع الجدلي لتحديد الحاضر. كما أشار أعضاء إحدى مجموعات الدراسات التابعة في سياق استعمار المستقبل، فإن الأشخاص المحرومين من وسائل التعبير السياسي يتعرضون لخطر تشويه صورهم من خلال رموز سلطة حسني النوايا. تعيد الدعوة إلى مناصرة البيئة هذا النمط من خلال إسناد اهتمامات مُعيَّنة إلى النظم البيئية “التي لا صوت لها” بل وإلى الأنواع الفردية؛ حقًا، إن الطريق إلى المستقبل مُمهَّد بالنوايا الحسنة.
ستقطع جرعة صحية من الأبيقورية شوطًا طويلاً نحو علاج تضخم الاستطراد بخصوص المستقبل. لكن هذا لا يعني أن نتبنى موقفًا هادئ البال في الحياة العامة، غافلاً عن الاهتمامات الأخلاقية. بل نقترح إعادة تركيز الانتباه على الكائنات الحية، البشرية وغير البشرية، الموجودة بالفعل. فلا ينبغي، على الأقل، استخدام المستقبل لتشتيتنا عما هو موجود بالفعل.
إن العلاقة الوحيدة التي يمكن الدفاع عنها بهذه الطريقة الزمنية هي ترك أكبر عدد من الخيارات المتاحة للأجيال القادمة، كما يجادل دانيال إينيراريتي في كتابه “المستقبل وأعداؤه”. وسيكون هذا النهج البسيط حساساً للانفتاح في المستقبل، معترفًا بعدم قدرتنا على تحقيق العدالة للآخر المطلق؛ عندئذٍ فحسب سيكون للمستقبلِ مستقبلٌ حقيقيٌ.
كاتبيّ المقالة:
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
[1] كارثة فوكوشيما هي كارثة تطورت بعد زلزال اليابان الكبير في 11 مارس 2011 ضمن مفاعل فوكوشيما 1 النووي. حيث أدت مشاكل التبريد إلى ارتفاع في ضغط المفاعل، تبعتها مشكلة في التحكم بالتنفيس نتج عنها زيادة في النشاط الإشعاعي.
[2] الكايميرا: وحش أسطوري يتخيله الإغريق على صورة أنثى تنفث اللهب ولها رأس أسد.
?What Do We Owe the Future
Patricia I Vieira and Michael Marder
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”