تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
كتب أرسطو ذات مرة أن الدهشة أصل الفلسفة، ولكن يمكن أيضًا للمرء أن يقول بنفس القدر أن الصراع الداخلي أصل الفلسفة. فمعظم الحالات التي ننجذب فيها أكثر إلى الفلسفة هي بالضبط الحالات التي نشعر فيها كما لو أن هناك شيء يجذبنا نحو جانبٍ واحد من السؤال، ولكن أيضًا شيء يجذبنا، ربما بنفس القوة، نحو الجانب الآخر.
ولكن كيف بالضبط يمكن أن تساعدنا الفلسفة في مثل هذه الحالات؟ إذا شعرنا بشيءٍ ما داخل أنفسنا يجذبنا في اتجاهٍ واحد، ولكن أيضًا شيء ما يجذبنا في الاتجاه الآخر، فما الذي يمكن على وجه التحديد أن تفعله الفلسفة حتى تقدم لنا الاستنارة؟
إحدى الإجابات التقليدية هي أن الفلسفة يمكن أن تساعدنا من خلال تقديم بعض الاستبصارات في الطبيعة البشرية. لنفترض أننا نشعر بالحيرة حول ما إذا كان الله موجودًا أم لا أو ما إذا كانت هناك حقائق أخلاقية موضوعية أم لا أو ما إذا كان لدى البشر إرادة حرة أم لا.
كان الرأي التقليدي هو أن الفلاسفة يمكنهم مساعدتنا في الوصول إلى جذر هذه الحيرة من خلال استكشاف مصادر الصراع داخل أذهاننا. إذا نظرت إلى الوراء إلى بعض أعمال أعظم المفكرين في القرن التاسع عشر مثل ميل وماركس ونيتشه – فسيمكنك أن تجد إنجازات فكرية استثنائية في هذا السياق.
كما ذُكِر في وقتٍ سابق من هذا الشهر في منتدى غرفة حوار صحيفة التايمز، فقد عاد هذا النهج التقليدي ليأخذ بالثأر. يبحث الفلاسفة اليوم مرة أخرى عن جذور الصراعات الفلسفية في طبيعتنا البشرية، ويقترحون مرة أخرى أنه يمكننا إحراز تقدم بشأن المسائل الفلسفية من خلال التوصل إلى فهم أفضل لعقولنا. لكن في هذه الأيام، يلاحق الفلاسفة هذه القضايا باستخدام مجموعة جديدة من المنهجيات. إذ يتابعون الأسئلة التقليدية باستخدام جميع أدوات العلوم الإدراكية الحديثة. كما يتعاونون مع باحثين في تخصصات أخرى، ويجرون دراسات تجريبية، وينشرون في بعض أفضل مجلات علم النفس. أصبح العمل في هذا السياق الجديد يعرف باسم الفلسفة التجريبية.
أثارت مناقشةْ غرفة الحوار لهذه الحركة سؤالاً مهما يستحق المتابعة على نحوٍ أكثر. من الواضح أن دراسة الطبيعة البشرية، سواء عند نيتشه أو في مجلة معاصرة لعلم النفس، تتصل اتصالاً واضحًا بأسئلة مُعيَّنة علمية محضة، ولكن كيف يمكن لهذا النوع من العمل أن يساعدنا في الإجابة على الأسئلة الخاصة بالفلسفة؟ فقد يكون من المثير للاهتمام فحسب معرفة الطريقة التي يفكر بها الناس عادةً، ولكن كيف يمكن للحقائق المتعلقة بطريقة تفكير الناس عادةً أن تخبرنا أيَّا من هذه الآراء حق أو خطأً في الواقع؟
بدلاً من دراسة هذا السؤال بصورة مجردة، دعونا نركز على مثالٍ واحدٍ محدد. ولنأخذ المشكلة القديمة المتعلقة بالإرادة الحرة – وهو موضوع قد نوقش باستفاضة هنا في منتدى ذا ستون من خلال غالين ستراوسون وويليام إيجينتون ومئات القُرّاء. إذا كانت كل أفعالنا مُحدَّدة بأحداث مسبقة – شيء واحد فحسب يتسبب في حدوث الشيء التالي، الذي يتسبب في حدوث التالي – إذن، فهل من الممكن للبشر أن يكونوا مسؤولين أخلاقيًا عن الأفعال التي يفعلونها؟ في مواجهة سؤال كهذا، يشعر كثير من الناس بأنهم منجذبون لإتجاهاتٍ متنافسة – فيبدو كما لو كان هناك ما يجبرهم على قول نعم، ولكن أيضًا شيئًا آخر يجعلهم يريدون أن يقولوا لا.
ما الذي يجذبنا في هذين الاتجاهين المتضاربين؟ نعتقد أنا والفيلسوف شون نيكولز أن الناس قد ينجذبون نحو وجهة نظرٍ من خلال قدرتهم على التفكير النظري المجرد، بينما في نفس الوقت يكونوا منجذبين للإتجاه المعاكس من خلال ردود أفعالهم العاطفية والأكثر إلحاحًا. فيبدو كما لو أن قدرتهم على التفكير المجرد تقول لهم “هذا الشخص كان محكوما بالحتمية تمامًا وبالتالي لا يمكن تحميله المسؤولية”، في حين أن قدرتهم على رد الفعل العاطفي اللحظي تصرخ بهم ” لكنه فعل هذا الأمر الفظيع! بالتأكيد، إنه مسؤول عنه.”
ولنضع هذه الفكرة تحت الاختبار، أجرينا تجربة بسيطة. فأخبرنا جميع المشاركين في الدراسة عن وجود كون حتمي (وأطلقنا عليه اسم “الكون أ”)، وتلقّى جميع المشاركين نفس المعلومات تمامًا حول كيفية عمل هذا الكون. وكان السؤال آنذاك هو إذا ما كان الناس سيعتقدون أنه من الممكن في مثل هذا الكون أن يكونوا مسؤولين أخلاقيًا بالكامل أم لا.
لكن الآن يأتي دور الخدعة. فقد سألنا بعض المشاركين بطريقة مُصمَّمة لتحفيز التفكير النظري المجرد، في حين سألنا آخرين بطريقة مُصمَّمة لتحفيز استجابة عاطفية فورية أكثر. على وجه التحديد، أُعطي المشاركين في البيئة الأولى السؤال المجرد:
في الكون أ هل من الممكن أن يكون الشخص مسؤولاً أخلاقيًا بالكامل عن أفعاله؟
وفي الوقت نفسه أُعطي المشاركين في البيئة الأخرى مثالاً أكثر واقعيةً ومشحونًا أكثر بالعواطف:
في الكون أ، انجذب رجل يُدعى بيل إلى سكرتيرته وقرر أن الطريقة الوحيدة ليكون معها هي قتل زوجته وأطفاله الثلاثة. كان يعرف أنه من المستحيل أن ينجو أحد بالفرار من المنزل في حالة نشوب حريق، وقبل أن يغادر في رحلة عمل، قام بإعداد جهاز ووضعه في قبو منزله ليحرق المنزل ويقتل عائلته.
هل بيل مسؤول أخلاقيًا بالكامل عن قتل زوجته وأطفاله؟
أظهرت النتائج فرقًا مذهلاً بين البيئتين. فمن بين المشاركين الذين تلقوا السؤال المجرد، قالت الغالبية العظمى (٨٦ في المئة) إنه لا يمكن لأي شخص أن يكون مسؤولاً أخلاقيا في الكون الحتمي. ولكن بعد ذلك، في الحالة الأكثر واقعية، وجدنا النتائج معاكسة تمامًا. فهناك، قال معظم المشاركين (٧٢ في المئة) إن بيل كان بالفعل مسؤولاً عما فعله.
ما لدينا في هذا المثال هو مجرد تجربة أولية واحدة بسيطة للغاية. وغني عن القول إن المجموعة الفعلية من الأبحاث حول هذا الموضوع تنطوي على العديد من الدراسات المختلفة، ويمكن أن تكون القضايا العلمية الناشئة عنها مُعقَّدة للغاية. ولكن دعونا نضع كل هذه القضايا جانبًا في الوقت الحالي. وبدلاً من ذلك، لنعود فحسب إلى سؤالنا الأصلي. كيف يمكن لمثل هذه التجارب أن تساعدنا في الإجابة على أسئلة الفلسفة الأكثر تقليدية؟
يمكن للدراسة البسيطة التي كنت أناقشها هنا أن تقدم على الأقل إحساسًا تقريبيًا بكيفية عمل مثل هذا البحث. فالفكرة ليست أن نُخضع الأسئلة الفلسفية لنوع من الاستفتاء للرأي العام. (“حسنًا، أظهرت نتائج التصويت نسبة ٦٥٪ إلى ٣٥٪ لذلك أعتقد أن الإجابة هي … البشر لديهم إرادة حرة!”) بدلاً من ذلك، يكون الهدف هو الحصول على فهم أفضل للآليات النفسية الكامنة وراء إحساسنا بالصراع ومن ثم البدء بالتفكير أيٍ من هذه الآليات تستحق ثقتنا وأيٍ منها قد يقودنا ببساطة إلى الضلال.
إذن، ما هي الإجابة في الحالة المعيّنة للصراع الذي نشعر به بشأن الإرادة الحرة؟ هل يجب أن نضع ثقتنا في قدرتنا على التفكير النظري المجرد، أم علينا أن نعتمد على استجاباتنا العاطفية الأكثر إلحاحًا؟ في الوقت الحالي، لا يوجد توافق في الآراء حول هذه المسألة داخل مجتمع الفلسفة التجريبية. ومع ذلك، فإن ما يتفق عليه جميع الفلاسفة التجريبيين هو أننا سنكون قادرين على القيام بعملٍ أفضل لمعالجة هذه الأسئلة الفلسفية الجوهرية إذا تمكنّا من التّوصل إلى فهم أفضل للطريقة التي تعمل بها عقولنا.
الكاتب: جوشوا نوب هو أستاذ مساعد في جامعة ييل، حيث يشغل منصبين في كل من العلوم الإدراكية والفلسفة. وهو محرر مشارك مع شون نيكولز في مجلد “الفلسفة التجريبية”.
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
Experiments in Philosophy
Joshua Knobe
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”