تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١٠ نوفمبر ٢٠١٣
I
كانت قيادة السيارة إلى داخل العراق بعد غزو عام ٢٠٠٣ كأنها قيادة نحو المستقبل. سرنا في جماعات طوال النهار وطوال الليل متجاوزين نقاط التفتيش التابعة للجيش والدبابات المحترقة، حتى ظهرت بغداد في الفجر الأزرق من الصحراء مثل منظر الجحيم، ألسنة اللهيب التي تلعق السماء المكدومة، من قمم أبراج مصافي تكرير البترول والنُصُب التذكارية الضخمة المنتفخة والجاثية على الأفق، والجسور المكسورة التي سقطت على الضواحي المدمَّرة والمصانع المقذوفة والشوارع القديمة الضيقة.
بصدمة وبرعب، أطلق جيشنا نهاية العالم في مدينة يبلغ عدد سكانها ستة ملايين، مدينة بحجم هيوستن أو واشنطن تقريبًا. دُمرت البنية التحتية، المياه والطاقة والمرور والأسواق والأمن، انهارت جميعها بسبب الفوضى والقيادة السياسية المحلية. كانت الطبقة الوسطى العلمانية في المدينة تختفي، تُعتَصر بين رجال العصابات، والاستغلاليين والأصوليين والجنود. كانت الحكومة تنهار والحواجز توضع والخطوط القبلية تُرسم والتسلسلات الهرمية الوحشية تُؤسس بهمجية.
كنت جنديًا في الجيش الأمريكي. وكان هذا العالم الغريب والمتداعي هو بيتي، إن نجوت.
ظننت أنني قد نجحت بعد سنتين ونصف، عندما كنت أنعم بالأمان والحياة البطيئة في فورت سيل في أوكلاهوما؛ ثم شاهدت على التلفاز أن إعصار كاترينا ضرب نيو أورلينز. كان الطقس هذه المرة هو سبب الشعور بالصدمة والفزع، ولكنني رأيت نفس الفوضى والانهيار المدني الذي رأيته في بغداد، نفس الفشل في التخطيط ونفس تيار الفوضى. هبطت قوات الإنزال الجوي Airborne الثانية والثمانون على الأرض، واستولت على النقاط الاستراتيجية وجابت الدوريات الشوارع، ولكن هذه المرة كانت تحت أحكام عرفية. كانت الوحدة التي كنت أشغلها على أهبة الإستعداد من أجل التحضير لعمليات التحكم في أعمال الشغب. المستقبل المكفهِّر الذي شهدته في بغداد كان آتيًا للوطن، لا الإرهاب ولا حتى أسلحة الدمار الشامل، ولكن انهيار حضارة ببنية تحتية عاجزة، غير قادرة على التعافي من الصدمات التي حلّت بنظامها.
يبدو واضحًا اليوم، مع استمرار التعافي لأكثر من عام بعد إعصار ساندي والعديد من النقاد الذين يجادلون بأن الساحل الشرقي لم يعد مستعدًا لحدث طقس ضخم أكثر مما كنا في نوفمبر الماضي، أن المستقبل لن يزول.
في شهر مارس من هذا العالم، قال الأدميرال سامويل ج. لوكلير الثالث، قائد القيادة الأمريكية في منطقة المحيط الهادي الأمن وخبراء السياسات الخارجية في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس، أن التغير العالمي للمناخ كان أكبر تهديد واجهته الولايات المتحدة، أخطر حتى من الإرهاب ومخترقي الشبكات الصينيين والقذائف النووية لكوريا الشمالية. قال الأدميرال أن الاضطراب الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة وعن ارتفاع مستوى سطح البحار وعدم الاستقرار الراديكالي “هي على الأرجح من أكثر الأمور المتوقع حدوثها والتي ستعطّل الأمان البيئي، ربما على نحوٍ أكثر ترجيحًا من السيناريوهات الأخرى التي طالما تحدثنا عنها.”
لوكلير ليس وحيدًا في اعتقاده بهذا الرأي. فمستشار الأمن القومي توم دونيلون قال شيئًا مماثلاً تقريبًا في إبريل في حديثه لجمهورٍ في مركز كولومبيا الجديد لسياسة الطاقة العالمية. مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلاپر أخبر السيناتور في مارس أن “أحداث الأحوال الجوية القاسية (الفياضانات والجفاف وموجات الحرّ) ستسبب و بشكلٍ متزايد خللاً في أسواق الغذاء والطاقة، مما يُفاقم من ضعف الولاية ويفرض الهجرة البشرية ويُفضي إلى أعمال الشغب والعصيان المدني والتخريب.”
وعلى الجانب المدني، التقرير الأخير للبنك العالمي “اخفضوا الحرارة: الظواهر المناخية المتطرفة، والتأثير المحليّ، وحالة المقاومة” يقدّم تنبؤ مريع لتأثيرات الاحتباس الحراري الذي يتوقع الآن علماء المناخ أن يرفع درجات الحرارة العالمية بمقدار ٣.٦ درجة فهرنهايت خلال جيلٍ واحد و ٧.٢ درجة فهرنهايت خلال ٩٠ سنة. وجدت التوقعات من الباحثين في جامعة هاواي أننا سنتعامل في عام ٢٠٤٧ مع مناخٍ “غير مسبوق تاريخيًا.” يُجادل عالم المُناخ جيمس هانسن الذي كان يعمل سابقًا مع ناسا، بأننا نواجه مستقبل “منذر بنهاية العالم.” وأيَّد هذه الرؤية السوداوية باحثون من أنحاء العالم مثل أنديرس وپول و آن إيرلش ولوني تومبسون والكثير غيرهم.
تتنبأ جوقة أرميا هذه بمناخ عالمي متحوّل جذريًا يفرض اضطراب واسع النطاق، وهذه ليست إمكانية ولا احتمالاً بل أمر حتمي. لقد تعدينا نقطة اللارجعة من وجهة نظر خبراء السياسات وعلماء المُناخ ومسؤولي الأمن الوطني، لم يعد السؤال إذا ما كان الاحتباس الحراري موجودًا أم لا أو كيف يمكننا أن نوقفه، ولكن السؤال هو كيف سنتعامل معه.
II
يوجد مصطلح لهذه الحقبة الجديدة التي نعيشها وهو الأنثروبوسين(١). يستخدم علماء الجيولوجيا هذا المصطلح ويتفكّر به المفكرون ويُناقَش في صفحات المواد المطبوعة مثل مجلة ذي إيكونوميست وصحيفة النيويورك تايمز. يمثّل هذا المصطلح فكرة دخولنا عصرًا جديدًا في التاريخ الجيولوجي للأرض، وهو عصر يتميّز بحلول الجنس البشري كقوة جيولوجية على الأرض. قدّم عالم الأحياء يوجين إف ستويمر والكيميائي الحائز على جائزة نوبل پول كروتزن المصطلح عام ٢٠٠٠، وأخذ يكتسب قبولاً بشكلٍ مستمر، حيث توصّلت الأدلة بشكلٍ متزايد إلى أن التغييرات التي أحدثها الاحتباس الحراري لن تؤثر فحسب على مُناخ العالم وعلى التنوع الحيوي به بل ستؤثر أيضّا على جيولوجية العالم ذاتها، وهذا التأثير لن يكون لبضع قرونٍ فقط، بل لألفيات عديدة. يعرض كتاب الجيوفيزيائي ديڤيد آرتشر الذي نُشر عام ٢٠٠٩ بعنوان (الذوبان الطويل: كيف يغير البشر الـ ١٠٠٠٠٠ سنة القادمة من مناخ الأرض)” The Long Thaw: How Humans are Changing the Next 100,000 Years of Earth’s Climate” حجة واضحة ودقيقة بشأن الكيفية التي ستحول بها التركّزات الضخمة من ثاني أكسيد الكربون في الجو والثلج الذائب الكوكب تحولاً راديكاليًا، على نحوٍ يتجاوز الأعاصير النادرة أو مواسم الصيف الأكثر دفئًا، وبشكلٍ يتجاوز أي مستقبل يمكن التنبؤ به.
تبنى العلماء المسؤولون عن تثبيت “المسامير الذهبية” التي تحدد الحقب الجيولوجية مثل العصر البليوسيني والعصر الجليدي والعصر الهلوسيني في الهيئة المعنية بعلم طبقات الأرض (الاستراتجرافيا) في جمعية لندن الجيولوجية مصطلح الأنثروبوسين كمصطلح يستحق مزيدًا من الاهتمام “لأنه مهم على مقياس تاريخ الأرض”. تناقش الفرق العاملة مرحلة المقياس الزمني الجيولوجي التي يمكن أن يكون عصر الأنثروبوسين منتميًا لها (هل هي “حقبة” مثل الحقبة الهلوسينية أم مجرد “عصر” مثل العصر الكالابري) وفي أي تاريخ يمكننا القول أنه بدأ. هل كانت بدايته في فترة التسارع العظيم في نصف القرن العشرين؟ أم بداية الثورة الصناعية في ١٨٠٠ ميلادية تقريبا؟ أم بحلول الزراعة؟
التحدي الذي يفرضه عصر الأنثروبوسين ليس تحدي أمام الأمن الداخلي فحسب، أو لسوق الغذاء والطاقة، أو “طريقة عيشنا” للحياة، رغم أن هذه التحديات كلها واقعية وعميقة ولا فرار منها. ولكن التحدي الأكبر الذي يفرضه عصر الأنثروبوسين قد يكون فهمنا لما يعني أن نكون بشرًا. فسوف نواجه، في خلال مئة سنة، في غضون ثلاثة إلى خمسة أجيال، متوسط درجات حرارة أعلى من اليوم بمعدل ٧ درجات فهرنهايت، وبحار بارتفاع أعلى من ٣ إلى ١٠ أقدام على الأقل، وتغيرات عالمية في المحاصيل الزراعية ومواسم الزراعة والمراكز السكانية. مالم نوقف الآن وكليًا إطلاق الغازات الدفيئة، فسوف يعيش البشر، في غضون ألف عام، في مناخ لم تشهده الأرض منذ العصر البليوسيني، قبل ثلاثة ملايين سنة، عندما كان ارتفاع المحيطات أعلى من اليوم بـ ٧٥ قدمًا. نواجه الانهيار الوشيك للزراعة، وشبكات الشحن والطاقة التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي، ونواجه اضمحلال واسع النطاق في الغلاف الحيوي للأرض يمضي بالفعل في طريقه، ونواجه احتمال انقراضنا نحن. لو بقي الهوموسيبيان (أو شكل مختلف مُعدَّل وراثيًا) على قيد الحياة حتى الألفيات القادمة، فسوف يكون بقاء واستمرار في عالمٍ مختلف بشكلٍ جذري عن العالم الذي سكَّنا فيه.
تتسبب المقاييس الزمنية الجيولوجية والانهيار الحضاري وانقراض الأنواع في مشاكل عميقة قد يبدو الباحثين في العلوم الإنسانية والفلاسفة الأكاديميين، بذائقتهم للتحليلات الشديدة الدقة و مناقشاتهم الخاصة والهامشيات الأرشيفية غير مناسبين بشكلٍ كبير لمعالجتها. إذ كيف سيساعدنا التفكير في كانط، في النهاية، في السيطرة على ثاني أكسيد الكربون؟ هل يمكن للحجج بين الأنطولوجية المتمركزة حول الأشياء والمادية التاريخية أن تحمي نحل العسل من متلازمة انهيار مستعمراته؟ هل سيحفظ فلاسفة الإغريق القدامى واللاهوتيون من العصور الوسطى والميتافيزيقيون المعاصرون بنجلاديش من أن تُغمر بارتفاع المحيطات؟
بالطبع لا. ولكن المشاكل الأكبر التي يفرضها الأنثروبوسين هي تحديدًا تلك المشاكل التي لطالما كانت في صميم التساؤلات الإنسانية والفلسفية: “ماذا يعني أن تكون إنسانًا؟” و “ماذا يعني أن تعيش؟” عُمِّم، في حقبة الأنثروبوسين، سؤال الأخلاقية الفردية، “ما معنى حياتي مقابل الموت؟” وتأطَّر بمقاييس تُحيّر الخيال. ماذا يعني الوجود البشري أمام ١٠٠ ألف عام من التغير المناخي؟ ماذا تعني حياة واحدة أمام انقراض الأنواع أو انهيار الحضارة العالمية؟ كيف نتخذ خيارات ذات معنى في ظل نهايتنا الحتمية؟
ليس لهذه الأسئلة أي إجابات منطقية أو تجريبية. إنها مسائل فلسفية بامتياز. العديد من المفكرين مثل سيسرو ومونتين وكارل ياسبرس وسايمون كريتشلي مؤسس ذا ستون، جادلوا بأن دراسة الفلسفة هي تعلّم كيفية الموت. لو كان هذا صحيحًا، إذن فقد ولجنا في عصر الإنسانية الأكثر فلسفةً، لأن هذه تحديدًا هي مشكلة الأنثروبوسين. المعضلة هي أنه يجب علينا الآن تعلم كيفية الموت ليس كأفراد ولكن كحضارة.
III
تعلم كيفية الموت ليس سهلاً. كنت في العراق مرتعبًا من الفكرة في البداية. فقد بدت بغداد خطرة بشكلٍ مذهل، مع أنني كنت إحصائيًا في أمان. أُطلق علينا النار وقصفنا بقذائف الهاون، ودُسَّت الأجهزة المتفجرة اليدوية الصنع في جميع الطرق السريعة، ولكنني كنت أرتدي درعًا جيدًا، وكان لدينا فريق طبي رائع، وكنا جزءًا من أكثر الجيوش التي شهدها العالم قوة. كانت احتمالات عودتي إلى الوطن جيدة. ربما أعود مصابًا، ولكن على قيد الحياة على الأرجح. ولكن في كل مرة كنت أخرج فيها لتأدية مهمة ما، كنت أنظر نحو المستقبل لأرى فجوة مظلمة وفارغة.
كتبت سيمون ڤايل في تأملاتها المميزة عن الحرب “موت الجندي هو المستقبل، أي المستقبل الذي تكلفه مهنته به، هو الإلياذة أو قصيدة القوة”. “ولكن فكرة موت الإنسان من أجل المستقبل فكرة بغيضة للطبيعة. حينما تُظهِر تجربة الحرب إمكانية الموت الذي يكمن في كل لحظة، فلا يمكن لأفكارنا أن تنتقل من يوم إلى آخر دون اللقاء بوجه الموت”. كان هذا هو الوجه الذي رأيته في المرآة، وكاد تحديقه أن يهزمني ويُصيبني بالشلل.
وجدت خطوتي القادمة من خلال دليل يعود إلى القرن الثامن عشر للساموراي ياماموتو تسونيتومو (Yamamoto Tsunetomo) بعنوان هاغاكور (Hagakure) والذي يقضي: “يجب ممارسة تأمل الموت الحتمي بشكل يومي”. لقد تحملت مسؤولية نهايتي بدلاً من الخوف منها. كنت أتخيل في كل صباح وبعد إجراء أعمال الصيانة في سيارتي الهامفي العسكرية أنني أُفجَّر بجهازٍ متفجر يدوي الصنع، وأن قناصًا يُطلق عليّ الرصاص ، وأنني أحترق حتى الموت، وأن دبابة تدهسني، والكلاب تقطعني، وأنه يُقبض علي ويُقطَع رأسي، وأنني أفارق الحياة بسبب الزحار. ثم كنت أقول لنفسي، قبل خروجنا من البوابة، أنني لست بحاجة إلى القلق لأنني كنت ميتًا بالفعل. الأمر الوحيد الذي كان مهمًا هو أنني بذلت جهدي للتأكد من أن الجميع عادوا أحياء. كتب تسونيتومو “إذا ما كان بإمكان الإنسان، من خلال تقويم قلبه كل صباح ومساء، أن يعيش وكأن جسده قد مات بالفعل، فإنه بهذه الطريقة يكتسب الحرية في الطريق”.
تجاوزت رحلتي في العراق بعيش كل يوم على حدة، متأملاً نهايتي الحتمية في كل صباح. واعتقدت عندما غادرت العراق وعدت إلى الولايات المتحدة أنني تركت ذلك المستقبل خلفي. ثم رأيته يعود إلى الوطن في الفوضى التي أُطلِق لها العنان بعدما ضرب إعصار كاترينا نيو أورلينز. ثم رأيته مرة أخرى عندما قصف إعصار ساندي نيويورك ونيوجيرسي. فشلت الوكالات الحكومية في أن تتصرف بشكلٍ سريع بما فيه الكفاية، واضطرت مجموعات تطوعية مثل فريق روبيكون (Team Rubicon) للتدخل في إدارة الإغاثة من الكوارث.
عندما أتفحص الآن مستقبلنا، عندما أفكر بالأنثروبوسين بعمق، أرى ماءً يرتفع لينفض جنوب منهاتن. أرى أعمال شغب بسبب الغذاء وإعصارات ولاجئين بسبب الظروف المناخية. أرى جنود قوات الإنزال الجوي Airborne الثانية والثمانون يطلقون اللصوص. أرى فشل في الشبكات وموانئ محطمة ومخلفات فوكوشيما وأوبئة. أرى بغداد. أرى عربات. أرى عالماً غريبٌ ومتداعٍ.
موطننا الجديد.
يتمرّد العقل البشري بطبيعة الحال ضد فكرة نهايته. وبالمثل، سارت الحضارات على مر التاريخ نحو الكوارث بشكلٍ أعمى، لأن البشر جُبلوا على الاعتقاد بأن الغد سيشابه اليوم بشكلٍ كبير. إنه من غير الطبيعي بالنسبة لنا أن نفكر بأن طريقة العيش هذه، وهذه اللحظة الراهنة، ونظام الأشياء هذا غير مستقر ولا دائم. تشهد أعمالنا، في جميع أنحاء العالم اليوم، على اعتقادنا بأنه يمكننا المضي قدمًا في الحياة على هذا المنوال إلى الأبد، بحرقنا للبترول وتسميمنا للبحار وإبادتنا للأنواع الأخرى وبضخنا للكربون في الهواء، متجاهلين الصمت المشؤوم لطيور الكناري الساكنة في مناجم الفحم لدينا لصالح التغريدات الروبوتية اللامنقطعة الصادرة من عالمنا الخيالي الرقمي الجديد. ولكن واقع التغير المناخي العالمي سيستمر بالتدخل بوهمنا بالنمو المستمر والابتكارات الدائمة والطاقة التي لا تنفد، تمامًا مثلما يصدم واقع فناءنا إيماننا السطحي بالديمومة.
المشكلة الأكبر التي يطرحها تغير المناخ لا تكمن في الطريقة التي يجب أن تخطط بها وزارة الدفاع لحروب الموارد أو الطريقة التي يجب أن نضع بها أسوارًا بحرية لحماية ألفابت سيتي (٢) أو متى يجب علينا إخلاء هوبوكين. لن يُعالَج الأمر بشراء سيارات برايوس (٣)، أو توقيع الاتفاقيات أو إيقاف استخدام التكييف الهوائي. المشكلة الأكبر التي نواجهها هي مشكلة فلسفية، فهم أن هذه الحضارة هي حضارة ميتة بالفعل. كلما أسرعنا في مواجهة هذه المشكلة، و في إدراك أنه لا يوجد شيء يمكننا فعله لإنقاذ أنفسنا، كلما اقتربنا من بدء العمل الشاق وهو التكيف مع واقعنا الجديد، بتواضع الكائنات الفانية.
الخيار واضح. يمكننا التصرف وكأن الغد سيكون تمامًا كالأمس، وأن نصبح أقل جاهزية لكل كارثة تُصادفنا، وأكثر استثمارًا في حياة لا يمكننا الحفاظ عليها. أو يمكننا أن نتعلم أن نرى في كل يوم موت شيء أتى بالأمس، ونحرر أنفسنا من التعامل مع أي مشكلة يقدمها الحاضر دون تشبّث أو خوف.
إن كنا نرغب بتعلم العيش في عصر الأنثروبوسين، فيجب علينا أولاً أن نتعلم كيف نموت.
صُحِحت هذه المقالة في ٢٦ نوفمبر، ٢٠١٣. هناك نسخة سابقة من هذه المقالة تصف أصل كلمة الأنثروبوسين بشكل غير صحيح. صاغ پول كروتزن Paul Crutzen هذا المصطلح في عام ٢٠٠٢. كان يُستخدم منذ ثمانينيات القرن الماضي وقُدم للنقاش العلمي من قِبَل كروتزن ويوجين ستويرمر Eugene Stoermer في عام ٢٠٠٠.
(١) يعتبر النصف الثاني من القرن العشرين فترة متفردة للوجود البشري. شهدت هذه الفترة تزايداً كبيراً في النشاطات البشرية حتى نهاية القرن. غيرت هذه النشاطات طبيعة العلاقة بين البشر والعالم الطبيعي وهذا التغيير لم يشهده تاريخ البشرية من قبل. (المترجمة)
(٢) حي يقع في منطقة East Village في مدينة نيويورك في منهاتن. يعود هذا الاسم (مدينة الأبجدية أو Alphabet City) إلى طرق يُطلق على كل واحد منها بحروف الأبجدية الأولى A, B, C, D وهي الطرق الوحيدة في منهاتن التي لها أسماء مكونة من حرف واحد. (المترجمة)
(٣) سيارات صديقة للبيئة، لا تعتمد على استهلاك الوقود الكيميائي بشكل كلي. (المترجمة)
الكاتب: روي سكرانتون خدم في الجيش الأمريكي في الفترة ما بين عام ٢٠٠٢- ٢٠٠٦. هو باحث دكتوراه في الأدب في جامعة برينستون وشارك في تحرير كتاب ” Fire and Forget: Short Stories from the Long War ” (النيران والنسيان: قصص كثيرة من حربٍ طويلة). كتب لنيويورك تايمز والمجلة الأدبية Boston Review و مجلة Theory and Event وأكمل مؤخرًا رواية عن الحرب في العراق. حسابه على تويتر @RoyScranton
المترجمة: باحثة دكتوراه في الأدب. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
Learning How to Die in the Anthropocene
Roy Scranton
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”