د. معجب الزهراني
سأطيل الوقوف عند هذا الأديب المفكر الذي عاش مفارقات مأساوية بأقسى المعاني، وبأجملها أيضا. وسأطيل الوقوف عنده نسبيا لأنه ممثل استثنائي لسلالة من المفكرين الإنسانيين الذين يتبنون منطق خطابي هاديء لا يدعو إلى أي عنف ظاهر أو باطن لكنه لا يلبث أن يغير الذهنيات والسلوكيات بشكل عميق وعلى نطاق واسع. سأقدمه وأحاوره إذن كما لو كان هو ذاته تجسيدا حيا، أو إيقونة رمزية ، لذلك الإنسان الفطري الطيب البريء الذي افتقدناه ولذا نظل نحلم بعودته إلينا، أو بعودتنا إليه . من هذا المنطلق لعل مبدأ الاختلاف يصلح مدخلا جيدا لإلقاء بعض الضوء على جان جاك روسو الذي يعد أحد الآباء الرمزيين للرومانسية الحالمة،وللتدين الطبيعي الذي يختاره الفرد ولا يلزم به غيره، كما للدولة الجمهورية الحديثة التي أفرزتها الثورة الفرنسية وأثرت في تاريخ أوروبا والعالم ، كما نعلم. فكل شيء في حياته وكتاباته يمكن أن ينصبه نقيضا مباشرا لما عاشه وأنجزه مواطنه فولتير الوصولي الماكر المشاكس، والساخر حد العدائية أحيانا. لكن مفهوم “النقيض” هنا هو ذاته ما يبررالقول باختلاف خطاب الشخصيتين شكلا وتكاملهما من حيث القيمة الرمزية والوظيفة التاريخية للفكر. ولو استعملنا مفاهيم هيجلية لقلنا أننا أمام علاقة جدلية بين خطابين تكفل الحراك الاجتماعي النشط بنسجها وتفعيلها في مرحلة حاسمة من تاريخ فرنسا خاصة ومن التاريخ الأوروبي بشكل عام، لتؤول إلى أطروحة جديدة واحدة. فوراء الاختلافات الظاهرة تشاكلات عميقة لعل نواتها الأبستمولوجية الصلبة تتمثل في فكرة التغيير الجذري لوضعيات اجتماعية وسياسية وثقافية استهلك الزمن دينامياتها وحولها منطق التكرار ذاته إلى عائق أمام سيرورة التقدم أوالتطورالعام. فعصر النهضة كان عصر “المحاكاة ” بامتياز. والنماذج العليا التي اتجه إليها دعاتها ماثلة في تراث الماضي ، وتحديدا في تلك “المعجزة الإغريقية “التي اكتشفتها أوروبا بفضل ابن رشد والفارابي وابن سينا وأمثالهما. حتى فكرة الشك في الماضي ونماذجه المعرفية التي ألح عليها ديكارت لم تكن فكرة شمولية تطال كل المعتقدات والفنون والسياسات.
عصرالتنويرهو البداية الحقيقية لتلك التحولات الجذرية الكبرى من عالم قديم انتنهت صلاحيته بمعنى ما، إلى عالم جديد يطل بوعود تلوح في الأفق لتكبر وتتنوع وتتجدد وتتقدم بنوع من الانتظام . نعم ، لقد أفضت التراكمات المتحققة في عصر النهضة، وفي مختلف المجالات، إلى قطيعة معممة تنبه إليها وعززها الباحثون البارزون في العلوم الطبيعية والإنسانية فبرزت فكرة التغيير كأطروحة نظرية عميقة في الخطاب الثقافي العام وكمطلب عملي في الواقع المعيش. هنا تحديدا تبرز وظيفة الفكرالفلسفي حين يتحرر من قيوده ليتأمل ذاته ويعمل على تجديد أدواته كي يحضر في مقدمة السيرورة التاريخية العامة أو في قلب الحدث الاجتماعي الخاص. فالفكر الجديد من هذا النمط لا يدين للماضي بشيء يذكر لأنه ثمرة وعي نقدي مختلف يتمثله نظريا ويمثله عمليا ذلك العقل القلق الشكاك الباحث الذي يدرك الأزمة، ويشتغل على تحليلها ، ويسعى إلى نشر الوعي بها، ويقترح أفق الخلاص منها مستعملا في كل ذلك لغة جديدة تقطع الصلة بما قبلها وتؤسس لما بعدها . طبعا ما نقصده باللغة الجديدة هو سلسلة المفاهيم والمصطلحات والمقولات التي تعاد بفضلها وفي ضوئها تسمية الأشياء وتحديد الظواهر وتفهم العلاقات فيما بينها وصولا إلى فهم جديد للذات المفكرة وللمجتمع والعالم من حولها . هذا ما حاوله روسو وفولتير، وآخرون ، من أجل اكتشاف أفق مختلف للحياة ودينامية متجددة للتاريخ. وإذا كان فولتير قد كتب ساخرا حد التشويه، ماكرا حد الخبث، وهجوميا حد العداء، فإن روسو كتب باحثا عن العنصر الخير في الإنسان وفي ” الطبيعة الأم ” في المقام الأول. ولعل في تجارب الحياة التي شكلت وعيه الفردي الخاص ما يفسر هذا التوجه الذي دشن شقا أساسيا من الحركة الرومانسية التي تلقيناها “أدبا وفنونا ” فيما يعدها غالبية الباحثين المعاصرين سلسلة ثورات جمالية ومعرفية وفكرية واجتماعية وسياسية في الوقت ذاته. فهو ولد في جنيف عام 1712لأب حرفي متواضع ، مصلح ساعات ، وليس له علاقة تذكر بالثقافة العارفة ولا بالنخب المثقفة التي عادة ما تنتجها وتتداولها في صالوناتها ومنتدياتها المغلقة. والقول ذاته ينطبق على أمه التي توفيت بعد أشهر من ولادته لتتركه يتيما يعاني الفقد ويبحث عن التفهم والعطف بجل أنواعه. وفي سن العاشرة ألحقه أبوه بمؤسسة اجتماعية متواضعة كي تعنى به، عيشا وتعليما، ولا بد أن مشاعر الحرمان من عواطف الأهل والبيت الحميم تزايدت على طفل بالغ الهشاشة مرهف الإحساس ظل طوال حياته يشعر أنه كائن وحيد يأنس للطبيعة ويستطيب الترحل فيها ( سافر ماشيا أكثر من مرة بين جنيف وباريس). وتتصل المعاناة خلال مرحلة الشباب حيث اضطر صاحبنا لنمارسة العديد من الحرف المتواضعة في سويسرا وفرنسا كي يعيش مستور الحال ، ولم يعرف عنه أي نزوع إلى الشهرة والثروة. ومنطقي جدا ألا يتوقع أحد أو ينتظر من الشاب المتواضع الوديع دورا خطيرا يميزه..لا في الأدب والفكر ولا في المجتمع والسياسية !.
هنا تحديدا لا بد أن نعود لمفهوم ” الأفق المعرفي” لنعطي الشروط المعرفة السائدة في المجتمع والعصر حقها كاملا في كل تغيير فردي أو جماعي حاسم ، وإلا سقطنا في منطق الحظوظ والصدف الذي كثيرا ما يعول عليه الجاهلون والسذج . فروسو كان محبا للأدب والفكر، حريصا على التعلم الذاتي، جادا في التحصيل، طموحا إلى تطوير وعيه ووضعه. هكذا ما إن قرأ الشاب البسيط المجهول ،خلال إحدى رحلاته الفرنسية المعتادة ، إعلانا عن مسابقة كبرى ينظمها المسؤولون عن ” الموسوعة الفلسفية ” حتى قررالمشاركة فيها. فالموضوع الذي طرح للتأمل تساؤل عما إذا كان تقدم العلوم والتقنيات يكفل تقدما مماثلا في القيم والأخلاق. وحين خاض المغامرة ، وبتشجيع من صديقه ديدرو، لم يكن يعلم أنه أمام الرهان الأهم في حياته كما كتب تاليا. نعم، لقد فاز بالجائزة ونشر بحثه ليقرأ على نطاق واسع ، ومن هنا بدأت مغامراته الفكرية والأدبية الخلاقة ، ولم تتوقف إلا بموته وهو في ذروة الشهرة .. وعلى حافة الجنون !. ما يميز روسو عن فولتير أنه قدم ، ومنذ البداية ، أطروحة فلسفية إستهلها بإجابته عن ذلك التساؤل وظل يطورها ويتقصى أبعادها طوال حياته ، أي أنه كان صاحب نسق فكري – أدبي خاص تميز به منذ البداية . الأطروحة غنية متشعبة ، ومع ذلك نلخصها على النحو التالي : الإنسان ، في الأصل ، ابن الطبيعة البريئة الخيرة ، وإذا فسدت أخلاقه وسلوكياته فالمسؤول الأول عن الفساد هو الثقافة التي ينشأ عليها ويتمثلها حتى تصبح جزءا من شخصيته الفردية والاجتماعية . حتى العقل الذي طالما مجده السابقون وعدو الاحتكام له مصدر كل الفضائل ومرجع كل حكم لها أو عليها ، لا يعتد به هنا ، بل يجب الحذر منه لأنه قد يفسد تلك الفطرة الأصلية النقية ويغطي عليها بمختلف الحجب والحجج . ونظرا لظهور الفساد في أشكال متنوعة ، وعلى رأسها الأنانية الفردية والتفاوت الاجتماعي والاستبداد السياسي ، فإن هناك ما يجب تغييره لكي تتغيرالوضعيات في كل هذه المستويات . وحين يطرح السؤال مبدوءا ب: كيف ؟ يجيب المفكرهكذا: في المستوى الفردي ينبغي أن نعلي من شأن العواطف السوية وأن نعزز العلاقات الحميمية الصادقة المباشرة فيما بين الناس دونما اعتبار للعرق والطبقة والجنس ، والتربية هي المؤهلة والمسؤولة عن تحقيق هذا الهدف . وفي المستوى الاجتماعي لا مناص من ترسيخ مباديء الحرية والعدالة والمساواة والتآخي فيما بين الفئات والطبقات ، والمؤسسات الرسمية والأهلية هي الكفيلة بتحويل المبادئء والقيم إلى قوانين يحترمها معظم أفراد المجتمع ويهابها البقية . أما في المستوى السياسي فهناك حاجة قصوى لعقد اجتماعي جديد ينظم العلاقات فيما بين الأفراد المواطنين والدولة التي ينتمون إليها ، ولا بد أن يصاغ في ضوء تلك القيم والمباديء هي وحدها ما يجعل كل فرد يشعرأنه حاكما ومحكوما في الوقت ذاته بما أنه مشارك في انتخاب ممثلي كل السلطات ، و مسؤول عن محاسبتهم على أقوالهم وتصرفاتهم . وبإيجاز نقول إن أطروحة روسو تجد نواتها في مقولة ” الحرية ” التي هي ضرورة لسعادة الفرد ولاستقرار المجتمع ولفعالية الدولة التي تتحول من بنية تسلطية إلى بنية وظيفية يشيدها ويحرسها مواطنون متساوون في كل شيء من حيث المبدأ . والحرية بهذا المعنى الجديد لابد أن تؤسس على تلك الفطرة الخيرة السوية الموجودة أصلا في الإنسان ، وليس على الفكر الذهني ، غيبيا كان أوعقلانيا ، وقد ثبت أن منتوجاته النظرية والعملية قد تحيل البشر إلى كائنات إنجازية باردة فاسدة ( وهذا ما سيدعو إليه هابرمازلا حقا من خلال نقده الصارم للعقل الأدواتي ودعوته إلى تفعيل العقل التواصلي الذي يكاد يغيب وراء تقنيات ما بعد الحداثة ) . الطريف في الأمر أن روسو الوديع المسالم المتقشف المتواضع عانى الكثير وهو يبلور فكره الإنساني الجديد ويبشربه . فقد تعرض لهجوم مفكرين كبار في عصره ، ومنهم فولتير الذي اتهمه بدعوة البشر إلى ” المشي على قوائم أربع من جديد ” ، وهيوم الذي استضافه ثم أعلن البراءة منه في خطاب عام !. كما رفعت عليه دعاوى من قبل أفراد ومؤسسات اجتماعية ودينية متنوعة عدوا كتاباته رمز خطر وباب فساد ، وكثيرا ما هرب على قدميه من مكان إلى آخر ، واضطر أحيانا للتخفى وراء أسماء مستعارة كي لا يعتقل وتقيم عليه السلطات الجاهلة حدودها الجائرة !. وحين مات عام 1778 وهو يعاني مرارة النكران وآلام المرض الذهني الحاد دفن في بلدة صغيرة دونما احتفاء يذكر .لكن التاريخ الذي شارك في صنعه سينصفه ، وخلال فترة قصيرة نسبيا. فبعد أن قامت الثورة ، وتغيرت قوانين الحكم ونظم التعليم وقيم المجتمع تحولت أفكاره الأساسية إلى تشريعات للدولة ، ومرجعية أساسية للبيان الأشهرعن حقوق الإنسان ، واحتفي به رائدا للكتابة الرومانسية التي تغلب الصراحة والصدق فلا تتحرج من كشف التجارب الفردية الحميمة للذات ، ولا يزال البعض من أنصار البيئة يعدونه رائدا لفكر محب للطبيعة حريص على ألا يفسدها الإنسان فتفتك به . لا غرابة بعد ذلك أن يصر كثيرون ، بعيد الثورة بسنوات ، على استعادة جثمان الفيلسوف الرومانسي المتواضع لدفنه في مقبرة العظماء بباريس حيث يرقد الآن . فالتحول العام الذي طال شروط الحياة والعمل والتفكير والتعبير جعلهم يدركون أن أطروحاته المسالمة الهادئة هي التي ستغذي فرنسا الحديثة بما تحتاج إليه بعد انتهاء سنوات الصخب والعنف .