تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
نحن نقدّر أيام الخريف لأنها تذكّرنا بأن لا شيء اعتيادي
نارا، اليابان – الوقوع في الحُبّ هو أسهل شيء في العالم، لكن البقاء في الحب، كما نعلم جميعًا، يمكن أن يكون من أصعب الأمور. فكيف نحافظ على ذلك التوهج والشعور برغبة الاكتشاف اللامتناهي متّقدًا بالحياة بمجرد أن تركن أنفسنا إلى الألفة؟ وكيف نحافظ على شعور الترقّب الذي سرّع شهر العسل بشكل لذيذ؟ بعبارة أخرى، كيف يمكن أن يسحرنا الروتين المعاكس للاكتشاف ونجده بثبات محفزًا غنيًا بقدر ما توفره الجدّة؟ ربما تكون قصّة كل زواج هي قصّة ما يحدث بعد انتهاء الصيف اللامتناهي.
لاحظ المستكشف الحكيم جون بوروز، “لتتعلّم شيئًا جديدًا، اُسلك المسار الذي سلكته بالأمس.” أرسل لي أحد الأصدقاء المعروفين في نيويورك هذا السطر عندما سمع أنني أمضيت 26 عامًا في نفس الضاحية المجهولة في غرب اليابان، حيث كنت في معظم ذلك الوقت لا يمكنني السفر لمسافة تتجاوز 8 أقدام. كنت قد وصلت إلى كيوتو، من وسط مدينة مانهاتن، وكنت في العشرينات من عمري، وأشعل هذا المكان الذي يصعب فهمه كل شيء يمكن أن يعلمني إياه. حلمت يومًا أنني قد أتيت لأجد البهجة في كل شيء وكل يوم، وعلى ما يبدو بدون اهتمام بجيرتي البعيدة، لا شيء يبدو مميزًا.
بالطبع لهذا علاقة بعيون الناظر والسنوات الماضية: فعندما نكون صغارًا، نريد أن نبرز، ونترك بصمتنا على العالم، لنكون استثنائيين. ومع مرور الفصول، نصل إلى أن كل شيء فينا ليس استثنائيًا – قدرتنا على رعاية الأسرة، والحفاظ على الصحة السيئة، وضرب كرة بينج بونج – وحتى في عالمنا المحيط بنا قد نُنسى.
من المؤكد أن ما هو غير مميز فينا هو الذي يسمح لنا بالاستمرار في الذهاب إلى المكتب، وإيجاد أرضية مشتركة مع جيراننا، والحصول على شيء نكتب عنه. وعندما كبرت، اعتقدت أن الكاتب مضطرٌ إلى الكتابة لامتلاكه القوة والتباهي بكل الأشياء التي يمكنه القيام بها، وحيازته سلطة أكثر من أي شخص آخر تقريبًا؛ ومع اقتراب فصل الخريف، بدأت أعتقد أن قوة أي شخص هي فقط ما يميزه أو يوحده مع أي شخص آخر في تجربة مشتركة، وعشر نقاط ضعف.
لكن شيئًا آخر غير ذلك أخذني إلى اليابان. على عكس بريطانيا حيث ولدت، والولايات المتحدة حيث نشأت، فقد شجعت ثقافتهم التقليدية المميزة على التزام الهدوء، والبقاء غير بارزين، دون محاولة الظهور بصمت مثل أي شخص آخر. الشيء الوحيد الذي لا يحتاجه الآخرون كثيرًا، كما يعرفون، هو الانطباع الصاخب عن الشخصية. منذ أن تدربت على الثرثرة، فكرت عند اختيار الانتقال إلى اليابان أنه قد يكون أمرًا جيدًا أن أذهب إلى مكانٍ يمكنني أن أتعلم فيه الاستماع. ومنذ أن شُجّعت في المدرسة على محاولة أن أكون معتمدًا على ذاتي، لم يبدُ شيئًا فظيعًا أن أتعلم أن أكون نفسي تمامًا. أدركت أني لأصبح نفسي، قد لا يكون فيّ أي شيء أكثر من أن أصبح مثل كل مَن حولي.
عندما قابلت المرأة التي ستصبح زوجتي في معبد كيوتو بعد ثلاثة أسابيع من وصولي في عام 1987، بالطبع كان كل شيء افترضت أنه مميز وفريد وحتى غريب فيها هو ما جذبني، وبقدر ما كانت بالتأكيد منجذبة بالغربة فيّ. لكن مع دخولنا مرحلة أعمق في حياتنا، توصلنا إلى أن نرى أن الدرس الخاص لهذه المرحلة هو أن نعتز بكل شيء لأنه لا يمكن أن يستمر من فيرمونت إلى بكين. يستمتع الناس بأيام الخريف على وجه التحديد لأنها تذكير بالمقدار الذي لا يمكننا تحمله كأمر مسلّم به، وإلى أي مدى يكون الاحتفال الآن في وقت متأخر من بعد ظهر شهر سبتمبر.
بلا شك كان بإمكاني تعلم هذا في أي مكان، لكن في اليابان يتم التعامل مع الفصول بنوع من العاطفة والخشوع المرتبطين عادة بالدين. في كل مرة يبدأ فيها الكرز بالتفتح، يتدفق الناس إلى المتنزهات؛ لأنه في غضون 10 أيام أو نحو ذلك، ستختفي الأزهار الوردية؛ وفي كل مرة يغادر شجر القيقب (شجر نفضي الورق يكتسب الحمرة في الخريف قبل تساقطه) لمعانه في وقت متأخر.
في تشرين الثاني (نوفمبر)، احتشد أصدقائي وعائلتي اليابانيون في حدائق المعابد بنفس الروح التي قد يجتمع بها الناس من أي دين في المعابد أو الكاتدرائيات. فالانضمام إلى جماعة؛ يذكرنا بشيء أكبر من أنفسنا، ويبقينا في مكاننا؛ لنلتقط لحظات من الضوء في موسم الظلام المتصاعد.
أحب ضوء الشمس عندما أزور والدتي في جنوب كاليفورنيا، لكن لا يمكنني القول إنني أحب حقيقة أن شهري فبراير وأغسطس أصبحا قابلين للتبادل. إنها نهاية الأشياء، هكذا علمتني اليابان، وهذا ما يمنحهم مذاقهم وجمالهم. وحقيقة أنني وزوجتي نتغير دائمًا، حتى عندما تتساقط منا الأوراق والشعر، مما يضفي إلحاحًا على مشاعري تجاهها. يذكرني الخريف في كل عام أن التقدم لا يسير في خط مستقيم وأنني لست بالضرورة أكثر حكمة مما كنت عليه في العام الماضي – أو قبل 30 عامًا. كل عام يغنّي الخريف نفس اللحن، ولكن لجمهور مختلف.
في سنتي الأولى في اليابان، كتبت كتابًا عن اكتشافي المليء بالبهجة للحب والحياة والثقافة التي كنت أتمنى أن تكون لي إلى الأبد. ناشرو أعمالي أعلنوا احتفالي برومانسية الربيع في الخريف. الآن، وبعد 28 عامًا أنا مغرم أكثر بالسقوط، فقط لأنه يحتوي على ربيع بداخله وذكريات، وإدراك بعيد لحقيقة أن لا شيء تقريبًا يدوم إلى الأبد. كل يوم في الخريف يذكرنا بالإحساس الدوري بالأشياء الذي يدنينا قليلاً من الربيع.
الكاتب: مؤلف كتاب “ضوء الخريف” ونشر مؤخراً كتاب “دليل المبتدئ في اليابان”.
المترجمة: أستاذة النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة.
The Beauty of the Ordinary
Pico Iyer
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”