خالد الحسن
“إن أقدم وأقوى انفعالات البشر هو الخوف، وإن أقدم وأقوى أنواع الخوف هو الخوف من المجهول.”
-هوارد فيليب لافكرافت
مقدمة:
توجد إشكالية عميقة في الفلسفة لم يلاحظها الكثير ممن هم في المجتمع الفلسفي وهي غرقها في الشك. هذه الظاهرة جعلت من الفلسفة في مأزق عدمي أي ظهور أفكار تميل للعدمية سواءً في نظرية المعرفة أو نظرتها للحياة ومِن ثمَ دعوى موتها. الشك والنسبية ليستا غاية أو وسيلة للبحث الفكري وليست مطلب أساسي للتفلسف كما أن إشكالاتها أكثر من منافعها؛ فالنسبية هنا تأتي بمعنى السلبي أي لا ترجح لك أي مسألة، فهي تؤدي بك إلى التوقف والتوسط بدون ترجيح، لأن من الممكن أن أ يكون كذا أو كذا، وليس بمعنى الظن والذي يمكن ترجيح أ بأنه يكون كذا ولكنه ليس كذا؛ مثال: قد يهطل المطر غدًا استنادًا على التوقعات الجوية وأدلتها، فهذا ظن راجح نسبية إيجابية أو راجحة. أما النسبية السلبية أو غير الراجحة والتي تكون بسبب الشك مثل: أن المطر قد يهطل غدًا وقد لا يهطل، بدون أي ترجيح ولا مراعاة الدليل أو تشكك فيه؛ فهي لا تعطيك أي نتيجة لذلك هي عقيمة وغير منتجة، لأن عندما تبدأ التشكيك في الدليل وحتى لو كان ظنيًا مثل الظن بهطول المطر بنسبة 90% وتزعم أن من الممكن المطر يهطل أو لا، بدون مراعاة النسبة التي ترجح هطولها، فيصبح التشكيك لا معنى له ونسبية سلبية غير منتجة.
الشك نفسه مُشكل، فقد يكون الذي كتب هذه الكلمات كائن فضائي أو كائن من الجن، رغم الدلائل التي تفيد بأن الشخص هذا بشري، لأن في نهاية المطاف سوف يشكك في الأدلة، لماذا لا يكون كذا أو كذا؟، وماذا عن قُراء هذه المقالة؟ فقد يكونون كائنات من مجرة بعيدة، فالشك بطبيعته اعتباطي ولا معنى من تقسيمه لأنواع لأنه لا يستند على شيء؛ فلو شككت في مسألة ما يصبح التشكيك في هذا الأمر الذي شككت فيه ممكنًا، بل التشكيك في الشك نفسه أيضًا، والناتج من كل ذلك هو لا شيء.
قد نتفهم ظهور هذه الفلسفات في العصور القديمة كالشكاك الأكاديميين والبيرونية وغيرها من المدارس الشكية، وحتى الوسيطة عند الغزالي أو أبي هشام الجبائي المعتزلي؛ بل المشكلة أن هذه الظاهرة الشكية لم تنتهي فنجدها تمتد من العصر الحديث وصولًا لزمننا المعاصر، وانتهى الأمر إلى أن أصبحَ الشك غاية فكرية وفلسفية في الفكر المعاصر، وقد نجد آثارها في الفلسفة الحديثة عند ديفيد هيوم وتطرقه لأنواع الشك وزعمه بأن بعضها لا يمكن الإجابة عليها بجواب صريح يدحضها، وهذا تسليم منه بتعطل الفكر الفلسفي أما ديكارت والذي استخدم الشك بنزعة مفرطة وتشكيكه في كل شيء والتي لم يتقبلها حتى هيوم نفسه بما أنه يراها نزعة مُبالغ فيها وتدحض نفسها1؛ بالرغم من محاولة ديكارت للجواب عليها بمقدمة يقينية وهي الكوجيتو: “أنا أفكر إذًا أنا موجود” لكي يبني عليها أساسه المعرفي، ولكن الشك في حد ذاته محل إشكال، لأن يمكن التشكيك حتى في هذه المقدمة، فما المانع من التشكيك حتى في الكوجيتو نفسه؟ لماذا نخرج الكوجيتو من حيز الشك؟ كما أن يمكنك التشكيك في دعوى هيوم السابقة أيضًا، حول أنواع الشك وزعمه بأن لا يوجد عليها أي جواب والتشكيك في الشك السابق أيضًا وهكذا؛ لا يمكنك الدفاع عن الشك، لأن أي محاولة للدفاع عنها فهو محلًا للشك، وهذا يؤدي بنا للنسبية حول كل بحث ومجال فكري، ومنها الدعوى السابقة، بل حتى هذه الدعوى أيضًا، وأي دعوى مستقبلية، وبعد كل هذه التناقضات والتي سوف يتم التشكيك فيها أيضًا وبما أن كل هذه الدعاوى نسبية فالنتيجة دائمًا هي العدمية المعرفية.
لا يمكن أن أشكك في بعض الأشياء وأتوقف عن التشكيك في بعضها الآخر وهذا تحكم، بدعوى أن الشك سوف يصبح محل إشكال كمحاولة هيوم باستخدامه شك أضعف من الشك الديكارتي؛ وهذا لا يغير من أن طريقة الشك في المسائل تعتمد على نسق واحد ولا معنى من استخدامها في بعض الموضوعات دون موضوعات أخرى، بمعنى أشكك في المسألة س ولا أشكك في *س التي بنيت عليها س، بدعوى أن هذ الشك متطرف كالشك عند ديكارت، أو تستخدمها في موضوع ما بنسبة 90%، والـ10% المتبقية من الموضوع نعفيها من الشك، فهذا تحكم وطريقة لا معنى لها. تقييد الشك أو التحكم فيه يخالف طبيعة الشك، كأنك تصلح عطل في سيارة أو جهاز ما، والجزء الأخير من العطل 10% تعفيه من الإصلاح. لا يمكنك أن تضرب مثال حول الشك بأنه أشبه بالمطرقة أو المفك، فأنت تصلح السيارة بأكثر من أداة مختلفة، لأن الأدوات المختلفة هي أشبه بالمنهجيات فلو قلنا أن المطرقة هي منهجية الشك والمفك منهجية أخرى، وكل هذه الأدوات أو المنهجيات التي تستخدمها هي طرق متعددة لكي تُصلح فيها السيارة فهي مسألة مختلفة تمامًا، لأن الشك يقتات على نفسه وعلى غيره من الأفكار، فاعتراضنا هو حول دعوى التخلي عن إصلاح جزء من العطل بسبب عدم الحاجة إلى إصلاحها -شك متطرف-، فتستخدمها على 90% من عطل السيارة فقط والباقي تعفيه من الإصلاح -أي تعفيه من الشك-، وهذا مجرد تحكم غير مبرر، وينطبق نفس الأمر مع التفريق بين الشك أن هذا مدرسي أو مذهبي والآخر منهجي وغيرها من التحكمات غير المبررة فإما أن نتخلى عنها كليًا ونأتي ببديلٍ أفضل، أو نستخدم الشك بطبيعته المعروفة وهي التشكيك في الأمور والمسائل دون تقييد أو تحكم لا معنى له والذي سوف يؤدي بنا إلى العدمية، ويوجد من اللتزم هذه النتيجة مثل بيتر أونغر حول عدم معرفتنا لأي شيء، رغم تناقضها الظاهر، ولكنها ضريبة الرواسب الشكية الذي غرق فيها الفكر المعاصر لأخمص قدميه.
الرعب الميتافيزيقي:
الفلسفة اليوم في موضع لا يحسد عليه، كولاكفسكي في كتابه الذي اسماه بالرعب المتيافيزيقي2، والذي يعني وقوعنا في شباك العدم عن طريق التشكيك في المطلق والذات -أو الكوجيتو- وبسبب هذه الطريقة الشكية في التفكير والتشكيك في المطلق والتي سوف تؤدي بنا إلى عدم وجود أشياء قاطعة ويقينية فلا سوى إلا الظلام واللاشيء. لا يوجد جواب صريح وقاطع على هذا الرعب الميتافيزيقي بزعمه، ولكن البحث الفلسفي قد يساعدنا حول البحث عن المعنى وحتى لو لم يكن يقينيًا.
عندما ندقق في المسألة جيدًا، نجد أن البحث الفلسفي من تفكير وتساؤل لا يسعفانك على مواجهة هذا الرعب الميتافيزيقي؛ رغم حثه حول مواصلة البحث عن المعنى، وأنك لن تجدها إلا بالسؤال عنها؛ فجواب كولاكفسكي إشكالي وخجول لأنه يطعن في اليقينيات، ومع ذلك فقد فتح الباب للروحانيات والاعتقاد الديني وحاجتنا لها والذي سوف يساعدنا في إيجاد المعنى في حياتنا؛ وهذا الجواب حول حاجتنا للروحانيات والدين فهو أمر مهم وضروري فهو الذي يعطينا الأمل والغاية في دفع هذه العدمية حول نظرتنا للحياة وغياب المعنى منها سواءً كانت بشكلها الموضوعي أو الذاتي ولكنه يجعلها غير يقينية. مشكلة هذا الطرح هو في غياب اليقينيات وعدم إمكاننا الوصول إليها، فهذا يغذي فيك الشعور بالشك والعدمية، ولا يجاوب على مشكلة الرعب الميتافيزيقي؛ ويبقى في جوابه مشكلة عدم التيقين من أي شيء، فكيف نتيقن من حاجتنا للروحانيات؟ وهذا يُعيدنا للمعضلة الأصلية حول فائدة أو منفعة الفلسفة، بل السؤال نفسه حول المعنى والذي لا يلزم منه أن يعطيك أي معنى، لذلك تجد الرازي وهو الذي يُلقب إمام الشُكاك بسبب منهجيته المشهورة في عرض الإشكالات على المسائل والتشكيك فيها، والذي انتهى إلى القول:
نهاية إقدام العقول عقال
وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
فهذا الرعب الميتافيزيقي الذي مر فيه الرازي والغزالي وغيرهما، لم يكن بسبب التفكير أو علم الكلام أو المنطق، بل كان بسبب الشك نفسه، ومن طبيعة الشك أنه سلبي، فينهش في عقل الإنسان وجسده وروحه، والذي يوقع الإنسان في التردد والاضطراب، أما العقل الموصل إلى اليقين فهو المطلوب في المعرفة والحياة. الرعب الميتافيزيقي يتحقق بحصول التشكيك والنسبية حتى في دعوى كولاكفسكي، أي حثه حول البحث عن المعنى بواسطة الفلسفة؛ الشك ثم النسبية السلبية ثم العدمية وغياب المعنى يقتلان الفلسفة والفكر.
النقد:
أفضل بديل للشك هو النقد، والذي سوف اسميه بالطريقة الثالثة أو الوسيطة، نجدها عند كانط في ثلاثيته والذي أتخذ من النقد كوسط ما بين الدوغمائية والشك3، الشك هو التردد وعدم الاستقرار ويتساوى فيها الصدق والكذب، لأن أي مسألة صادقة أو كاذبة يمكنك التشكيك فيها، بمعنى الشك لا يستطيع أن يرجح أي شيء؛ لذلك لا يُعطيك جواب على مسألتك فهي طريقة سلبية وتؤدي بنا إلى النسبية السلبية؛ أما النقد فهو الفحص والتحليل والذي يأتي بطريقة إيجابية أو سلبية، وقد يعطيك إجابة لمسألتك أو على الأقل يمكنه تقديم منظور جديد يساعدك في البحث والجواب.
قد يقال أن الشك طبيعي بطبيعة السؤال أو أن التردد طبيعي في الإنسان. والصحيح أن الشك ليس أصل في طبيعة الإنسان، بل الأصل هو لليقين والظن؛ أما السؤال والتساؤل فهما أعم وليستا محصورتين في الشك، لأن السؤال يأتي للاستنكار والاستفسار والشك والنقد والافتراض والنظر -البحث- إلخ. في مشكلة غيتييه الشهيرة حول هل الاعتقاد الصادق المبرر معرفة؟ والورقة بهذا العنوان، فهو إشكال نقدي في نظرية المعرفة، بالرغم من الإجابات الكثيرة حولها وبعضهم رفضها4 ولكن تفرعت مذاهب عند الإجابة على هذا الإشكال، كرواد إبستمولوجيا الفضيلة. وفي المقابل نجد قراءة كريبكي لفتغنشتاين الذي استنبط منه نوع من الشك المتطرف وهو الشك اللغوي، ولم يرتضي كريبكي حتى بجواب فتغنشتاين عن الاتفاق أو الإجماع اللغوي كجواب على الشك؛ فهذه القراءة لم تحصل على شهرة كبيرة مثل شهرة مشكلة غيتييه، بل حتى لم يحصل منها أي نتائج فعلية لأن النسق الشكي سوف يُشكك فيها، وهذا الذي حصل مع كريبكي عند رفضه وعدم رضاه لجواب فتغنشتاين، فلو حصلت أي إنتاجية فهي تدحض نفسها؛ بعكس مشكلة غيتييه وظهور تيارات جديدة من خلال الإجابة عليها وهذه نتائج حقيقية؛ فالنقد من جميع النواحي أفضل وأدق من الشك، بما أن الشك لا يُنتج لك إلا العدمية المعرفية.
لنأخذ قضية يقينية مشهورة في الفلسفة “كل رجل أعزب فهو غير متزوج”، الأعزب مرادف لغير متزوج، فلا معنى من التشكيك فيها بدعوى ما المانع؟ قد تكون هناك كائنات أو أجناس عزباء ولكنها متزوجة؛ فهذه دعوى متناقضة بل لا معنى لها. لأنك بذلك تقول بأن الرجل الأعزب قد يكون ليس أعزبًا، وهو سلب الشيء عن نفسه، وهذا تناقض واضح وصريح. وهذا الفرق بين الشك والنقد، فالأخير ينظر ويُحلل الأمور بتريث، بالبحث عن معنى “الأعزب” و “غير متزوج” فإن كانتا بنفس المعنى فينتهي الأمر والنتيجة أن الأعزب معناه -مرادف- غير متزوج.
كواين حاول أن يشكك في المعاني عن طريق الألفاظ5، فقد يكون “بروتس قتل سيزار” بمعنى مغاير، وأن لفظة “قتل” قد تأتي بمعنى آخر في ثقافة أو مجتمع أو حتى كائنات أخرى، فتستخدمها بمعنى “صديق” فيكون “بروتس صديق سيزار”. عند النقد والنظر نرى بأن التشكيك هذا لا معنى له، لأنه يستخدم اللفظ بمعنى مختلف، فلو كان لفظة “قتل” بمعنى “صديق” وليس بمعناها المتعارف عليه في اللغة وهي “أمات”، فنستطيع أن نفرق بين القضيتين عن طريق الاشتراك المعنوي لنفس المفهوم لدينا ولديهم.
المجتمع س لديهم لفظة “قتل” بمعنى “صديق”، إذًا نستطيع أن نستخدم لفظتهم التي تُفيد معنى ومفهوم “أمات” ولنقل إنها لفظة “عدو” فتصبح لديهم بمعنى “أمات”؛ أما لفظة “قتل” عندنا هي لفظة “عدو” عندهم، ويصبح الاشتراك بيننا وبينهم في معنى واحد وهو “أمات”، “بروتس عدو سيزار” بمعنى “بروتس أمات سيزار”.
نلاحظ كيف أن الفلسفة نفسها أصبحت اعتباطية، فعندما نُشكك حول المعاني ومرادفاتها عن طريق التلاعب بالألفاظ وعرض الإشكالات حولها عن طريق الشك؛ ويمكننا أن نأتي بأمثلة كثيرة في الفلسفة المعاصرة من هذا القبيل عند كريبكي وبوتنام وغيرهم. وكما قلنا سابقًا أن هذه الطريقة عقيمة وتفتح المجال للتشكيك حتى في دعاوى كواين فلو أراد إثبات أو نفي مسألة ما عن الطريق استخدام التشكيك، فيمكننا أن نشكك فيها أيضًا وهكذا؛ فتحولت الفلسفة لموضوع غير مفيد وغير منتج ولا معنى له، وهذا ينطبق على ما قلنا حول تقسيمهم الشك لدرجات وأنواع، فهذا التقسيم هي محاولة خجولة لتجنب هذه الإشكالات والنقودات، كما أن هذه التقسيمات لا معنى لها أيضًا مثلما وضحنا سابقًا؛ لأن الشك بطبيعته يسير على نسق واحد فيؤدي بك إلى نسبية سلبية، وكل ذلك سوف ينتهي بنا إلى العدمية، وتصبح الفلسفة ميتة، جثة هامدة ليس فيها حياة، لأن النتيجة من كل ذلك هو لا شيء.
تعليق الشك واستعادة النقد وإنعاش الفلسفة:
تعليق الشك بنقده وهذا لا يحصل إلا عند الممارسة النقدية فهي التي تساهم بإنعاش الفلسفة، وبما أن فعل النقد يُعلق الشك فعندها يتم استعادة النقد من سباته -أو موته-. لو لاحظنا عند الأكثرية ممن يحاولون الإجابة على الشك كديكارت أو هيوم ورفضه للشك الديكارتي أو حتى جواب الغزالي أو بوتنام إلخ؛ كلها في الأصل ردة فعل نقدية ضد الشك، وهي ردة فعل غير مقصودة أي لا تضع الأداة النقدية كأساس لها أو تجعل النقد منهج في مواجهة الشك؛ بل يظهر بأن مقصودهم محاولة الجواب على الشك بما توصلوا إليه من معرفة أو حالة يقينية واطمئنانية كجواب الغزالي في المنقذ من الضلال. الكوجيتو محاولة نقدية لدفع الشك واستبداله باليقين، لذلك نستطيع أن نستنبط بوضوح من هذه السردية بأن النقد بديل أفضل وأنجع من الشك بل حتى في مواجهة الشك نفسه ونقده.
الشك داء عضال ينهش في لحم الفلسفة، فعلينا أن نعلق الشك بل نتخلى عنه. الفكر المعاصر لا يحتاج إليه، فقد تحولت الأنظمة الفكرية إلى شيء هش، سطحي ومتناقض، فلا تستقر على شيء، ولا تبني شيء. قد نتفهم حاجة الفلسفة قديمًا للشك، وكيف كانت منتشرة بكثرة أما اليوم فلا يوجد سبب ومسوغ لوجودها أو حاجتها؛ لذلك التخلي عن الشك يساعد في تعميق جودة الأفكار وثقلها، وعلينا استبدال الشك بالنقد فهو الذي يقدر على تطوير الأفكار ونضوجها وتروج فيها اليقين والظن؛ ولا مانع أن يُعاد الطرح الشكي في المستقبل فقد يُحتاج إليه لاحقًا كما احتاجت إليه الفلسفات القديمة وهو احتياج لحظي وطارئ؛ إذًا يجب علينا أن نُعلق الشك اليوم لكيلا نقع في العدم.
هل تحتاج الفلسفة إلى الرواية والقصص؟
نجد في الفلسفة المعاصرة الكثير من التجارب الفكرية وهي التي تبدأ بضرب الفرضيات من أجل تحفيز الفكر وقد تكون للمحاججة حول فكرة ما أو حتى إظهار الإشكالات والمعضلات الفكرية. أمثلة على ذلك: غرفة ماري لجاكسون، الغرفة الصينية لسيرل، مشكلة الوعي -الزومبي الفلسفي- لتشالمرز، المخ في وعاء لبوتنام، معضلة القطار لفيليبا فوت، وغيرها من التجارب الفكرية والقصص الافتراضية قديمة بقدم الفلسفة فمن أشهرها هي أمثولة الكهف لأفلاطون.
قديمًا اشتهرت المحاورات كالتي عند أفلاطون، ولم تنقرض فما زال بعض الفلاسفة يستخدمها، ولكن التجارب الفكرية في الفلسفة المعاصرة أكثر حضورًا وشهرة من المحاورات، ولعلها بسبب الطابع القصصي الذي يشد مُخيلة الإنسان ومشاعره في السرد الافتراضي. القصة مهمة ومؤثرة فهي عامل جيد لتفسير وتبرير المحاججة الفلسفية، وتُظهر لك أمور ومسائل مجهولة وغائبة عن طريق وضع الافتراضات ومن ثم محاولة الإجابة على الإشكالات الفكرية الناتجة عنها، وإحدى مميزات القصص في الفلسفة هي عرض هذه الافتراضات المبنية على الخيال الواسع والذي لا يتقيد بمنهجية معينة لدى المدارس الفلسفية، وبما أن الخيال واسع جدًا فقد يُدخلنا في أماكن مظلمة غير منتجة وغير عقلانية من البحث الفلسفي لذلك المنطق قد يكون أفضل ضابط للخيال الروائي والقصصي وتحديدًا النظام الخامس من منطق الموجهات. قد نطور التجارب الفكرية فتصبح قصص مختصرة وواضحة فنحاجج أو نبين وجه الإشكال في مسألة فكرية معينة ثم نناقشها ونُجيب عليها فلسفيًا.
الرعب المعرفي:
كان هناك رجلاً في رحلة مع بعض أصحابه إلى صحراء ربع الخالي وقد حلّت عليهم عاصفة رملية شديدة، جعلتهم يتوهون في هذه الصحراء القاحلة وفرقتهم عن بعض، وعندما هدأت هذه العاصفة الغريبة؛ ظهر أمامه شيء ملفت للنظر، وبعد إمعانه جيدًا يرى بناء معماري كبير، فكلما أقتربَ منه أتضحت لديه معالمه، البناء بشكلٍ هندسي غير مفهوم، لم يرَ أي بناء معماري يشبهه من قبل. تشجّع الرجل ودخل هذا البناء من البوابة الضخمة، وكان المكان مظلمًا وبالكاد يدخله الضوء الذي يتسرب من البوابة؛ وجدَ بداخل البناء الغريب صالة ضخمة مترامية الأطراف وفي منتصفها طاولة بها كتاب كبير مجلد بجلد كأنه جلد حيوان، ففتح الكتاب ووجد الكلمات مكتوبة باللغة العربية، وعند مواصلته لقراءة بعض صفحات هذا الكتاب، لاحظ أنه يحتوي على معارف تتجاوز ما توصلنا إليه على وجه هذه المعمورة، فكل ما نعرفه من معارف سابقة فهي باطلة؛ الرياضيات، الفيزياء، الأحياء، الكيمياء، علم النفس، علم اجتماع، إلخ. ووجدَ علوم بأسماء غريبة تحكي عن إثباتاتها وفوائدها ونتائجها، وفي صفحة التي تليها تشكك فيها وتزعم بطلانها، وفي كل صفحة تظهر لك علوم جديدة تثبت نفسها ثم تليها صفحات تشكك فيها وتنقضها وهكذا صفحات لا تنتهي من هذا الكتاب، فلم يستطع الرجل تمالك نفسه وشعر بالغثيان والتوتر الشديدين وهو يقلب الصفحات، وبسبب عدم قدرته على استيعاب هذا الكم الهائل من المعلومات المتعارضة والتي تنقض بعضها البعض، فوصل به الحال إلى نوع من الهوس الشكوكي والذي سيطر عليه، فبدأ يهلوس ويُشكك في كل شيء، فشكك في المكان الذي هو فيه، والكتاب الذي بين يديه، والمعلومات التي فيه، بل حتى التشكيك في وجوده ومشاعره وأفكاره وذكرياته، وبما أن هذه الأمور تجاوزت حدود العقلانية تملّكه الهلع والجنون ولم يتحمّل قلبه فسقط على الأرض ميتًا.
من خلال هذه القصة القصيرة جدًا، نستطيع أن نلمح بعض الإشكالات الفلسفية المتجه ضد الشك باسم الرعب المعرفي. مثل أن الشك لا يقوم على شيء، أو أن الشك سوف يؤدي بنا إلى القلق الوجودي والمعاناة بسبب غياب المعنى مطلقًا لأن المعاني يمكنك التشكيك فيها. وقد تتطور هذه الطريقة وتصبح قراءة نقدية وفلسفية على القصة نفسها، على سبيل المثال: “البناء بشكلٍ هندسي غير مفهوم، لم ير أي بناء معماري يشبه من قبل”. هذا المثال من القصة يرمز لأي شيء؟ يرمز لوجود معارف لم يصل إليها الإنسان بعد، لذلك الرجل لم يستوعب شكل البناء. لو فرضنا رجل بدائي لم ير أي بناء معماري من قبل، ورأى لأول مرة الأهرامات، فسوف يتعجب من هذا الشكل، ولكنه شكل مفهوم أي يستطيع فهمه، لأنه من المؤكد رأى أشكال هندسية أو حتى رسمها على التراب مثل المثلث أو صنع أدوات بشكل هرمي. وهذا ينقلنا إلى محاججة قوية بأن الإنسان معارفه وخبراته تتطور ولديه القدرة على تصحيح الأخطاء العلمية والمعرفية مع تطور خبراته. وقد نضيف طريقة المحاورات مع القصة، لتحفيز جانب من النقاش الفلسفي.
محاورة:
الشكاك: لا يمكننا أن نعرف أي شيء.
الناقد: الكلمات التي قلتها لها معاني، وهذه المعاني معلومة لديك فعرفتها.
الشكاك: لكن قد تكون باطلة.
الناقد: جوابك علي، يثبت أن للكلمات معاني صحيحة، فلو كانت باطلة لما استطعنا أن نتفاهم.
الشكاك: لكنها قد تكون مجرد وهم، فنظن أننا نفهم بعض.
الناقد: لو كان كذلك، لاستحال حصول هذا الحوار بيني وبينك، والحاصل أن يوجد حوار، ونقاش، وجواب على السؤال، فالكلمات والجُمل لهما معنى.
الشكاك: كل هذا وهم، نظن بأننا نفهم هذه المعاني ولكنها ليست لها معنى، وها نحن نخدع أنفسنا بصناعة هذه المعاني، والوهم يشمل فهمنا ومقصودنا، وكل ذلك باطل ولا يخرج من حيز الوهم.
الناقد: إن كان وهمًا فعلًا، فإذًا كيف حكمت بأنها كذلك وهي لديك ليس لها معنى؟، فهذه كلها أمور اعتباطية، ولو كان شكك مطردًا، لشككت في كلامك نفسه، ولامتنعت عن الكلام والنقاش مطلقًا، وبما أن الشك يدحض نفسه، فالشك نفسه بلا معنى.
نرى من هذه المحاورة أن الشك ينتهي لنزعة اعتباطية، فالناقد تجد موقفه أقوى، ولكن مشكلة المحاورات أنك تستطيع التحكم في السردية. عندما ننظر في محاورات أفلاطون، وتحديدًا في كتابه الجمهورية يظهر فيها سقراط المنتصر دائمًا، فتستطيع أن تجعل إحداهما في موضع قوة؛ لذلك التجارب الفكرية أفضل لأنها محايدة، ومع طريقتي في تطوير القصص، يمكننا معالجة المحاورة من خلال النقاش الفلسفي.
مثل: هل اعتراضات الشكاك مُبررة؟ أو هل جواب الناقد سليم؟
المعالجة هذه تساعدنا في معرفة دقة دعاوى الناقد والشكاك، فإن كان الشك غير مبرر بما أنه لا يقف على شيء، والتشكيك يشمل الشك نفسه، إذًا موقف نقد الناقد سليم، لأن الاعتراضات الشكية في المحاورة تسقط، فهي بلا معنى.
المراجع والهوامش:
1- David Hume, An Enquiry concerning Human Understanding (2008), p. 1iii
2- Leszek Kolakowski, Metaphysical Horror (2001)
3- بالرغم أن كانط لديه رواسب شكية، بل أزعم أن أكثر الفلسفات المعاصرة ما بعد كانط غارقة في الشك ولكن ليس هنا محل نقاشها
4- أنا كذلك أراها مشكلة متعلقة بالفلسفة المعاصرة فلا مانع أن الموضوعي يكون مستقلًا حول ما نعرفه ذاتيًا، فالمشكلة التي لاحظتها في تعاملهم مع الموضوعي كأمر ذاتي أو كشيء واحد بدون فصل أو تمييز بينهما، وهي مشكلة تتعلق بالخلط ما بين الموضوعي والذاتي، والعجيب أنني وجدت منذ فترة قريبة فيلسوف معاصر وافقني من جهة ولاحظ نفس هذه المشكلة الموجودة في الفلسفات المعاصرة ولكن جوابه إشكالي، وقد نناقشها في مكان آخر. حول نقدي لهذه المشكلة انظر: مقابسات، العدد 1، أغسطس 2022، مقدمة جديدة في أسس نظرية المعرفة، خالد الحسن، ص 39
5- W. V. Quine, From a Logical Point of View (1980), p. 36