تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢ أكتوبر ٢٠١١
يعكس نبذ ريك بيري Rick Perry[i] الأخير لنظرية التطوّر وتأكيده الواثق على أن “الإله هو من أوجدنا” الانقسام الواضح في ثقافتنا. فمن جهة أولى فإن هذا انقسام حول الوقائع والمعلومات فبعضنا يؤمن بأن الإله خلق الناس كما هم عليه الآن والبعض الآخر لا يؤمن بذلك. ولكن تحت هذا الانقسام حول الوقائع انقسام آخر أعمق منه. الاختلافات التي تؤدي للفرقة ليست في الحقيقة خلافات حول الوقائع والمعلومات فقط. تلك الاختلافات تتعلق كذلك بالطرق المفضّلة لدعم رؤانا عن الوقائع. دعونا نسمي هذا النوع اختلاف في مبدأ معرفي/ابيستمولوجي. تخبرنا مبادؤنا المعرفية عن مسوّغات الاعتقاد وبالمصادر المعرفية التي يجب أن نثق بها. وبالتالي فإنه في حين قد يتفق عدد قليل من الناس مع بيري باعتبار أن الأدلة العلمية تؤيد نظرية الخلق، إلا أنني أشك أن يتعلق الأمر لدى غالبية الناس بتوفر الأدلة العلمية أو عدم توفرها. اعتقادهم بنظرية الخلق في الواقع يعكس مبدأ معرفيا أعمق وهو أن النص المقدس مصدر أوثق من العلم في قضايا معينة. وفي المقابل فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة لآخرين مثلي.
مثل هذه الاختلافات تؤدي إلى سؤال مرعب مفاده: كيف يمكن لنا الدفاع عن مبادئنا المعرفية الأساسية؟ وكما هو الحال مع أفضل الألغاز الفلسفية فإن هذه المشكلة تبدو في ذات الوقت غير قابلة للحل ومن المهم جدا حلّها.
كان الشكاك الإغريق الأوائل هم أول من أبرز صعوبة حل هذه المشكلة، فكل اعتقاد من اعتقاداتنا قد أُنتِج بمنهج معين ومن مصدر معين سواء كان يسيرًا كالذاكرة أو معقدًا كالتكنولوجيا العلمية. ولكن لماذا نعتقد أنَّ مناهجنا -أيًّا كانت تلك المناهج- تستحق الثقة، أو تستحق أن نعتمد عليها للوصول للحقيقة؟ سيكون من المنطقي الإحالة على المنهج ذاته الذي نضعه محل السؤال. وأنَّ الإحالة على منهج آخر لن تساعدنا أيضًا باعتبار أنَّ المنهج الثاني لن يفيدنا في تأكيد مصداقية المنهج الأول محل السؤال دون أن يكون هو ذاته قد أثبت مصداقيته. فينتهي بنا الحال إمَّا على المنوال ذاته من سرد الأدلة لدعم المناهج والاستدلال بالمناهج لدعم الأدلة دون طائل، وإمَّا الاعتراف بأنَّ منهجنا بلا أساس. أيًّا كان طريقك يبدو أنَّ عليك أن تعترف بأنك لا تستطيع تقديم أي دليل على ثقتك بمناهجك، ومن ثَمَّ تعترف بأنك لا تستطيع تقديم أي دليل للدفاع عن مبادئك المعرفية الأساسية.
تثير الحجة الشكوكية القلق؛ لأنها تبدو كأنها تقترح أنَّ كل التفسيرات “العقلانية” تتأسس على أمر اعتباطيّ. تؤول الأمور في النهاية إلى ما صادف أن تؤمن به وإلى ما تشعر به في داخلك وإلى إيمانك. وقد وجد الناس في هذه الفكرة إغراءً كبيرًا على مر التاريخ لاعتبارات عدة، منها أنَّ هذه الفكرة تحمل في داخلها شعورًا بالتحرير، فهي تساوي بين المواقف بالمعنى الفكري للكلمة، ذلك أنه إذا كانت كل الأسباب متأسسة على قاعدة اعتباطية، فإنَّ المبادئ المعرفية تتساوى في تأسيسها للمعارف. ومن ثَمَّ يبدو أنها تدعنا نذهب بحرية مع أي مبدأ معرفي نختار.
يميل كثير من الملتزمين بالمبادئ المعرفية الأساسية للعلم التجريبي كالمبدأ القائل: “إنه يجب الثقة بالملاحظة والتجريب أكثر من الكتاب المقدس” إلى تجاهل هذا القلق. يتساءل هؤلاء: لماذا يجب عليّ أن أهتم بإقناع من لا يفهمون الحقيقة الواضحة القائلة بأنَّ العلم التجريبي هو الطريقة الفضلى دائمًا لمعرفة الأمور المتعلقة بأصل الحياة على هذا الكوكب. (طُرح هذا السؤال أيضًا في النقاش حول المذهب الطبيعي هنا في منتدى ذا ستون) نجد هنا مجددًا فكرة أنَّ المبادئ المعرفية تخبرنا بما هو عقلاني، ولذا فإنَّ من يشكك في مبادئي المعرفية الأساسية سيبدو لي كمن يشكك في العقلانية ذاتها. لذا لماذا يجب عليّ أن أهتم بما يعتقدون؟ في نهاية الأمر لن يستطيعوا إدراك أسبابي (الجيدة)، وستبقى “أسبابهم” غير مشروعة في نظري.
ولكن ما الذي يمكن اعتباره مشروعًا؟ هذه هي المعضلة. التحدي المشروع في الغالب تحدٍّ عقلانيّ. الخلافات حول المبادئ المعرفية خلافات حول المناهج والمصادر التي يجب علينا الوثوق بها، وهنا المشكلة، فنحن لا نستطيع تحديد المبرر المشروع للشك في المبادئ المعرفية إلا إذا اسْتَقْرَرْنا على مبادئنا وهنا لب القضية محل الخلاف. الإشكالية التي قدمتها الشكوكية حول العقل لا تتعلق بكوني أملك أدلة على مبادئي انطلاقًا من المبادئ ذاتها، فهذا ممكن في الغالب[ii]، وإنما تكمن الإشكالية في إمكانية تقديم دفاع موضوعي عن تلك المبادئ. هذا يعني: هل بإمكاني أن أقدم أسبابًا تدعم تلك المبادئ؟ وأن تكون تلك الأسباب ذات اعتبار انطلاقًا مما يسميه هيوم بالـ “المنظور العام”، أي: أسباب تستطيع “أن تحرّك مبدءًا كونيًّا في الكيان الإنساني وتلامس وترًا ينسجم ويتناغم معه الجنس البشري”[iii].
أعتقد أننا تجاهلنا هذه الإشكالية—إشكالية الدفاع عن مبادئنا المعرفية أمام المنظور العام—ونحن من سيتحمل النتائج. هذا لا يعني أنني أقول: إنه يجب علينا استصدار قائمة بنقاط أساسية تقنع الناس بتطبيق التفكير العلمي في الخطاب العمومي. سيكون هذا العمل مضيعة للوقت. ثم إني لا أقول: إنه من الغباء السياسي أن تتجاهل وجهات نظر الآخرين في المجتمع الديموقراطي. (فرغم أنَّ هذا صحيح، فلن يكون من النافع لقضيتك أن تتجاهل متعاليًا أطروحات الآخرين المضادة لك). نقطتي الأساسية هنا أنَّ الدفاع عن مبادئنا المعرفية وإيماننا بالعقل هو أمر تتطلبه بعض مبادئنا الأخرى. فكرة هيوم في الإحالة على ما يسميه أحيانا بـ”مبدأ الإنسانية” هي قيمة اللباقة المدنيّة التي تطلب منّا أن نعثر على ما هو مشترك مع أولئك الذين يجب علينا أن نتداول القضايا السياسية معهم. ينظر فلاسفة السياسة المتأخرين مثل جون رولز ويورقن هابرماس لهذه القيمة كمكوّن أساسي لليبرالية الديموقراطية الفاعلة. لا تبدو الديموقراطيات في هذه الأطروحات على أنها تنظيم للصراع على السلطة بين رغبات متنافسة، فالسياسة الديموقراطية ليست حربًا بوسائل مختلفة. الديموقراطيات مساحات للرؤى العقلانية، أو يجب عليها أن تكون كذلك.
لذا، فإنَّ أحد أسباب ضرورة العناية بالحجاج من أجل مبادئنا المعرفية بجديّة هو أنَّ قيمة اللباقة والكياسة تتطلبها. وهناك سبب آخر أعمق، وهو أننا بحاجة إلى تسويغ مبادئنا المعرفية انطلاقًا من منظور مشترك؛ لأننا بحاجة إلى مبادئ معرفية مشتركة لكي نتحصل أساسًا على منظور مشترك. وإن لم نصل إلى أرضية مشتركة من المعايير التي يمكن أن نقيس عليها ما يُعدّ مصدرًا موثوقًا للمعلومات أو مصدرًا موثوقًا للبحث وما لا يعدّ كذلك، فلن نستطيع الاتفاق على الوقائع، فما بالك بالقيم؟ّ! وهذا هو الموقف الذي نتجه نحوه هنا في الولايات المتحدة، فنحن نعيش معزولين في فقاعاتنا الفكرية المنفصلة التي تشكّلت من المصادر التي تعزز انحيازاتنا، ولا تتحدى افتراضاتنا الأساسية أبدًا. ولا غرابة إذن—كما هو الحال في الجدالات حول نظرية التطوّر أو ما تشرحه الكتب المدرسية— أن نفشل في الاتفاق على التاريخ أو البنية الفيزيائية للعالم ذاته. ولا غرابة أيضًا أن يتوقف العمل المشترك. لا تستطيع أن تتفق مع الآخرين على الوقائع إذا لم تتفق معهم على مبادى الاستدلال والعقلانية. وإذا لم تستطع أن تتفق مع الآخرين على الوقائع، فسيكون من الصعب جدًّا الاتفاق معهم على ما يمكن فعله تجاه تلك الوقائع.
ونقول بشكل مُيسَّر: إننا بحاجة إلى قيمة معرفية مشتركة؛ لأننا نحتاج كثيرًا أن نقرر بشكل مشترك ما يجب علينا فعله عندما نختلف. يمكننا أحيانًا أن نحقق ذلك في المجتمع الديموقراطي من خلال التصويت. ولكن لا نملك أن نتخذ قرارًا في كل قضية بهذه الطريقة، ولا نستطيع بالتأكيد أن نقرر بشأن المبادئ المعرفية والمناهج والمصادر التي تستحث الثقة العقلانية فعلًا من خلال التصويت. نحن بحاجة إلى شكل من أشكال القيم المشتركة قبل أن نتوجه إلى صناديق التصويت، وهذا هو سبب حاجتنا لمقاومة الشك في العقل. علينا أن نكون قادرين على إعطاء مبررات وجوب أن تكون بعض المبادئ المعرفية ضمن تلك القيم دون غيرها.
الحقيقة القائلة بأنَّ المجتمع الديموقراطي المدني يتطلب قيمًا مشتركة من المبادئ المعرفية يجب أن تعطينا أملًا في قدرة الجواب على التحدي الشكوكي. حتى ولو كنا لا نستطيع الدفاع عن حقيقة المبادئ المعرفية دون الوقوع في الدور المنطقي كما يقول المتشكك، فإنا سنستطيع أن نكشف أنَّ بعضَ تلك المبادئ أفضل من الأخرى. الملاحظة والتجريب ليست جيدة؛ لأنها وسائل موثوقة للحقيقة فقط، بل لأنها مفتوحة تقريبًا للجميع، وللجميع أن يستند إليها. للملاحظة والتجريب جذور متصلة بغرائزنا الطبيعية كما قال هيوم ربما. وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نستطيع أن نأمل في تقديم مبررات لمبادئنا المعرفية. مثل تلك المبررات ستكون عملية فقط، ولكنَّ الحجج—الحجج العقلية على العقل— تبقى، إن صحت العبارة، حجج.
[i] سياسي أمريكي (المترجم).
[ii] عادة ما يعتبر الفلاسفة الحجج الشكوكية تحديًا لإمكانية المعرفة. أرى أنَّ ذلك ليس بصحيح، والحقيقة أنها تتحدى إمكانية القدرة على الدفاع عن معرفتنا وإيضاحها لمن يرى الأمور بطريقة مختلفة.
[iii] بحث في مبادئ الأخلاق. في “مباحث في الفاهمة البشرية وفي مبادئ الأخلاق”. تحرير I. A. Selby-Brigge الطبعة الثالثة. مراجعة P. H. Nidditch (Oxford: Oxford University Press, 1975). IX, 1, pp. 272-273.
الكاتب: مايكل باترك لينش أستاذ الفلسفة بجامعة كونيتيكت وأستاذ مشارك في المعهد الشمالي للفلسفة في جامعة أبردين. مؤلف كتب “In Praise of Reason,” “True to Life” (2004) and “Truth as One and Many” (2009).
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
Reasons for Reason
Michael P. Lynch
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”