تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
أين عقلي؟
السؤال الذي طرحته فرقة الروك “بيكسيز” بشكلٍ لا يُنسى في أغنيتهم عام ١٩٨٨ هو السؤال الذي ربما و مما يثير الدهشة سبب في انقسام الكثير من المشتغلين في مجالات فلسفة العقل والعلوم الإدراكية. ألقِ نظرة على المواضيع العلمية في الصحف اليومية وقد يُغفَر لك تفكيرك بأنه ليس ثمة مسألة للإجابة عليها. نحن جميعًا على دراية بصور “بقع الدماغ(١)” المُلوَّنة التي تُظهِر المكان الذي يتركز فيه النشاط (الذي يُقاس بشكلٍ غير مباشر بمستوى تأكسج الدم) أثناء محاولتنا حل أنواع مختلفة من الألغاز: البقعة تظهر هنا عند التفكير في الأسماء، وهناك التفكير في الأفعال، وهناك أيضًا عند حل معضلات أخلاقية ذات فئة مُعيَّنة، وما إلى ذلك، بقع بلا نهاية. (لقد ارتقت، في الواقع، صور بقع الدماغ على ما يبدو إلى مكانة الفن المرئي في الآونة الأخيرة مع نشر كتاب يحتوي على صور مثيرة للدماغ(٢)).
يبدو أنه لا يوجد حد للمهام المختلفة التي تثير ببراعة وأحيانًا دون براعة أنماطًا مختلفة من التنشيط العصبي. لا بُد، بناءً على ذلك، أن كل التفكير يحدث في الدماغ؟ إنه على أي حال المكان الذي نستنير به.
ولكن من ناحية أخرى، ربما ليس الأمر كذلك. لقد سمعنا جميعًا قصة المخمور الذي يبحث ليلاً تحت المصباح الوحيد الموجود في الشارع عن مفاتيحه التي سقطت منه؛ وعندما سُئِل عن سبب بحثه هناك بينما قد تكون المفاتيح بالتأكيد في أي مكانٍ آخر في الشارع، أجاب: “لأن هذا هو المكان الذي يوجد به ضوء”. فهل يمكن أن ينطبق الأمر نفسه بالنسبة للبقع؟
هل من الممكن، على الأقل في بعض الأحيان، أن بعض من الأنشطة التي تمكِّننا من أن نكون الكائنات المفكِّرة والمعرفية التي نحن عليها، تحدث خارج الدماغ؟
تبدو الفكرة غريبة في البداية. لذلك دعونا نأخذ نوعًا مألوفًا من الحالات كتوضيح أولي. يومئ معظمنا (بعضنا بشدة أكثر من الآخرين) عندما نتحدث. وقد كان يُفتَرَض، لسنواتٍ عديدة، أن هذا الفعل الجسدي يخدم في أحسن الأحوال بعض الأغراض التعبيرية، وربما لغاية التأكيد أو التوضيح. شكَّك علماء نفس ولغويون مثل سوزان غولدن-ميدو وديفيد ماكنيل مؤخرًا في هذا الافتراض، مشتبهين في أن الحركات الجسدية قد تلعب هي نفسها نوعًا من الدور النشط في عملية تفكيرنا. وقد أظهر الخاضعون للتجارب التي يُثبَّط فيها الاستخدام النشط للإيماءات أداءً منخفضًا في أنواعٍ مختلفة من المهام العقلية. ومهما كان يحدث في هذه الحالات، الآن، فمن الواضح أن الدماغ متورطٌ بها! لا أحد يعتقد أن تلويحات اليد الجسدية هي ذاتها مستودع للأفكار أو المنطق؛ لكنها قد تُسهِم في التفكير والاستدلال، ربما عن طريق تقليل المهام التي يجب أن يؤديها الدماغ أو تغييرها، وبالتالي مساعدتنا على المضي قُدُمًا في تفكيرنا.
جديرٌ بالذكر، على سبيل المثال، أن استخدام الإيماءات العفوية يزداد عندما ننخرط بالتفكير في مشكلةٍ ما، بدلاً من التدرب على حلٍ معروف. قد يكون هناك ما يتعلق بما يُسمَّى “التلويح باليد” أكثر مما نعتقده.
يستكشف حاليًا لفيفٌ من العلماء والفلاسفة المشتغلين في المجالات المعروفة باسم “الإدراك المتجسد” و “العقل الممتد” هذا النوع من الأفكار. وما يجمع بين هذه المجالات هو الافتراض أن التطور وعملية التعلم لا تُعير أي اهتمام للمصادر المستخدمة لحل المشكلة. ليس هناك سبب، من منظور التطور أو التعلم، لتفضيل استخدام استراتيجية إدراكية للدماغ فحسب أكثر من تفضيل استخدام التركيبات الذكية (ولكن الفوضوية المُعقَّدة التي يصعُب فهمها) من الدماغ والجسد والعالم. تلعب الأدمغة بالطبع دورًا رئيسيًا. فهي موضع اللدونة العظيمة والقدرة على المعالجة، وستكون تقريبًا مفتاح لأي شكل من أشكال التحقق في العلوم الإدراكية. لكن فكر قليلاً في الموارد العديدة التي تحدث اندفاعات من الأنشطة المتعلق بمهامها في أماكنٍ أخرى، ليس فقط في الحركات المادية لأيدينا وأذرعنا أثناء التفكير، أو في عضلات الراقصة أو النجم الرياضي، ولكن حتى خارج الجسد البيولوجي – في أجهزة الآيفون والبلاك بيري، وأجهزة الحاسوب المحمولة وأجهزة التنظيم التي تحوِّل وتوسِّع نطاق المعالجة البيولوجية المُجرَّدة بالعديدٍ من الطرق. لقد جادلتُ أنا وآخرون بأنه قد يكون من الأفضل أحيانًا النظر إلى هذه “البقع” ذات النشاط الأقل شهرة باعتبارها عناصر خارجية حيوية في عملية إدراكية ممتدة: عملية تتقاطع الآن مع الحدود التقليدية للجسد والجمجمة.
إحدى الطرق لرؤية ذلك هي أن تسأل نفسك كيف كنت لتصنف نفس العمل إذا وُجِد أنه يحدث “في الرأس” كجزءٍ من المعالجة العصبية، على سبيل المثال، لنوع من المخلوقات الفضائية؟ إذا لم يكن حينئذٍ لديك أي تردد في اعتبار النشاط على أنه نشاط إدراكي حقيقي (وإن كان غير واعٍ) فربما يكون ما يمنعك من اعتبار نفس العمل عند أدائه بشكلٍ موثوق خارج نطاق أدمغتنا كعنصرٍ حقيقي في المعالجة العقلية الخاصة بك هو مجرد نوع من أنواع التحيز البيولوجي.
طريقة أخرى لمقاربة الفكرة هي مقارنتها باستخدام الأطراف الاصطناعية. إذ نلاحظ، بعد فترة من الزمن، أن الطرف الاصطناعي الجيد لم يعد يعمل كمجرد أداة، ولكن كجزء جسدي غير بيولوجي. يُوجَّه شكل هذه الأطراف وهيكلها، على نحوٍ متزايد، لوظائفٍ محددة وهي لا تحاكي الشكل والهيكل الكامليْن للنموذج البيولوجي الأصلي (انظر شفرات الجري المصنوعة من ألياف الكربون للرياضي الأولمبي والبارالمبي أوسكار بيستوريوس). إذ تصبح الأطراف الصناعية مع تحسن تقنيات معالجة المعلومات لدينا أفضل وتتكيف على نحوٍ أفضل لملاءمة الدور الذي يوفره الدماغ البيولوجي، وتصبح أشبه أكثر بالأطراف الاصطناعية الإدراكية: كالدوائر غير البيولوجية التي تعمل كأجزاء من الأسس المادية لعقولٍ مثل عقولنا.
كثيرٌ من الناس الذين أتحدث إليهم سعداء تمامًا بفكرة أن قطعة مزروعة من جهاز غير بيولوجي، مُوصَّلة بالدماغ عن طريق نوع من الاتصال السلكي المباشر، ستُحسب على أنها توفر دعمًا ماديًا لبعض معالجاتهم الإدراكية (على افتراض أن كل شيء سار على ما يرام)؛ تمامًا مثلما نتقبل قوقعات الأذن المستزرعة كعناصر حقيقية ولكن غير بيولوجية في الدائرة الحسية؛ ومثلما قد نتقبل “الخلايا العصبية السيليكونية” التي تؤدي عمليات مُعقَّدة كعناصر في شكلٍ مستقبلي من أشكال الإصلاح الإدراكي. ولكن الحدس يتحوَّل أحيانًا عندما يتحول التركيز من الإصلاح إلى التوسع، ومن عمليات الزراعة بالتوصيل السلكي إلى “الزراعة الخارجية” بالاتصال اللاسلكي. أريد أن أجادل بأن هذا التحول غير مُبرَّر. فإذا استطعنا إصلاح وظيفة إدراكية ما باستخدام مجموعة دوائر غير بيولوجية، فيمكننا إذن توسيع الوظائف الإدراكية وتغييرها بهذه الطريقة أيضًا. وإذا كانت الوصلة السلكية مقبولة، فعلى الأقل من حيث المبدأ يجب أن تكون الوصلة اللاسلكية (كالتي تربط دماغك بدفتر الملاحظات، الآيباد أو الآيفون) مقبولة أيضًا. فما يهم هو تدفق المعلومات وتغيراتها، وليس الوسيط التي تتحرك من خلاله.
ربما نتأثر ببساطة بفكرة أن هذه الأجهزة (مثل الأطراف الاصطناعية) قابلة للفصل عن بقية الشخص؟ كتب ابن سينا، الفيلسوف والعالم الفارسي الذي عاش بين عامي ٩٨٠ و١٠٣٧م، في المجلد السابع من رائعته ” النفس (الفن السادس من الطبيعيات)” أن “تلك الأعضاء الجسدية، إن جاز التعبير، ليست بأكثرٍ من ملبسٍ لنا؛ ولأنها متصلة بنا منذ زمنٍ طويل، نعتقد أنها نحنُ، أو أنها أجزاء منا وسبب ذلك هو الزمن الطويل الذي بقينا فيه ملتزمين بها: إننا معتادين على خلع ملبسنا ورميه، وهو مالم نعتاد تمامًا على فعله بأعضائنا الجسدية” وأريد أن أقول إن الشيء نفسه ينطبق على دوائرنا الإدراكية.
حقيقة أن هناك جوهر بيولوجي مستقر “لا يُزال ويُلقى” تعمينا عن حقيقة أن العقول، مثل الأجساد هي مجموعة من الأجزاء التي لا تتألف وحدتها الأعمق من كونها مسائل عارضة من عدم قابلية الانفصال، بل تتألّف بالطريقة التي تعمل بها (الأجزاء) معًا ككلٍ فعّال. وقد تظهر، عندما تتدفق المعلومات، بعض أهم الوحدات في أنظمة المعالجة المتكاملة التي تنسج معًا النشاط في الدماغ والجسد والعالم.
هذه الفكرة ليست بجديدة. إذ يمكن أن نعثر على صيغ مختلفة لها في أعمال جيمس وهايدغر وباتسون وميرلوبونتي ودينيت وغيرهم الكثير. ولكن يبدو أننا نوشك على الدخول في عصرٍ تعرض فيه الأطراف الاصطناعية الإدراكية (التي كانت موجودة دائمًا بشكلٍ أو بآخر) نوعًا من الانفجار الكمبري لأشكال جديدة وفعّالة. قد يكون من الأفضل لنا، مع تكاثر الأشكال ومع ترسخ بعضها، أن نتوقف ونتفكّر في طبيعتها وحالتها. إن عقول مثل عقولنا، على أقل تقدير، ليست نتاج للمعالجة العصبية وحدها، ولكن للتفاعل المُعقَّد والمُكرَّر بين الأدمغة والأجساد والعديد من بيئات المصممين التي نعيش ونعمل فيها بشكلٍ متزايد.
أرجو ألا تسيئوا فهمي؛ فبعض من أعز أصدقائي هم علماء أعصاب ومصورين عصبيين (كما يصادف أن شريكتي مُصوِّرة عصبية، لذلك فإن موضوع نقاط الدماغ جزء من حديثنا اليومي). الدماغ مخلوق رائع، أكثر من جدير بالاستثمارات الهائلة التي نُجريها لدراسته. لكننا – البشر ذوو الأجساد متعددة المهارات الذين نعيش في عالمٍ معقد تتزايد به التكنولوجيا ومهيكل ذاتيًا بشكل كبير – لانزال نحن الأكثر روعة. إن فهم العقل حقًا، إذا كان مُنظِّرو الإدراك المتجسد والممتد على حق، سيتطلب أكثر بكثير من مجرد فهم الدماغ. أو على حد تعبير فرقة البيكسيز:
أين عقلي؟
هناك في المدى البعيد في الماء، انظر له يسبح.
(١) تعتبر البقع أجزاء من القشرة البصرية الأساسية، تقع أعلى وأسفل الطبقة الرابعة حيث تتجمع مجموعات من الخلايا العصبية الحساسة تجاه الألوان في أشكال اسطوانية. (المترجم)
(٢) انظر https://www.nytimes.com/2010/11/30/science/30brain.html
الكاتب: أستاذ المنطق والميتافيزيقيا في كلية الفلسفة وعلم النفس وعلوم اللغة في جامعة إدنبرة باسكتلندا. وهو مؤلف “أن تكون هناك: جمع الدماغ والجسد والعالم معًا مرةً أخرى” (Being There: Putting Brain, Body, and World Together Again) (دار نشر ميت بريس، 1997) و”مفاجأة العقل: التجسيد والفعل والامتداد الإدراكي”( Supersizing the Mind: Embodiment, Action, and Cognitive Extension) (دار نشر جامعة أكسفورد، 2008).
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
Out of Our Brains
Andy Clark
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”