تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
الإبداع يتغلغل في الحياة وقد يكسر القلب كما يفعل الحب
قد تبدو كلمة “فن” كلمة رنانة، فحين يسمعها المرء قد يقع في روعه أنه سيُجبر على قراءة إحدى الروايات، أو على الذهاب إلى متحفٍ ما، أو مشاهدة فيلم ليس فيه انفجارات.
أما أنا فالفن معناه عندي تلك الجوانب من حياتنا التي يمكن أن ينشرها الإبداع ويحولها. وجود الإبداع في حياتنا أمر مهم؛ فنحن من دونه نتحرك بلا مشاعر، عالقون في الماضي، أما مع الفن نشعر بالحياة والفرح.
لكن إذا قلت إن الفن هو ببساطة حياة مُشبَعة بالإبداع، أليس في ذلك تفسير للغامض بما هو أكثر غموضًا؟ وتفسير للمبهم بالأكثر إبهامًا؟ في النهاية، ما معنى الإبداع على وجه التحديد؟
لحل هذا اللغز، هذه خمس أطروحات عن الإبداع:
الأطروحة الأولى: أن الإبداع يعني صنع شيء جديد.
إذا عبرنا عن عالمنا بطريقة مختلفة، فقد يبدو فجأةً عالمًا جديدًا. إليك هذا المثال: في العصور الوسطى، كان الطريق شيئا يسير عليه الناس وكان المحيط لجة زرقاء مرعبة. ولكن عندما وصف المؤلف المجهول للقصيدة الملحمية الإنجليزية القديمة “بيوولف” المحيطَ بأنه “طريق الحوت”، جعل قرائه ينظرون إلى المحيط نظرةً جديدة. فقد يكون المحيط عقبة بالنسبة لنا نحن البشر الذين نعيش على اليابسة، أما بالنسبة للحيتان فليس المحيط إلا طريقًا.
الأطروحة الثانية: أن الإبداع يُخفي نفسه.
الإبداع خجول. فليس أسهل من أن تفوتنا ملاحظة أن الإبداع ليس إلا صنع شيء جديد، لأننا ما إن ننجح فيه إلا ويظهر لنا الشيء الجديد الذي أبدعناه واضحًا للعيان، كما لو كان موجودًا على الدوام. “الحوت” و “الطريق” معروفان قبل أن يقول قائل “طريق الحوت”. ثم بدأ الناس يقولون “بالطبع! قد يكون المحيط عائقًا أمامنا لكنه ليس كذلك بالنسبة للحيتان، فهي تسبح فيه”؛ فأقصى ما فعله هذا الشخص أنه عبَّر عن أشياء موجودة بانتظار من يعبّر عنها، وليس أنه عبَّر عن أشياء لم توجد إلا بعد أن عبَّر عنها!
قد يكون الإبداع أداة لحل المشكلات. هل نحن بحاجة إلى كلمة جديدة للمحيط؟! الإبداع لا يحل المشكلات فحسب، بل يصنع مشكلات جديدة أو يكتشفها ليحلها لنا. قبل مئات السنين، كان الجميع يعتقد أن أسماء المحيط القديمة كانت تُغني عن غيرها، حتى قال أحدهم “طريق الحوت”؛ فذُهِل الجميع وقالوا “يا للروعة! نعم إنه طريق الحوت!” دائمًا ما يُخبئ الإبداع نفسه ويتوارى عن الأنظار.
هذه مسألة من المفيد أخذها بعين الاعتبار حينما نفكر في العلم، لأن الإبداع من الأمور الأساسية في العلم أيضًا. نميل إلى النظر إلى العلم على أنه سلسلة من العبارات الملزمة حول الكيفية التي يعمل وفقها العالم، أو على أنها جملة من الأمور التي علينا أن نؤمن بها. لكن لو كان هذا صحيحًا فكيف يبدع العلماء؟ ليس بوسعهم في الواقع قول أي شيء جديد؛ ليس عليهم إلا أن يعبروا بكل سلبية عن الأشياء كما هي.
لا شك أن العلم لا يعمل بهذه الطريقة على الإطلاق. إذ ينبغي علينا في الواقع أن نبدع العلم. عندما توصل نيوتن إلى قانونه الثاني من قوانين الحركة (القوة تساوي الكتلة في السرعة)، فقد كان بنفس إبداع ذلك الذي أتى بعبارة “طريق الحوت”. وكما هو الحال مع هذه العبارة، فقد أخفى نجاح عمل نيوتن الإبداعي إبداع نيوتن، فقوانينه التي صاغها أشارت إلى شيء موجود مسبقًا لكنه لم يكن موجودًا أيًضا. كلما حققنا نجاحات أكثر، بدت لنا الأشياء التي أبدعناها وكأنها لم تكن بحاجة إلى إبداع، فالإبداع يتخفى.
الأطروحة الثالثة: أن الإبداع يتغلغل في الحياة.
يملأ الإبداع حياتنا كما تملأ مياه المحيط حبيبات القلعة الرملية. فهو يغمر المساحات ما بين هذه اللحظة والتي تليها، وما بين هذا الحدث والحدث الذي يليه، وهذه الكلمة والكلمة التي تليها. يمكنك، بالتالي، أن تُبدع وأنت تقوم بأي أمر من الأمور؛ فقد تُبدع بطريقتك التي تمشي بها متجهًا إلى عملك، وقد تُبدع عندما يعتريك الحزن، أو وأنت تكوِّن إحدى الصداقات، قد تبدع وأنت تحرك جسمك مستيقظًا من نومك في الصباح ، وقد تُبدع وأنت تدندن أغنية في يومٍ جميل.
دائمًا ما نعيد تشكيل حياتنا من خلال الأعمال الإبداعية. الإبداع في الواقع يجعل حياتنا ممكنة، تمامًا كما يجعل الماء القلعة الرملية ممكنة. دون الماء ستنهار هذه القلعة الرملية، وكذلك الحياة الروتينية بالكامل التي لا إبداع فيها لا تكون حياة على الإطلاق.
الأطروحة الرابعة: أن الإبداع قد يكسر القلب.
الإبداع بطبيعته محفوف بالمخاطر. يمكنك القول إن “الإبداع يبدو مبهجًا وممتعًا للغاية – فلماذا لا يبدع الجميع طوال الوقت؟ لماذا يترك الناس الإبداع ليسرقوا ويغشوا؟ لماذا يتبعون القواعد حينما يحاولون أن يكونوا مبدعين؟ لماذا يجعلون البطل على الدوام رجلًا وسيمًا، ولماذا يجعلون قصائد أغانيهم دائما مُقَفَّاة؟ لماذا يقلد الناس ما ثبت نجاحه من قبل؟”
الإبداع قد يفشل، ولو عرفت مسبقًا أن الشيء الذي تصنعه سينجح، فلا إبداع في ذلك. وإذا لم ينجح، فإن ذلك سيكسر قلبك ويشعرك بالحسرة. ستبدو كالمغفل، والأسوأ من ذلك شعورك بأنك مغفل؛ وهذا أمر محرج للغاية. لكن لا يمكنك الحصول على متعة الإبداع دون أن تخاطر بشعور الألم والفشل – والأمر ينطبق كذلك على الحب.
الأطروحة الخامسة: أن الإبداع نوع من الحب.
لهذا السبب قد يكسر الإبداع قلبك، ولهذا السبب في الوقت نفسه قد يجعل العالم ينبض بالحياة. حين تبدع تجعل الأشياء جديدة مفعمة بالحياة، وتفعل الشيء ذاته عندما تحب شخصًا ما أو شيئًا ما.
ولهذا السبب كذلك الإبداع خجول ومتوارٍ. لا نريد لشخصٍ آخر لا يعرف الحب أن يلاحظ الطريقة التي نحب بها. لا نريد أن يقال عنا “أوه، إنه يحب كل من لديها شعر أشقر” أو “إنه يحب كل من تذكره بأمه”. بطبيعة الحال لا نحب أن يظن الناس أنهم يستطيعون التلاعب بنا من خلال معرفة مَن أو ماذا نحب، فهذه إهانة لمَن نحب، وإهانة لنا، وإهانة للحب نفسه؛ لذلك نكون حذرين قليلاً عندما نتحدث عن الحب، لأننا بالطبع لا نريد أن يستغلنا الناس من خلال الطريقة التي نحب بها الآخرين.
ليس أسوأ من أن يدب الفساد إلى أفضل الأشياء، فالحب أفضل جانب من جوانب حياتنا وبإمكانه أن يتغلغل في وجودنا بأكمله، إلا أنه أسوأ ما في الوجود إذا أسيء فهمه أو أُستُعمل على غير ما ينبغي. وينطبق الأمر ذاته على الإبداع.
الكاتب: إريك كابلان منتج وكاتب تلفزيوني حائز على جائزة إيمي. من أعماله “نظرية الانفجار العظيم” و “فيوتشراما”، وهو مؤلف كتاب “هل سانتا موجود: تحقيق فلسفي”.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
Five Theses on Creativity
Eric Kaplan
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”