تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
هذه المقالة هي نسخة مختصرة من الحجج التي أوردتُها في كتابي «العقل والكون»: لماذا يبدو التصوُّر المادي الدارويني الجديد للطبيعة خاطئًا بالكلية تقريبًا– والذي نَشَرته دار نشر جامعة أكسفورد العام الماضي. وقد لاقى هذا الكتاب منذ صدوره الكثير من الاهتمام النقدي؛ وهو أمر ليس بمستغرب نظرًا لمدى رسوخ النظرة العالمية التي يتحدّاها الكتاب. لذا، بدا لي من المفيد تقديم ملخصٍ وجيزٍ للحجة الرئيسة التي يقوم عليها.
اعتمدت الثورة العلمية في القرن السابع عشر، والتي أدت إلى هذا التقدم الفريد في فهم الطبيعة، على خطوة محدَّدة وحاسمة في انطلاقتها، وهي اعتمادها على استبعاد دراسة كل شيء غير مادي في هذا العالم، كالوعي، أو المعنى، أو القصد، أو الغرض. وبمساعدة الرياضيات تطورت العلوم الفيزيائية في وصف المكونات المادية للكون، وكذا القوانين المكانية والزمانية التي تحكُم سلوكها.
ولقد أدت التطورات الحديثة في مجال البيولوجيا الجزيئية إلى تحسين فهمنا للأساس الفيزيائي والكيميائي للحياة؛ فنحن -بوصفنا كائنات مادية- جزء من هذا الكون ونتألف من العناصر الأساسية نفسها التي تكوِّن بقية الأجزاء. وعليه، فمن المنطقي الاعتقاد بأن العلوم الفيزيائية يمكن أن تُقدِّم لنا تفسيرًا نظريًّا للجوانب العقلية في واقعنا؛ وذلك لأن حياتنا العقلية تعتمد اعتمادًا واضحًا على وجودنا ككائنات مادية، لا سيما على عمل أنظمتنا العصبية المركزية. وكأن الفيزياء بهذا التصوُّر يمكن أن تطمح أخيرًا إلى تقديم نفسها بوصفها ـ”نظرية تفسِّر كل شيء” (theory of everything).
ومع ذلك، فإني أعتقد أن هذا الاحتمال مستبعَد وفقًا للشروط التي حدَّدَت معالم العلوم الفيزيائية منذ البداية. صحيح أنه يمكن للعلوم الفيزيائية أن تصف الكائنات الحية التي تشبهنا كأجزاء من النظام الزماني المكاني المادي؛ أي بنيتنا وسلوكنا في المكان والزمان، لكنها لا تستطيع وصف الخبرات الذاتية لهذه الكائنات أو الكيفيات التي يتبدى لهم العالم على نحوها بوجهات نظر خاصة مختلفة. قد يكون هناك وصف مادي بحت للعمليات الفيسيولوجية العصبية التي تؤدي إلى تجربة ما، أو لسلوك فيزيائي مرتبط بها، لكن مثل هذا الوصف، مهما كان كاملًا، سيتجاهل الجوهر الذاتي للخبرة، أي وجهة نظرها نحو موضوعها، والتي بدونها لن تكون تجربة واعية على الإطلاق.
لذا، ورغم نجاحها الاستثنائي في مجالها الخاص، فإن العلوم الفيزيائية تغفل -بالضرورة- في تفسيرها جانبًا مهمًّا من جوانب الطبيعة. هذا علاوة على أنه لا يمكن فهم طبيعة هذه الكائنات فهمًا كاملًا من خلال العلوم الفيزيائية وحدها؛ نظرًا لأن العقل نفسه ينشأ ويتطور من خلال نمو الكائنات الحية الحيوانية وتطورها. أخيرًا، نظرًا لأن عملية التطور البيولوجي طويلة الأمد مسؤولة عن وجود الكائنات الواعية، ونظرًا لأن العملية الفيزيائية البحتة لا يمكن أن تفسر وجود تلك الكائنات، فإنه يترتب على ذلك أن التطوُّر البيولوجي يجب أن يكون أكثر من مجرد عملية فيزيائية، وأن نظرية التطور يجب أن تصبح أكثر من مجرد نظرية فيزيائية إذا كان لها أن تفسِّر وجود الحياة الواعية.
ومن أجل تقديم فهم أكثر شمولًا للطبيعة، يجب أن تتسع النظرة العلمية لتحوي النظريات التي تُفسر ظهور الظواهر العقلية في الكون بالإضافة إلى المنظورات الذاتية التي تحدُث فيها؛ أي عليها أن تقدم لنا نظريات من نوع مختلف تمامًا عمَّا قُدِّمَ حتى الآن.
وهناك طريقتان للرد على هذا الاستنتاج، ولكل واحدة منهما صيغتان. أما الطريقة الأول، فتتمثل في إنكار فكرة أن العقل (الحالات الذهنية) مكونٌ أساسي من مكونات الواقع، وتكون إما (1) بتأكيد إمكانية تحديده ببعض الجوانب الفيزيائية كأنماط السلوك أو أنماط النشاط العصبي، وإما (2) بإنكار كونه جزءًا من الواقع على اعتبار أنه نوع من أنواع الوهم (ولكن، وهم لمن؟!). وأما الرد الثاني، فيكون بإنكار حاجة العمليات العقلية إلى تفسير علمي عبر التصورات الحديثة للنظام الطبيعي، وذلك لأننا بمقدورنا إما (3) أن نعتبره مجرد صدفة أو حادث أو خاصية إضافية غير مُفسرَة لبعض الكائنات المادية، وإما (4) بأن ندعي أن له تفسيرًا، ولكنه تفسير لا ينتمي إلى العلم، بل إلى علم اللاهوت، أي إن يد الله قد أضافت العقل إلى العالم المادي في سياق عملية التطور.
هناك مؤيدون لكل صيغة من الصيغ الأربع للردود، وأعتقد أن الشعبية الواسعة بين الفلاسفة والعلماء من نصيب الصيغة الأولى، والتي تمثل وجهة نظر اختزالية نفسية فيزيائية؛ فلا تعود شعبيتها إلى المكانة العظيمة للعلوم الفيزيائية فحسب، بل إلى الشعور بأنها أفضل دفاع ضد فكرة التدخل الإلهي المُتضمنة في الرد بالصيغة الرابعة. ومع ذلك، فليس من الضروري قبول الصيغة الرابعة لمن لا يعتقد بصحة الصيغتين الأوليين ولا يرى باحتمال صحة الصيغة الثالثة أيضًا؛ وذلك لأن الفهم العلمي للطبيعة يجب ألا يقتصر على النظرية الفيزيائية للنظام الزماني المكاني المادي. وعليه، من المنطقي البحث عن وجهة نظر أكثر شمولًا تأخذ في اعتبارها العمليات العقلية متمسِّكة في الوقت نفسه بعلميَّتها؛ بأن تبقى نظرية داخل حدود النظام المتأصل في الطبيعة.
أعتقدُ أن فكرتي الأخيرة هي الجواب الأكثر احتمالًا. فرغم أن بعض وجهات النظر الدينية تتماشى في استنتاجاتها مع الحقائق العلمية المُعترف بها حاليًّا، فإني أرفضها وأنجذبُ إلى البديل التي تقدمه العلوم الطبيعية، وإن حمل بعض السمات غير المادية. وأنا أعتقد أن العقل ليس حادثًا لا يمكن تفسيره أو هدية إلهية شاذة، بل هو جانب أساسي من جوانب الطبيعة، ولن نستطيع فهمه إلا إذا قفزنا فوق أسوار العقيدة المتشددة للعلمية المعاصرة. وهنا أود أن أضيف كذلك أن بعض المؤمنين أنفسهم قد يستسيغون هذا المنحى؛ لأنهم في نهاية الأمر يمكنهم القول بأن الله هو مُسبِّب هذا النظام الطبيعي الأشمل، كما يعتقدون حاليًّا بأنه المُسبِّب والمحرِّك لقوانين الفيزياء.
الكاتب: أستاذ جامعي في قسم الفلسفة وكلية الحقوق في جامعة نيويورك. مؤلف كُتب عديدة من ضمنها «أسئلة فانية» و «المشهد من اللامكان» و «الكلمة الأخيرة».
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
“The Core of “Mind and Cosmos
Thomas Nagel
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”