تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
نشرتُ في السنة الماضية كتابًا عن الفلسفة الفرنسية منذ ١٩٦٠م تضمن فصلًا بعنوان: “أيًّا يكن. ماذا حدث للوجودية؟” يحيل العنوان إلى السقوط السريع وشبه الكامل للوجودية من كونها مُفضّلة لدى المفكرين الفرنسيين منذ ستينيات القرن العشرين على الأقل. حلّل ذلك الفصل هذا السقوط وتساءل عمَّا إذا كان سقوطًا حاسمًا كما يبدو، وانتهى الفصل بمقترح مفاده أنَّ الموجة الوجودية ربما كان لها تأثير أطول مدى مما تبدو عليه الأمور.
ذكرتني مقالة آدم قوبنك Adam Gopnik الأخيرة في مجلة النيويوركر عن ألبرت كامو وعلاقته مع جان بول سارتر بأنَّ السؤال في عنوان الفصل الذي كتبته يبدو هامشيًّا من منظور ثقافي أوسع. أيًّا كانت تغيرات قيمة العلاقة بين سارتر وكامو في ميزان الثقافة النخبوية، إلا أنَّ وجوديتهم -والأمر يشمل السابقين عليهم في القرن التاسع عشر مثل كيركقارد ونيتشه- لا تزال توقد الاهتمام ضمن الجماعة الكبرى داخل المجتمع المتعلم. هذه النقطة تتوضح أكثر بردود الفعل القوية مع ضد سارتر وكامو أو ضدهما، وفي التعليقات على مقالة آندي مارتن Andy Martin الأخير هنا في ذا ستون. ولا ريب أنَّ العلامة الأقوى على هذا الاهتمام هي الشعبية الدائمة للمحاضرات الجامعية عن الفلسفة الوجودية والأدب الوجودي.
يكشف قوبنك عن السبب خلف هذا الانجذاب المستمر. لن أقترح مقالته على أنها عرض تقني للفكر الوجودي. على سبيل المثال كتاب سارتر العمدة: “الوجود والعدم” مثلًا ليس مجهودًا في سبيل “الجمع بين الوجودية والماركسية”؛ فهذا الأمر حدث بشكل متأخر في كتابه: “نقد العقل الجدلي”. ثم إنَّ سارتر لم يفكّر في دعمه للثورة الماركسية من خلال نسخة إستطيقية لرهان باسكال. ولكنَّ قوبنك لديه بالفعل ردود على مثل هذه الاعتراضات الفلسفية. الاهتمام الشعبي بالوجودية يكمن في حسها الدرامي أكثر من تحليلاتها الحذرة وأكثر من حججها. وكما يصرخ قوبنك: “فلاسفة؟ إنهم [سارتر وكامو] ممثلون يحملون رؤية كانوا يعرضونها على مسرح الحياة”.
هذا لا يعني القول بأنَّ الوجوديين – سارتر وسيمون ديبوفوار خاصة- لم يكونوا مفكرين جادين. ولكن إذا قورنوا بأكثر الفلاسفة، فإنهم يعملون مدفوعين بحس مستمر بالوجود الإنساني على أنه دراما لا مفرّ منها. هذا الأمر مدفوع جزئيًّا بالمخاطر المتصاعدة للحرب والاحتلال حيث انبثقت أعمالهم الأساسية. دعونا نتذكر مثالَ سارتر عن الطالب الذي كان يحاول أن يقرر ويختار بين أن يهجر أمه وبين أن يلتحق بالجيش الفرنسي الحر. سيعتمد قرار الطالب – من منظور تقليدي- على هل يحب أمه أم بلده أكثر. ولكنَّ سارتر أصرّ على القرار أن هذا ذاته سيخلق الحب الأكبر الذي يمكن أن يستحضره الطالب لاحقًا لتسويغ هذا القرار.
بل إنَّ الحرب دخلت في التحليل الأنطولوجي الشائك في كتاب: “الوجود والعدم”. فلمَّا كان سارتر يجادل من أجل الحرية المطلقة لوعي الإنسان حتى في وجه المعيقات الشديدة، فقد كان بلا شك يفكّر في أعضاء المقاومة الذين قبض عليهم جهاز الجيستابو مصرّا على أننا أحرار حتى تحت التعذيب. أولئك الذين تخلّوا عن رفاقهم أو خانوهم، سيظلون يشعرون بالذنب طيلة حياتهم؛ لأنهم يعلمون أنه في لحظة الخيانة تلك كان بإمكانهم الصبر أكثر ولو دقيقة.
ولكنَّ الوجودية مرتبطة أيضًا بدراما الحياة اليومية. دراسة سارتر للـ “إيمان السيء” (خداع الذات) مدفوعة بمقولات مثيرة، مثل: مقولة: “المرأة الممزقة بين رغبتها السيكولوجية في اهتمام الرجل وبين عدم رغبتها في العلاقة الجنسية معه”. المرأة التي تسمح له بالتربيت عليها بينما تفكّر في ذاتها على أنها وعي خالص دون أي ارتباط حقيقي مع الجسد الذي يربت عليه ذلك الرجل. وبشكل مقارب يصف سارتر نادلَ المقهى شديد التحمُّس الذي ينوي بوعي ذاتي أن يقوم بكل شيء بطريقة سليمة، بحيث يصل به الأمر إلى أن يكون مُدّعيًا بالمقدار ذاته الذي يكون به نادلًا حقيقيًّا.
الدراما مفتوحة دائمًا على التحولات والانحرافات، وأمثلة سارتر مفتوحة على النقد؛ بسبب تجاهل التعقيدات والغموض في سبيل الحصول على تأثير حيوي. عندما واجهه أحد الصحفيين في فترة متأخرة بفقرة تعبّر عن مواقفه الأولى الصادمة عن الحرية تحت التعذيب، أجاب سارتر بأنَّ اللافت أنه عندما كتب تلك الرؤى كان يعتقد صحتها حقًّا. بينما لاحظ النقد النسوي الموقف الذكوري الواضح في توصيفات سارتر لما يفترض أن يكون “الواقع الإنساني”.
يمكن للتركيز على الدراما أن يحمل معه إيجابيات الربط الذي لا يمكن تفاديه بين حياة الفيلسوف وفلسفته وسلبيات هذا الربط أيضًا. ركّز قوبنك تركيزا صحيحًا كيف أنَّ الخلافات النظرية بين سارتر وكامو حول الفلسفة السياسية كانت قد انعكست في التاريخ الحزين لصداقتهم المفقودة. هذه الدراما الشخصية توضح الفروق الفلسفية بينهم، والعكس صحيح. وبشكل مقارب فإنه من العدل النظر إلى فلسفة سارتر وبوفوار حول الحرية في ضوء اتفاقهم الشهير للحفاظ على “حب أساسي” مع السماح لأي عدد من “الحب المشروط”. إلا أنَّ الانشغال الزائد بالتفاصيل الفوضوية والمبهمة في حياة ما يمكن أن يغرينا لعبور الخط بين التبصّرات الفلسفية ودغدغة النميمة.
وأيًّا كان خطر الدراما الوجودية، فإنَّها أبقت على عدد من أعمق الأسئلة الفلسفية الحيّة في الثقافة العامة المنتشرة، وقدمت للطلاب مداخل مباشرة ومهمة لتلك الأسئلة. دائمًا ما يعجبني الارتعاش في قاعة المحاضرة حين يدرك الطلاب أنَّ هناك معنى ما يكون سارتر فيه مصيبًا، فيمكنهم الآن أن ينهضوا، ويغادروا قاعة المحاضرات، ويتركوا الجامعة، ويعيشوا كما يعيش المتشردون على الشاطئ في الأجواء الدافئة. ولكن من المثير للإعجاب أيضًا أن تنظر إليهم، وهم لا يزالون في حالة إثارة بعد ما قرؤوا لسارتر ووجوديين آخرين مثل كامو وميرلوبونتي، ويتأملون في سبب أنَّ هذا المعنى للحرية الراديكالية بعيد جدًّا عن قصة حياتهم الكاملة باعتبارهم كائنات أخلاقية. هذه التركيبة من الدراما والتأمل هي سبب أنَّ الوجودية ستبقى دائمًا معنا.
الكاتب: أستاذ الفلسفة في جامعة نوتردام، ومحرر في مراجعات نوتردام الفلسفية. وهو مؤلف الكتاب الأحدث “التفكير في المستحيل: الفلسفة الفرنسية منذ عام 1960″؛ وهو يكتب بانتظام في ذا ستون.
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
The Drama of Existentialism
Gary Gutting
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”