تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٦ مايو ٢٠١٩.
القوة تكمن في تلاقي طاقة الطبيعة وطاقة البشر، خيرًا كان ذلك أو شرًّا.
ألف الكاتب الأمريكي راسل هوبان (Russel Hoban) الذي وافته المنيّة عام ٢٠١١م عددًا من الروايات الأصلية المذهلة طيلة حياته، ولعل أكثر رواياته إثارة للإعجاب رواية ريدلي ووكر (Riddley Walker) التي نشرت في عام ١٩٨٠م.
تنتمي هذه الرواية لأدب المدينة الفاسدة (الدستوبيا) الذي شاع إلى حدٍ ما في العقود الأخيرة. وما يميز هذه الرواية عن غيرها لغتها الإنجليزية كتلك التي يتحدث بها من لم يسبق لهم أن رأوا كلمات أو أسماء أماكن مكتوبة من قبل، لغة بين أطلال مصطلحات علمية شبه منسية، وأدب شعبي، وتاريخ مشوّه.
في عالم الكارثة “ما بعد نهاية العالم” الذي صنعه هوبان، تخلق الكلمات موجات من المعاني يتردد صداها في قلب اللغة والفكر من خلال جو مشحون بالصدمات الثقافية والخسارة. يعيش الناس في ظلال أسطورة يوسا (Eusa)، وهي شخصية على غرار القديس يوستاس St. Eustace الجنرال الروماني الذي تقول الأسطورة إنه اعتنق المسيحية بعد رؤية صورة المسيح بين قرني أيل ضخم.
في هذه الأسطورة، يشجع سيء النية السيد كليفر يوسا – الذي اشتق اسمه عمْدًا من اسم الولايات المتحدة الأمريكية U.S.A- للبحث عن الأدوم (Addom) الذي يجري في كثافة الغاب (wud)، مستحضرة (would) التي تشير إلى رغبة الإنسان وإرادته. وعندما يجد يوسا الأودم (الذي يرمز للذرة المنشطرة atom، وكذا لابن آدم المنقسم والمثخن بجراحه Adam)، فإنه يمزقه إربًا حتى يدمر كل شيء في العالم إثر ذلك في انفجار نووي.
في معمعة هذه الأحداث، يصبح ريدلي ووكر -راوي الرواية وبطلها- أداة يتأمل بها المؤلف هوبان القوى التي تحكم الطبيعة والحياة البشرية على حد سواء.
بينما لا يزال ريدلي مجرد صبي مراهق يعاني من موت والده المفاجئ، يعثر على خطة سرية لإعادة صنع الأسلحة التي دمرت العالم، وذات مرة وجد نفسه بين أنقاض كاتدرائية كانتربري التي أضحت “أغصانا حجرية تحت سماء حجرية”.
هنالك، يقف ريدلي مذهولًا لا ينبس ببنت شفة، عاجزًا عن الكلام، غير مدرك لما يراه ويشعر به، لكنَّ هذا ما جعله يؤمن بأنَّ ما يواجهه هو القوة، القوة الحية للغابة الطبيعية التي تردد أصداءها الأغصانُ الحجرية وأشكالها. حينها يدرك ريدلي أنَّه لإحداث مثل هذا التأثير يجب أن يكون بناة الكاتدرائية قد وضعوا أنفسهم حيث ينبغي في تلك الرقصة العظيمة المتجذرة في حياة العالم.
هنا يشعر ريدلي بضرورة التخلي عن فكرة مقارعة القوة بالقوة مدركًا أنَّ “القوة الوحيدة هي اللاقوة”، في رسالة مفادها أنَّ الوصول للطاقة الحية بغية فرض السيطرة على العالم هو بداية عملية التدمير التي ستبلغ ذروتها في فناء العالم في حرب نووية.
يدرك ريدلي أنَّ خطر الكارثة لا بد أنه كان -ولا يزال- موجودًا منذ المحاولات الأولى للإنسان لإيجاد النظام وفرضه على العالم، حتى كانتربري منذ الوهلة الأولى لتأسيسها، حملت في طياتها نزعة للفساد، “فما إن وقفت تلك الشجرة الصخرية الأولى شاخصة، حتى علقت الخطيئة في أغصانها”.
ومع ذلك، لا يزال للبشر قدرة على التعايش مع القوة التي تحيط بهم، تعتمد هذه القدرة بالكلية على استعدادهم لتخفيف قبضتهم على العالم الذي تهشمه وتمزقه قوة إمساكهم به. ولا يمكنهم إحراز اندماج الطاقة البشرية والطبيعية وخلق جمال عميق التناغم إلا إذا خففوا قبضتهم على العالم.
يمكن تفسيرها بشتى الطرق عدا كونها استجابة سلبية للعالم. تتطلب منا أن نركز اهتمامنا على تدفق الحياة ونستمع إليها لنكتشف الطاقة التي تجمعنا ولا تفرقنا. هذه هي قوة البشر، عندما توضع حيث ينبغي يكون تواؤم مع الطبيعة لا ينزع إلى التدمير، بل يرمي وراءه تلك المعارك العنيفة لفرض السيطرة والتحكم.
عادة ما نفكر في القوة في سياق احتدام التنافس والفضاء المتنازع، ونعتبرها مجالًا يتيح لنا تحقيق مشاريعنا من دون إعاقة أي عوامل أخرى. لكنَّ الكاتب هوبان يوجهنا -عوضًا عن ذلك- إلى تصور القوة في التقارب والمواءمة، وليس تعبيرًا عن القدرات الفردية على التنافس المميت.
للتوضيح، أنا لا أتحدث عن تشجيع الضعفاء على هجر الأمل في امتلاك قدر من السيطرة على حياتهم، إنَّ الأمل الذي يراود الجميع في القدرة على التعبير عن أنفسهم أمر ضروري لمجتمع صحي. لكنَّ مثل هذا الأمل خداع حين يكون مجرد الرغبة في جعل أنماط السيطرة الحالية لصالحنا.
السياسة العالمية اليوم تقع في شرك المعادلات الصفرية، فالتهديد المحتمل الهائل لأزمة المناخ لا يقل رعبًا عن التهديد النووي الموصوف في رواية ريدلي ووكر. لقد حان الوقت لكي نعيد النظر في توقعاتنا للنمو الاقتصادي غير المحدود، فهذا الخيال سيجردنا في نهاية المطاف من كل قوة لإدارة بيئتنا.
يتوجب علينا أن نتراجع عن اللغة المسعورة السائدة الآن في السياسة التي أصبحت فيها المعارضة مطلقة على نحو متزايد، والتي لا مجال فيها للتسويات. علينا أن نبحث عن طرق لتمكين أضعف الفئات بيننا ومنحهم فرصة الإدلاء بآرائهم، وأن نقول وداعًا للعالم الذي تحكمه نخب فوق المساءلة، ولا بد من إنشاء وسائل تعاون عالمية فعّالة للوقوف في وجه الأزمات التي لا تعترف بالحدود القومية كتغيّر المناخ، وتفشي الأمراض، والهجرة القسرية التي تسببها الأمراض، والكوارث البيئية، والحروب الأهلية الدموية.
الوقت ليس في صالحنا. ما لم نُعِدِ النظر في القوة التي نسعى إليها ونتصورها قوة تضامن ورحمة، فإنَّ مستقبلنا سيغدو كالأرض اليباب في فانتازيا راسل هوبان.
الكاتب: أسقف سابق لكتدرائية كانتربري.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
A Lesson for (and From) a Dystopian World
Rowan Williams
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”