تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
أقدم تدريبًا في الفلسفة والمُلاكمة على حدٍ سواء. وقد تذمر بعض زملائي، على مدى سنوات، حيال تناقض عملي المتمثل في بناء العقول وغرس الخطاب العقلاني، وفي نفس الوقت التدريب على العنف والمساعدة على إتلاف خلايا المخ. والحق يقُال، ففي رأيي أن هؤلاء الفلاسفة المتذمرين عليهم أن يعيدوا النظر فيما يُعتبر عنفًا في الواقع. فأنا أفضل أن أتلقي لكمة في الأنف في أي يوم على أن أتعرض لإحدى الهجمات التي شهدتها في ندوات الفلسفة؛ وعلى أي حال، فإن موقفي إيجابي أكثر إزاء ضم الملاكمة إلى منهجي الدراسي الذي يهدف إلى تعليم التعاطف.
كانت الفلسفة الغربية غير مهتمة بالجسد، حتى قبل ثنائية ديكارت الشهيرة حول الجسم والعقل. وحتى أفلاطون الذي نافس في مباريات المصارعة ومثله معظم الحكماء الذين تبعوه، علَّمنا أن نعتبر أيدينا وأرجلنا مجرد حوامل لعقولنا. يقدم أفلاطون، في مُحاورة ” فايدو” أستاذه سقراط على فراش الموت وكأنه السيد سبوك الذي يتوق إلى التحرر من أغلال الجسد حتى يتمكن حقًا من التفكير. إن الجسد، وفقًا لذلك، يثير الرغبات التي تعصِي على العقل، وتعيق قدرتنا على التفكير بوضوح.
إن بحث أغلب الفلسفات الشرقية عن الحكمة، على النقيض من الفلسفات الغربية، هو بحث أكثر شمولية. فهي لا تنظر للعقل بمعزل عن الجسد، وتعتبر الجسد بمثابة عربة نحو التنوير بدلاً من كونه عائقًا أمامه. إن الموقف الغافل تجاه الجسد الذي يسود للغاية في الغرب يعمينا عن حقائق عميقة يُمكن أن يقدمها لنا الجلد والعضلات والتنفس كاللكمة.
قد تفتح التدريبات الجسدية أعيننا على حقائق مختلفة، إلا أن هناك قدر كبير من الحكمة التي يُمكن اكتسابها في الحلبة. أكد سقراط، بالطبع، أن الحياة التي لا تُختبر لا تستحق أن تُعاش، وأن معرفة الذات لها أهمية عظمى. ثمة أمر يقيني: وهو أن الملاكمة من الممكن أن تجبر الإنسان على استبيان صفات الذات بشكلٍ سريع، والتحقق من جرأته فيما يتعلق بما يمكنه تحمله والمخاطرة به. وكما قالت جويس كارول أوتس في ملاحظاتها في كتابها الكلاسيكي الصغير ” عن الملاكمة”:
“يتواجد الملاكمون ليعيشوا تجربة مطلقة، محاسبة علنية لحدود كينونتهم الخارجية؛ فسيدركون، كما يدرك القليل منا عن نفسه، مدى القوة الجسدية والنفسية التي يمتلكونها، ومدى قدرتهم الضئيلة أو الكبيرة.”
كان الفيلسوف الألماني جورج فلهلم فريدريش هيغل (1770-1831)، الذي لم يرتد قفازات الملاكمة في حياته، ليؤيد على الأقل دراسة الملاكمة. إذ يرى هيغل في استعارته الشهيرة عن السيد والعبد [1] أننا نرتقي إلى مستوى أعلى من الحرية والوعي أثناء القتال الدامي مع الآخر، وبشكلٍ جوهري أثناء استعدادنا للتضحية بأنفسنا. لو صحّ ما قاله هيغل، فإن الصورة السامية للمحارب في مجتمعنا، تتعلق بحقيقة استعداده للتضحية بحياته، حيث أنه قد تخلص من القبضة “الكونية” الخانقة لقلق الموت. يُمكن النظر للملاكمة على أنها نسخة مُنمَّطة من مثال هيغل عن القتال، وبالتالي فإنها تقدم احتمالات جديدة للحرية والفردية.
إن التدريب فيما اصطُلِح أن يُطلَق عليه “الفن الرجولي” يجعل الجميع يشعرون بالراحة أكثر فيما يتعلق بأنفسهم، ويصبحون أقل دفاعية وربما تقل عدوانيتهم، وذلك عند النظر للأمر من الجانب النفساني الخالص. إن طريقتنا في التكيف مع مشاعر الخوف والغضب البدائية تحدد وبدرجة كبيرة نوع الأشخاص الذين سنصبح عليهم. حين أستعين بأرسطو، سيكون لدي الكثير لأقوله عن الخوف في لحظتي هذه، لكن في رأيي لا يستحق الأمر أن يكون المرء بحجم فرويد كي يدرك أن كثيرًا من الناس محبوسون في قنينة غضبهم الخاصة. إن التعبيرات عن الغضب في مجتمعنا مُحرَّمة أكثر من الاندفاعات الجنسية؛ ومع أن صناعة الترفيه لدينا تتأثر بذلك بشكل بالغ، فالمزيد من الغضب لا يزال بحاجة إلى التنفيس. لقد دربت العديد من الملاكمات الإناث، اللاتي وجدن في الملاكمة تحريرًا فائقًا حين تعلمن أن بمقدورهن تسديد الضربات وتوجيه اللكمات والتعبير عن الغضب؛ وعدم موت أحد جراء ذلك.
ولنكن واضحين، إن الحياة مليئة بالضربات، وتتطلب القوة والمرونة. هناك بضعة أماكن أفضل من الحلبة لنتلقى فيها دروسًا مكثفة عن حاجتنا الشديدة لامتصاص الضربات والمضي قدمًا، و “النهوض من على أرضية الحلبة” و “التكيف مع الظروف المعاكسة” وإنه لمن العجيب قليلاً أن الملاكمة، أكثر من أية رياضة أخرى، قد مثلت مجازًا للحياة، وبعيدًا عن إمكانيات الإشباع الذاتي من الملاكمة، فإن بمقدورها أيضًا أن تساهم في حياتنا الأخلاقية.
حاجج أرسطو في كتابه ” الأخلاق النيقوماخية” بأن الغاية النهائية للبشر هي ” يوديمونيا eudaimonia” أي الحياة الطيبة، أو كما تُترجم عادةً بالسعادة. يعلن أرسطو في عبارة خالدة: ” إن سعادة الإنسان (اليوديمونيا) eudaimonia هي الممارسة النشطة لملكات نفسه بما يتوافق مع الكمال أو الفضيلة؛ أو في حالة العديد من كمالات البشر أو فضائلهم بما يتوافق مع الأفضل والأمثل بين هذه الكمالات أو الفضائل.” [2]
يقر أرسطو، بعد صفحات قليلة، بوجود نوعين من الفضيلة أو الكمال في الواقع، وهي الفكرية والأخلاقية[3]. يكمن الكمال الفكري في التعلم البسيط للكتب أو الذكاء النظري. ويعترف أرسطو، على خلاف أستاذه أفلاطون وأستاذ أستاذه سقراط، أن الفرد بإمكانه أن يعلم الكثير عن الخير، ومع ذلك لا يؤدي به ذلك نحو حياة سعيدة. يقول أرسطو: “فيما يخص الكمال، فإنه لا يكفي أن نعلمه، وإنما يجب أن نحاول حيازته وممارسته.” [4]
يقدم أرسطو قائمة بالفضائل الأخلاقية، التي تتضمن على سبيل المثال لا الحصر: الاعتدال، والعدالة، والفخر، والصداقة، والصدق. إنني ألزم طلابي في كل فصل دراسي أثناء تدريسي لمادة الأخلاق أن يضعوا قائمتهم الخاصة بالفضائل الأخلاقية. أسألهم: “ماهي الصفات التي ينبغي في رأيكم توفرها في شخصية المرء؟” ومن الصفات التي يكتبها الطلاب على السبورة دائمًا: التسامح، والطيبة، واحترام النفس، والإبداع؛ أما الشجاعة فلا تحظى بالموافقة إلا بالتحفيز، على الرغم من أنها تبدو ضرورية بالتأكيد لقيادتنا نحو حياة أخلاقية. إذا لم تتوفر لديك الشجاعة، رغم كل شيء، فلن تكون قادرًا على الالتزام بأحكامك الأخلاقية؛ إذ غالبًا ما يتطلب فعل ما هو صائب أن تسير عكس مصالحك الآنية أو حتى بعيدة المدى. وكثيرًا ما ينطوي ذلك على تضحيات لا نهتم بها كثيرًا، كالتضحية أحيانًا بالصداقات أو الوظائف؛ أو أحيانًا في حالة سقراط التضحية بالحياة نفسها؛ وهذه التضحيات مستحيلة من دون التحلي بالشجاعة.
إن الشجاعة، وفقًا لأرسطو، هي الوسط بين التهور والجبن [5]. أي تقع بين القليل من الخوف والكثير منه. أدرك أرسطو أنه كي نتكمن من الوصول لهذا الاعتدال، فإننا بحاجة إلى التدريب على التعامل مع المشاعر والخيارات المرتبطة بهذه الفضيلة. يؤدي ذلك إلى بعض التذبذب عند التعامل مع جرعات معقولة من الخوف، وذلك بقدر ما تتطور عزيمتنا. يميل الكثيرون منا، على الرغم من ذلك، حتى في نهجنا التعليمي إلى الاعتقاد بأن كل ما يسبب القشعريرة صادم بمثل هذا القدر. فلنأخذ في الاعتبار، على سبيل المثال، توقف رياضة الدودج بول في المدارس العامة؛ فقد حُظِرت جراء الذعر الذي تسببت فيه الكرات الحمراء لدى بعض الأطفال وبسبب كونها تؤذي كبرياء الأطفال لا سيما مَن ترتطم بهم الكرة أولاً وتخرجهم من اللعبة. لكن كيف يفترض بنا أن نتعلم الصمود أمام مخاوفنا مالم نحصل مطلقًا على تدريب تحت إشراف الأساتذة في التعامل مع القلق الشديد؟ إن شبابنا، بالطبع، معتادون على ألعاب الفيديو العدوانية والمريعة في كثيرٍ من الأحيان التي تحاكي العنف الجسدي والدفاع عن النفس؛ لكن ذلك بالتأكيد من دون أيٍ من العواقب والمخاطر المتأتية من الملاكمة الحقيقية.
تمنحنا الملاكمة تدريبًا إزاء مخاوفنا، لا سيما حين يتزامن ذلك مع إشراف منتبه مناسب بتدرج يسهل التحكم به. ينطلق الملاكمون عادةً، في جلسات الملاكمة القصيرة الأولى، بوضعية “الكر والفر”؛ فعندما يُقرع الجرس، ينسى المستجدون كل ما تعلموه ويمضون بعيدًا فحسب. وإذا تحملوا هذا الأمر لبضعة أشهر، فستتلاشى مخاوفهم، وسيتمكنون من البدء في رؤية ما بداخل الحلبة بمعزل عن مشاعر الخوف التي أعمتهم في السابق؛ والأهم من ذلك، سيصبحون أكثر ارتياحًا مع الشعور بالخوف. إن الخوف شعور مؤلم، لكن يمكن مواجهته، وبمرور الوقت سيكون بمقدور الملاكم أن يتعلم ألا يُصاب بالذعر من اللكمات التي ستعترض طريقه.
صحيحٌ أن أرسطو قادر على تعريف الشجاعة، لكن دراسة الملاكمة والتدرب عليها لا تمكناننا من إدراك الشجاعة فحسب، وإنما من “امتلاكها واستخدامها”. إذ يقل احتمال استسلامنا للخوف عندما ندخل إلى الحلبة ونحن نحمل مخاوفنا، لأن الأمر الصائب يتطلب أن نتلقى ضربة. ثمة اختلاف مهم بين الشجاعة الجسدية والشجاعة الأخلاقية بالطبع؛ وأيما كان الأمر، فإن العالم قد شهد الكثير من الوحوش الشجاعة. إن الاستعداد لاحتمال المخاطِر الجسدية ليس كافيًا كي نضمن الاستقامة، ومع ذلك فإن بمقدور هذه الشجاعة الجسدية في اعتقادي أن تساهم بطرق قوية في تطوير الفضيلة الأخلاقية.
الملاحظات
[1] جورج فريدريش هيغل. فينمنولوجيا الروح. الفصل الرابع .
[2] أرسطو. الأخلاق النيقوماخية. الكتاب الأول. الفصل السابع .
[3] المرجع السابق. الكتاب الأول. الفصل الثالث عشر .
[4] المرجع السابق. الكتاب العاشر. الفصل التاسع .
[5]المرجع السابق. الكتاب الثالث. الفصل السابع .
الكاتب: غوردون مارينو مدرب ملاكمة نشط وأستاذ الفلسفة في كلية سانت أولاف. ويغطي الملاكمة لجريدة وول ستريت جورنال، وهو محرر كتاب “الأخلاق: الكتابات الأساسية” (كلاسيكسات المكتبة الحديثة، 2010)، ويعكف على تأليف كتاب حول الملاكمة والفلسفة.
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
Boxing Lessons
Gordon Marino
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”