مقدمة:
يبدأ الصديق يزيد، بالسرد التاريخي حول طبيعة مفهوم الوجود، والمقولات، لكي ينتهي به الأمر إلى رَدِها، وينتصر لمفهوم آخر وهو الطبيعانية1. في هذه المقالة سوف أُدافع عن الميتافيزيقا النسقيّة، وأزعم أن مفهوميّ الوجود، والحقيقة، ضروريان للفكر الفلسفي؛ بالنسبة للمقولات، فالكثير من الفلسفات الميتافيزيقية، لها مقولات مختلفة وبعضها لا تستخدمها، فهي ليست شرطًا لفهم الوجود. كما أن الجوهر، يمكن القول بهِ من دون المقولات، كما عند التحليلية الميتافيزيقية؛ “الماء سائل شفاف صالح للشُرب” و “الماء ذرتّا هيدروجين وذرة أوكسجين”، فالقضية الأولى محمولها ليس جوهرًا لموضوعها، أما الثانية “ذرتّا هيدروجين وذرة أوكسجين” فهي جوهر “الماء”، وهذا المشهور في البحث المعاصر. المقولات هي أمور زائدة، أشبه بالقالب المساعد للفلسفة، في تحرير الوجود؛ والتي يمكن الاستغناء عنها. عندما نعود لأحد أشهر شروحات المنطق القديم، نجد باب المقولات ليس داخلًا في المتن المنطقيّ، بل خارجه؛ بما أنه فرعي. المقولات ليست من أصول المنطق أو أصول الفلسفة؛ بل من فروعِها، لذلك وقع الخلاف في بعض تفاصيلها، من زيادة ونقصان.
“المقولات العشرة هي الأجناس العشرة التي ظفر بها الفلاسفة وهي أجناس عالية تحتها الأجناس، لأن الحكماء يزعمون انحصار جميع الأجناس في هذه العشرة وليس لهم برهان على ذلك إنما عمدتهم الاستقراء، ولعله استقراء الناقص”2
مفهوم الوجود كأصل ليس بمُعضل، لأن كل الفلسفات، لها منظور مختلف حوله؛ فلو كان من المُعضِلاتِ، لأصبحت مُشكلة الوجود واحدة، ولن يكون لها حل؛ والواقع يُثبت حصول الخلاف حول طبيعة الوجود.
ما الوجود؟، وما الجوهر؟:
يتم التعامل مع الوجود كشيء بدهيّ؛ ولكن يمكننا تعريفه، بأن الوجود: هو صفة للموجودات. معرفتنا بوجود الشيء، هو بكونه موجود. سوف أتجنب مناقشة: هل هو عين ذات الموجودات أم زائد عليها أم غير الذات؟؛ لأن هذا الأخير له تفصيل، ويدخل فيه جانب كبير من مبحث الإلهيات. مع أن بعض الفلسفات، ناقشت مفهوم الوجود لأبعد من ذلك، في أصالته، وكونه مُشكك أم لا، وهل هو مشترك معنوي أم لا. أما الجوهر: فهو ماهية الشيء؛ أو من ذاتيات الشيء، كطريقة بعض المعاصرين. مثل: “الذهب عدده الذري 79”. كما أن المنطق ممكنًا من دون الجوهر، فالوضعية المنطقية على سبيل المثال ترفض هذا المفهوم، وعلى رأسهم كارناب؛ بل كواين يرفضه أيضًا، وهو تحليلي، وقد نرى تفاصيل نقاشه مع روث ماركوس3. من خلال هذا السرد، نستنتج أن مفهوم الوجود، لم يكَ يومًا معضلة أو أمر مُشكل؛ فالسرد المختصر، يوضح لنا، أن النقاش حول الوجود، كان واسعًا منذ القِدم، وتعددت الآراء حول طبيعته، رغم أنه يعد جزءًا أساسيًا في الفلسفة، مع ذلك نجد بعض الفلسفات اهتمت بمبحث الوجود بشكلٍ كبير، وبعض الفلسفات اهتمت بالوجود، بشكلٍ أقل. إذ لو أردنا أن نبحث عن المشكلة الحقيقية في الفلسفة، فهي لم تكَ الوجود، أو نظرية المعرفة، أو غيرها. بل المشكلة الحقيقية كانت ومازالت هي الفلسفة نفسها؛ والتي سوف أُفصل فيها أكثر في خاتمة المقالة.
هل مفهوم الوجود ضروريًا أم ممكنًا؟:
في مقالتي الأخيرة مع الوقيان4، جزء من نقاشي معه، هو في كون الوجود إما واجبًا أو لا. يرى الوقيان أن الوجود لابد أن يكون واجبًا؛ أما بالنسبة لي، فأرى وجود الموجودات، ليس كلها واجبة، ولا كلها ممكنة. الإله وجوده واجب، والمخلوقات وجودها ممكن. على هذا التفريق نستطيع أن نتعامل مع الوجود بشكلٍ أدق. نلاحظ أن رغم الخلاف بيني وبين الوقيان حول طبيعة الوجود، بل خِلافنا حول تفاصيل كثيرة، مع ذلك الوجود كان مفهومًا بيننا. لم يكَ المفهوم غامضًا أو مُعقدًا، ولم يُسبب أي إشكالات فلسفية إلا عند الوقيان وأصحاب نظرية الأوصاف المحددة، في أن الموجود لا يُحمل؛ رغم أن هذه المشكلة عندهم هي مشكلة منطقية لا فلسفية -ممكن لها توابع في نظرية المعرفة، لكن في الأصل منطقية-؛ مع ذلك النتائج كانت مختلفة، ولكن مفهوم الوجود كان واضحًا.
هل الوجود فرضية؟:
من خلال العرض السابق، نجد الوجود ليس بفرضية، بل أصلها ثابت، والخلاف في فروعها، وطبيعتها. فلو كانت فرضية، لما تطرق لها أكثر الفلسفات، واتفقوا على مناقشتها، بل يندر أن نجد فلسفة لا تتطرق للوجود؛ وهذا يوضح لنا، أن الوجود ليست مجرد فرضية. الفلسفة الوجودية، قد تتعامل مع الوجود كفرضية، وسبق ناقشت المطيري، في فلسفة الآخرية عنده، وأنها ليست مبنيّة على الحِجاج وسَرد المقدمات، بل مبنيّة على افتراضات مُسبقة لوجود الأشياء، ومن ثم التأمل في هذه الأشياء الموجودة من حولنا5، التي نسيناها أو تجاهلناها، مثل: الضيافة، الآخر، إلخ. التقليد القاري جزء كبير منه، يتعامل مع الوجود بشكلٍ تأمليّ، أما ما بعد الحداثة، فرفضهم للأسس أكثر حِدة، والبديل عندهم هو افتراضات أخرى. الفلسفات القديمة، تتعامل مع الوجود كأساس للفلسفة، لذلك البداية عندهم هو في البحث والنظر والذي يكون من خلال الوجود. كما أن التقليد التحليلي، -كواين وما قبله- يتعامل مع الوجود بحذر وتَخوّف، بعكس كريبكي وما بعده، هم أكثر انفتاحًا، لمبحث الوجود -رغم أن تعاملهم، لا يخلو أيضًا مِن حَذر، بسبب طبيعة تأثرهم بتحليلية كواين وما قبله-. يستحيل أن نتحدث عن الأشياء، بمعزل عن وجودها أو عدم وجودها؛ فلو لم تكَ موجودة، لما تحدثنا عنها، لذلك الوجود تم تأسيسه على أنه تصور بدهيّ، أو أنه النظر في الموجودات، وهو الذي يُثبت وجود الوجود -أيّ وجود الموجودات بما أنها صفة لها-
هل الطبيعانية مبحث وجودي؟:
ينتصر يزيد، لنموذج ميتافيزيقي آخر، وهو الطبيعانية، فالأحداث الفيزيائية عنده منحصرة في العالم -الكون، بما أن نظرته فيزيقية-. بدلًا من مركزية الوجود، وعند التدقيق نجد أن يزيد ينتقل من مركزية إلى مركزية أخرى، من الوجود إلى الطبيعانية -على الفرض أن الطبيعانية، ليست من البحث الوجودي-؛ كما أنه ينتصر لمقولة أخرى، مختلفة عن مقولات الوجود، وهي مقولة الحدث، بتعريفه هو: “مجموع الأحداث الحاصلة في الزمان والمكان”. وعندما نُحلل أيضًا، مقولة الحدث، نجد أنها لا تختلف كثيرة عن مقولتيّ الزمان والمكان عند كانط، ولكن الفرق عند يزيد أنها بعديّة لا قبليّة كما عند كانط. المحصلة أن يزيد انتصر لمركزية أخرى، مستمدة من الطبيعة الفيزيقية -الطبيعانية-، رغم نقده لمركزية الوجود، كما أنه انتصر لمقولات أخرى، مقولة منتزعة من الخارج الفيزيقي -الأحداث- رغم نقده للمقولات القديمة.
ولكن لم نُجِب على سؤال الأساس: هل الطبيعانية هي مبحث وجودي؟. الجواب: نعم. لأن الأحداث الفيزيائية، والطبيعية تحدث في العالم -بالمعنى الفلسفي- أو الكون -بالمعنى الفيزيائي-، وهذه الأحداث هي موجودة، ويدرسها علم الوجود، مثل: هل الزمان والمكان موجودان؟. هل الأحداث الفيزيائية موجودة؟. هل الطبيعانية موجودة في الخارج أم لا؟، وهل هي أصيلة أم اعتبارية؟ إلخ؛ من الأسئلة التي يناقشها علم الوجود.
ما الحقيقة؟:
حتى مفهوم الحقيقة، لها تعريفات ونماذج مختلفة. ولكن أصلب تعريف ونموذج عندي هو: “تطابق ما في الأذهان بما في الأعيان”. فلو لم يكَ الذهب عدده الذري 79؛ فلن يحصل التطابق بما في الخارج، فتكون القضية كاذبة. نلاحظ وجود علاقة بين مقومات الفكر وما في الواقع. يستحيل أن نجد في الواقع شيئين مجموع مع شيئين آخريين، لا ينتجان أربعة أشياء. لابد أن 2+2=4؛ دائمًا.
وهذا ما يميز البحث الفكري عمومًا، فمن غير البحث عن الحقيقة وطبيعتها، فلن يكَ لدور الفِكر أي هدف، بل سوف يصبح أمرًا اعتباطيًا. لنأخذ القضية الرياضية: “2+2=4”. الكثير من الفلاسفة، خصوصًا المعاصرين، يرون بأنها قضية تحليلية؛ أما كانط فيراها قضية تركيبية، وأما ستوارت مِل، فيراها بعدية، وهي من الآراء الشاذة في الفلسفة. أما الأعداد بعضهم يرى أن لها وجود خارجي، وبعضهم يرى وجودها ذهني؛ فمن الطبيعي نجد جُملة من الآراء المتغايرة، فلو رفضنا الحقيقية، لما أصبحَ لكل هذه الخلافات أي معنى، بل سوف تصبح كلها متساوية في الدرجة؛ فقد تكون الرياضيات كلها صادقة، وفي ذات الوقت كلها كاذبة. حضور مفهوم الحقيقة، يعطي للبحث الفلسفي معنى، لذلك الحقيقة أصلها واحد، ومع تعدد الآراء والحِجاج أحدهما هو الصادق فقط. أما السؤال السليم: هو كيف نجد هذه الحقيقة؟ أو ما أفضل طريق للوصول إلى الحقيقة؟.
أخطر مشكلة على الفلسفة هي الفلسفة:
نستطيع القول إن الفلسفة والتفلسف نفسه، أصبحَ شيئًا روتينيًا، لم تعد الفلسفة أمرًا، ضروريًا ولا حتى كافيًا. العلوم سواءً الطبيعية أم الإنسانية، أخذت دور الفلسفة اليوم. المشكلة ليست مِن مباحث الوجود، أو نظرية المعرفة؛ أكثر من كون الإشكال هو في طبيعة الفلسفة، والتي لم تَعُد تُعالج شيء حقيقي. الكثير سوف يُدافع عن الفلسفة، من قبيل: “إن الفلسفة تبدأ بالشك” أو “الفلسفة ليس عليها أن تُعطيك أي إجابات”. إذًا ما الفائدة من الفلسفة؟. إن كانت لا تُعطي أي أجوبة، فإذًا نستطيع أن نبحث عن معارفٍ أخرى، وهذه المعارف تُعطيك أجوبة لهذه الأسئلة؛ فما الحاجة للفلسفة إذًا؟. الفلسفة أصبحت في مأزق خطير، لا فرق بينها وبين الخيمياء، وعلم الأبراج. رغم التسليم بأنهما -أي الخيمياء وعلم الأبراج-، هي خرافات اليوم، ولم تكَ سائدة في ذاك الزمان، إلا لعدم وجود بديلٍ عنها. ولكن الفلسفة عند المشتغلين بها اليوم، لا يسلمون بأن أكثر التأملات الفلسفية أشبه بالخرافة، وأن يوجد بالفعل بديلٍ أفضل وأدق، كالعلوم المعاصرة.
المحصلة إن المشكلة خطيرة جدًا، ويجب علينا أن نُعيد النظر في الفلسفة من جديد، وإعادة الدراسة والنظر في “ما وراء الفلسفة” Metaphilosophy؛ لمعرفة ما طبيعة الفلسفة، وما حاجتنا منها، ونحاول أن نبحث عن حلٍ، لمُشكلة الفلسفة، فنأخذ أخطر مشكلة على الفلسفة وهي الفلسفة على محمل الجد.
الهامش والمراجع:
2- محمد محفوظ الشنقيطي، رفع الأعلام على سلم الأخضري وتوشيح عبد السلام ومعه شرح المقولات العشر (الجيزة: دار الصالح، 2014)، ص205
3- Ruth Barcan Marcus, Modalities: philosophical essays (New York:
Oxford University Press, 1993), p.25-35.
5- https://saudiphilosophy.com/articles/reflection