د. معجب الزهراني
قد نتهم الغربيين بكل المركزيات الثقافية ولن ينكرها كثيرون منهم وهم يكتبون ويتحدثون عنها من هذا المنظور النقدي باستمرار . شعرت بوطأة هذه المركزية العنيدة حين قفزت الأسماء من أرسطو إلى ديكارت وكأن ابن رشد لم يوجد، ومدرسته لم تؤثر قرونا في السياق ذاته!. ربما كان المبرر أن كثيرين منهم يعدونه شخصية وسيطة شرحت وأختصرت ونشرت فكر المعلم الأول ولم تضف جديدا إلى السياق الفلسفي الغربي . لا أدري . الشيء المؤكد أننا نحن من ضيع الكندي والفارابي وابن سيناء وابن باجه وابن طفيل وابن رشد ، وذلك منذ أن عدت الفلسفة من علوم الأوائل العقلية الدخيلة التي لا تنسجم وعلوم أسلافنا الأصيلة. نسينا حتى تلك المحاولة الخلاقة التي باشرها قاضي قضاة قرطبة لإدماج الفلسفة في صلب الخطاب الثقافي العربي الإسلامي لأن الحقيقة العقلية لا يمكن أن تضاد الحقيقة الشرعية إلا عند ” أهل الغربة عن الحق، وعن كل منطق !. نعود إلى الفلسفة لنقول أنها نامت قرونا عند تلك العتبات العالية التي أوصلها إليها أرسطو. إنهارت أثينا ، المدينة – الدولة ، أمام غزوات ” قبائل الشمال ” التي كانت تمثل البربرية عند فلاسفتها وعموم أهلها المتمدنين.
وحين قامت الأمبراطورية الرومانية وهيمنت على جزء كبير من العالم القديم كانت شهادة تاريخية جديدة بأن منطق السلاح أقوى من منطق الفكر . نعم ، لقد أفادت روما كثيرا من فلاسفة أثينا، بل إن بعضا منهم لجأوا إليها أو عاشوا فيها من قبل ومن بعد. لكن الفلسفة ذاتها تحولت إلى خطاب عملي يفيد في صياغة النظم والقوانين وليس في تطوير الفكر ذاته لذاته . ثم دخلت المسيحية ديانة رسمية للأمبراطورية القوية فتغير الشيء الكثير في الوعي والمخيال الجماعيين. وبلغة الفكر اليوم نقول أن هذه المرجعية الجديدة ، وهي مشرقية ، كتابية – توحيدية ، غيرت الأفق المعرفي فولدت منظومة جديدة من الرموز والمصطلحات والمفاهيم والتصورات والقيم لا كبير اتصال لها بالفكر الفلسفي . فالحقيقة أصبحت متعالية مقدسة. ومن يمتلك الحق في تمثيلها وحراستها هو رجل الكنيسة الذي لا يفكر ويستقريء ويستنبط بقدرما يحفظ ويكرر ويفرض، مثله مثل أي شخص محافظ يحتكم لشروط ” المعروف سلفا ” أي ما تم تأسيسه وتكريسه من قبل. ونظرا لكون التاريخ يمضي وفق منطقه الصارم فقد سادت عصورالظلام، التي تسمى أيضا ” عصور الانحطاط ” ، قرونا لتهيمن على أوروبا كلها حيث انحسرت الفلسفة وعلومها أيما انحسار. وحين جاء ديكارت —— وجد الأرسطية ذاتها قد تحولت إلى متون مدرسية تحفظ وتكرر دونما اعتبار وتبصر. فمنطق الفكر حينما يخضع لغير منطق العقل لا ينتج، كشجرة تزرع في غير مكانها فلا تثمر، ومن هنا بدأ مشروعه لتنظيف الحقل وفتح الطريق مجددا. فالفتى ميسور الحال ما إن أحب الحكمة وتعلق بالمعرفة حتى قرر الانعزال والبحث عن الحقيقة الحية المتجددة لإعادة تأسيسها منهاجا وخطابا. وقد بدأ هكذا لقناعته بأن كل فكر سابق سائد هو بمثابة العائق. ومنهج الشك الذي تبناه عريق الجذور في تاريخ الفلسفة ، لكنه جدده وأعطاه صيغة تجريبية جذرية لم تكن له من قبل. فالحقائق العلمية الكبرى تبدأ مما هو بسيط واضح يقبله الحس السليم بمجرد أن تسميه الأنا المفكرة أوالذات الباحثة عن حقيقة ما في ذاتها أو في العالم من حولها . وعبارته الشهيرة ” أنا أفكر إذن أنا موجود ” كانت أول إعلان قوي واضح لحضور هذه الذات الإنسانية الفردية الحديثة على مسرح التاريخ ( وهذا ما لم يتنبه له طه عبدالرحمن حين ترجمها ب” أنظر تجد ” فألغى الأنا والتاريخ معا!) . فهذه الذات عاقلة بالفطرة، لكنها قد تتنكر لعقلها ولمنطق الطبيعة – كتابها المفتوح – حين تؤول الظواهر وتسمى التجارب كيفما اتفق. ولأن التصورات الضالة والتأويلات المكرورة المتعسفة كانت تملأ أذهان البشر وتتحكم في حيواتهم، قررالهرب من فرنسا الكاثوليكية المتزمتة إلى هولندا البروتستنتية الأكثر تواضعا وتفتحا. ومن هناك بحث وكتب مدشنا خطابا جديدا هو الذي أسس لما سيسمى لاحقا بعصر النهضة. ورغم أن البريطانيين والألمان والإيطاليين قد لا يسلمون لفرنسي بهذه الريادة، وقد شاركوا فيها بقوة في الفترة ذاتها دونما شك، إلا أن لها وجاهة ما .
فديكارت تمكن من إحداث قطيعة كبيرة عميقة مع الأفق المعرفي القديم لأنه كان شغوفا بالعلم الهندسي والرياضي، وبعلم التشريح خاصة، وليس بالفكر النظري فحسب ( كان يتردد على ” مجزرة” ويكرر أن جسد العجل المفتوح أمامه هو أكاديميته) . كأنه أدرك أن حقبة فكرية معرفية ينبغي أن تغرب لتشرق حقبة جديدة رائدها العلم التجريبي وليس الفلسفة التي بدأت تتحول من ” أم العلوم ” إلى مجال معرفي بين مجالات أخرى أخذت تستقل تباعا، وبفضل ” علوم الشرق ” هذه المرة وليس معتقداتها. من هذا المنظور يذهب بعض الباحثين في تاريخ الفكر إلى أن قيمة إنجازه الحقيقية لا تتمثل في أطروحاته ذاتها بل في قدرة منهجه الجديد على” تنظيف الطريق” . فمن وراء منهج الشك الصارم الجريء كانت تطل رؤية جديدة للعالم تصارع المؤسسات التقليدية القائمة من أجل إستعادة الثقة في الذات الإنسانية الواعية للفرد الذي سيكون بطل الحياة ومركز الثقافة في العصر الحديث . وبصيغة أخرى نقول إن إلحاحه المتصل على ضرورة التحرر من سلطة الأفكار والمعلومات السائدة هي البداية الأولى والأهم للوصول إلى منتوجت جديدة في كل علم و فكر. ولم يكن هينا أن ينجح، مع جاليلي وكوبرنيكوس خاصة، في تخليص الحقل الفلسفي من ضلالات وجهالات تراكمت على مدى قرون حتى ظنها الناس أكمل وأجل وجوه الحقيقة !. الطريف في الأمر أن هذا المفكر الرائد لمنهج الشك كتب نصوصا سردية مهمة لم تكتشف إلا منذ وقت قريب. والمؤكد أنه لم ينشرها في حياته خشية التورط في صراعات جانبية مع السلطات السائدة في عصره، وعلى رأسها سلطة الكنيسة . لا غرابة إذن أن يقال أن هذه الأخيرة لعبت دورا ما في الموت المبكر للمفكر .. ولكن ليس للفكر الذي أطلقه ليمضي قدما في الطريق الجديدة.