تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
الكثير من الفلاسفة في أقسام الفلسفة المهمة في أمريكا متخصصون في الميتافيزيقا: أي دراسة الأبعاد الأكثر عمومية للواقع كالوجود والزمان. ويعد كتاب “الوجود الزمان” من أبرز الأعمال لأحد أهم الفلاسفة في القرن العشرين، مارتن هايدغر. فهو دراسة متعمقة في ذات الموضوعين: الوجود والزمان. ومع ذلك فإن أحدًا من أولئك الميتافيزيقيين الأمريكيين لم يبدِ اهتمامًا جادًا لعمل هايدغر هذا.
التفسير المعتاد لهذا الأمر الغريب هو أن هؤلاء الميتافيزيقيين فلاسفة تحليليين بينما هايدغر فيلسوف قارّي. ورغم أنه من النادر أن يقرأ أحد من الفلاسفة التحليليين للقاريين أو العكس، إلا أنهم عندما يفعلون ذلك تكون النتائج قبيحة. فقد انتهت إحدى المناظرات الشهيرة بين جاك دريدا (فيلسوف قارّي) وبين جون سورل (فيلسوف تحليلي) بشجب سيرل لـ “الغموض المتعمد ” لدى دريدا وبسخرية دريدا من “سطحية” سيرل.
يبدو التمييز بين الفلاسفة التحليليين والقاريين تمييزًا غريبًا، لأنه أولاً يُظهر الفرق بين توصيف جغرافي (الفلسفة التي تُنتَج في القارّة الأوروبية، خصوصًا في ألمانيا وفرنسا) وتوصيف منهجي (الفلسفة التي تٌنتَج من خلال تحليل المفاهيم). الأمر يشبه، كما أشار بيرنارد ويليامز، تقسيم السيارات إلى سيارات دفع رباعي وسيارات صُنِعَت في اليابان. بل إن الأمر يزداد غرابة حين ندرك أن بعض المؤسسين للفلسفة التحليلية مثل فريجه وكارناب كانوا أوروبيين وأن عددًا كبيرًا من المراكز الرائدة في الفلسفة “القارية” موجودة في جامعات أمريكية، بالإضافة إلى أن عددًا كبيرًا من الفلاسفة “التحليليين” ليس لديهم اهتمام بتحليل المفاهيم.
سيساعدنا شيء من الاهتمام بالتاريخ على فهم هذا التمييز. في بداية القرن العشرين طوّر عددٌ من الفلاسفة في إنجلترا (راسل ومور وفتغنشتاين)، وفي ألمانيا والنمسا (كارناب ورايشنباخ وهامبل: الذين هاجروا جميعًا إلى الولايات المتحدة مع صعود النازيين إلى السلطة) ما اعتبروه اتجاهًا جديدًا جذريًا في الفلسفة يعتمد على تقنياتٍ جديدةٍ للمنطق الرمزي الذي طوّره راسل وفريجه.
كانت الفكرة الأساسية تكمن في إمكانية حل المشكلات الفلسفية (أو التخلص منها) من خلال التحليل المنطقي للمفاهيم أو التصورات أو المواقف الأساسية. (لا يزال تحليل راسل للتوصيفات الأكيدة لما هو غير موجود—على سبيل المثال “الملك الحالي لفرنسا”— نموذجًا لتلك التوجهات). ومع مرور السنوات، كانت هناك أشكال متعددة للتحليلات المنطقية واللغوية والمفاهيمية تتوجه جميعها نحو حل الالتباسات في الأفكار الفلسفية السابقة وقد قُدِّمت على أنها أمثلة على الفلسفة التحليلية. وفي النهاية، شكّك بعض الفلاسفة، ولا سيما كواين، في فكرة “التحليل” ذاتها كمنهجٍ فلسفيٍ بارزٍ. ولكن أهداف الوضوح والدقة والصرامة المنطقية ظلت ولا تزال تحدد معايير الفلسفة التي تسمي نفسها بالفلسفة التحليلية وهي سائدة في الدول المتحدثة بالإنجليزية.
وفي نفس الوقت تقريبًا الذي كانت تنشأ فيه الفلسفة التحليلية، كان إدموند هوسرل يطوّر نهجه “الفينومينولوجي” في الفلسفة. كان هوسرل كذلك يشدد على معايير عاليةً من الوضوح والدقة، وكانت له مشاركات مثمرة مع الفلاسفة التحليليين مثل فريجه. لكن هوسرل رأى الوضوح والدقة أكثر في التوصيفات الدقيقة لخبراتنا المباشرة (الظاهرة) مقارنةً بالتحليل المنطقي للمفاهيم أو اللغة. فكان يرى أن الفينومينولوجيا تعمل على مستوى أساسي في المعرفة ينبغي أن تستند إليه جميع حقائق التحليلات المفاهيمية أو اللغوية. وقد حوَّل طالب هوسرل، مارتن هايدغر في كتابه “الوجود والزمان” الفينومينولوجيا إلى اتجاه الأسئلة “الوجودية” عن الحرية والألم والموت. وبعد ذلك، طوّر المفكرون الرئيسيون الذين تأثروا بهوسرل وهايدغر، خصوصًا سارتر وميرلوبونتي، نسخهم الخاصة من الوجودية المستندة إلى الفينومينولوجيا.
وكما أكد كلاً من سايمون كريتشلي Simon Critchley وسايمون قليدينينق Simon Clendinning فإن اسم مصطلح “الفلسفة القارية” كان إلى درجة كبيرة من اختراع الفلاسفة التحليليين في منتصف القرن العشرين لتمييز أنفسهم عن الفينومينولوجيين والوجوديين في القارة الأوروبية. تعامل الفلاسفة التحليليين (قلبرت غلبرت رايل Gilbert Ryle كان أحد الأسماء القيادية هنا) مع لجوء القاريين للخبرة المباشرة على أنه مصدرًا للذاتية والغموض وهو ما يعد مضادا لنماذجهم في الموضوعية والوضوح المنطقي. هذا وقد تأسس التقسيم إلى تحليلي وقاري في عام ١٩٦٢م عندما أسس أنصار الفلسفة القارية من الأمريكيين منظمتهم المهنية الخاصة، والتي أسموها بجمعية الفلسفة الفينومينولوجية والوجودية كبديل لجمعية الفلسفة الأمريكية التحليلة السائدة (والتي لم تكن حصرية بأي شكل من الأشكال).
وعلى مدار السنوات الخمسين الأخيرة امتد مفهوم ” الفلسفة القارية” ليشمل عددًا كبيرًا من الحركات الأوربية الأخرى مثل المثالية الهيجلية والماركسية والهرمينوطيقية/ التأويلية وخصوصًا ما بعد البنيوية والتفكيكية. تلك الاتجاهات غالبًا معارِضة للفلسفة الفينومينولوجية والوجودية، لكن الفلاسفة التحليليين رأوا أنها جميعًا تتفق في البُعد عن المعايير أو الدقة والوضوح. ونتيجة لذلك، كما يؤكد برايان ليتر فإن “الفلسفة القارية” اليوم تدل على “سلسلة من التقاليد التي تتقاطع جزئيا في الفلسفة، والتي لا ينطوي بعضٌ من رموزها على أي شيء مشترك مع [بعضها] الآخر.”
وبالمثل، فقد توسع نطاق “الفلسفة التحليلية” على مر السنين. ففي خمسينيات القرن الماضي، كانت الفلسفة التحليلية تتمثل عادةً إما في المنطقية الوضعية أو في فلسفة اللغة العادية، حيث احتوت جميعها على الالتزام بشكلٍ محددٍ من التحليل (في الغالب باتباع إما كارناب أو فيتغنشتاين) بالإضافة إلى الرؤى الفلسفية الجوهرية. اشتملت تلك الأفكار على رفض كثير من الفلسفات التقليدية (خصوصًا الميتافيزيقا والأخلاق) باعتبارها دون معنى. ولم تكن هناك، على وجه الخصوص، مساحة للمعتقدات الدينية أو المعايير الأخلاقية الموضوعية. أما اليوم، فيستخدم الفلاسفة التحليليون مناهج أكثر تنوعًا (تشتمل على استدلالات شبه علمية للتفسيرات الأفضل وعلى نسخهم الخاصة من التوصيفات الفينومينولوجية). كما أن هناك حالات تحليلية أُجريت لمجموعة كاملة من المواقف الفلسفية التقليدية، بما فيها وجود الله وثنائية العقل والجسد والمعايير الأخلاقية الموضوعية.
لا تزال أشكال متعددة من الفلسفات التجريبية والطبيعية تمثل آراء الغالبية، لكن يمكن تطوير أي موقف فلسفي تطويرًا مفيدًا باستخدام أدوات الفلسفة التحليلية. فهناك فلاسفة تحليليون هم في ذات الوقت تومائيين وهيجليين، بل أن هناك أدبيات بارزة مُخصَّصة لشروحات فلاسفة قاريين رئيسيين بالمصطلحات التحليلية. وبالتالي فادعاء أن العمل ضمن النمط التحليلي يقيد نطاق البحث الفلسفي لدينا لم يعد له أي أساس.
يدحض هذا التطوّر الادعاء بأن الفلاسفة التحليليين، كما عبّر سانتياغو زابالا Santiago Zabala مؤخرًا، لا يناقشون “الأسئلة العميقة التي شغلت الفلاسفة لآلاف السنين”. لقد كان هذا الأمر صحيحًا في زمن الوضعية، لكنه لم يعد كذلك. وبالمثل، فإن ادعاء زابالا بأن الفلاسفة التحليليين لم ينتجوا “بحثًا تاريخيًا عميقًا” قد عفا عليه الزمن. كان ذلك صحيحًا في الماضي حينما كانت شهرة كتاب راسل “تاريخ للفلسفة الغربية” علامة على الازدراء التحليلي للتاريخ الجاد. لكن الآن، حتى ولو كان الكثير من الفلاسفة التحليليين لا يزالون يولون اهتمامًا بسيطًا بالتاريخ، فالكثير من أفضل المؤرخين الحاليين للفلسفة يطبقون المناهج الحجاجية والمفاهيمية التي تستخدمها الفلسفة التحليلية.
بسبب هذه التطورات، جادل ليتر Leiter بأنه لم يعد هناك فروق جوهرية بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، وإن كانت هناك في بعض الأحيان فروق مهمة في “الأسلوب”. كما أنه اقترح أن الفجوة الوحيدة من حيث المبدأ بين المعسكرين هي فجوة اجتماعية؛ بأن (وهذه أمثلتي) الفلاسفة في كلا المعسكرين لا يعترفون بعمل الجماعة في المعسكر الآخر لأسباب النفور الشخصي من المنطق الرمزي أو من النقاشات الأدبية والتاريخية المُطوَّلة.
أتفق شخصيًا مع كثيرٍ مما يقوله ليتر، لكنني أعتقد أنه لا تزال هناك فروقًا فلسفيةً عامةً مهمةً بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية في كل تمظهراتها الحالية. وتتعلق هذه الفروقات بتصوراتهم عن الخبرة والعقل باعتبارها معايير للتقييم. عادةً ما تلجأ الفلسفة التحليلية للخبرة باعتبارها بديهيات الحس العام (وكذلك إلى تطوراتها وتحولاتها العلمية) وإلى العقل باعتباره المبادئ المعيارية للإحالات المنطقية. تدعي عدد من التوجهات القارية وصولها لمجالٍ مميزٍ من الخبرة التي تتغلغل تحت قشرة الحس العام والخبرة العلمية. على سبيل المثال، فإن الفينومينولوجيين مثل هوسرل وهايدجر الأول وسارتر وميرلوبونتي يحاولون وصف الحياة المباشرة المتجسّدة التي لا تمثل خبرة الحس العام /الخبرة العلمية سوى تجريد باهت ومشوَّه لها، مثل الترددات الرياضية التي تجعلها علوم البصريات مكان الألوان التي نستقبلها في العالم. وبالمثل، فإن عددًا من نسخ الكانتية الجديدة والمثالية يشير إلى وعي “مفارق” أو “مطلق” يوفّر الدلالة الأكمل لخبراتنا العادية.
وهناك نسخ أخرى من الفلسفة القاريّة لا تتعاطى مع النشاطات العقلية الأساسية على أنها نظام صارم للفكر بل على أنها تمرين إبداعي للمخيّلة الذهنية. هذه النظرة تصف أهم الفلاسفة الفرنسيين منذ ستينات القرن العشرين ابتداء من فوكو ودريدا ودولوز. إذ يرى هؤلاء أن المنطق المعياري الذي يستخدمه الفلاسفة التحليليون لا يمكنه سوى تفسير ما هو ضمني في المفاهيم التي نبدأ منها، وبالتالي فإن هذا المنطق عديم النفع للمهام الفلسفية الأساسية التي يؤكدون أنها تعني أن نتعلم التفكير فيما وراء تلك المفاهيم.
تحاول الفلسفات القاريّة للخبرة أن تسبر أغوار مفاهيم الخبرة اليومية من أجل اكتشاف المعاني الكامنة تحتها، وذلك للتفكير في شروط إمكانية مفاهيمنا. وعلى النقيض من ذلك، فإن الفلسفات القارية للمخيّلة تحاول أن تفكّر فيما وراء تلك المفاهيم، بمعنى آخر أن تفكّر في المستحيل.
إن فلسفات الخبرة وفلسفات المخيّلة في حالة توتر باعتبار أن اليقينات البديهية للخبرة تعمل كحدود للخيال الفكري المبدع، التي تتحدى بدورها تلك الحدود المدّعاة. عبّر فوكو بشكلٍ لطيف عن هذا التوتّر عندما تحدّث عن المشروعات الفلسفية المتنافسة في النقد باعتبار “إدراك الحدود التي يجب على المعرفة عدم تجاوزها” و”النقد العملي الذي يتمثّل في تجاوز مُمكن”. لكن يمكن فهم عددٍ من الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين (على سبيل المثال ليفيناس وريكور وبوديو وماريون) باعتبارهم يطورون فلسفات تحاول التوفيق بين الخبرات الفينومينولوجية و الإبداع التفكيكي.
وبالنظر إلى الفروق الفلسفية الأساسية بين الفلاسفة التحليليين والقاريين، فإنه من الواضح أنهم سينتفعون من التعرّف على نحوٍ أكبر على أعمال بعضهم البعض، وأن المناقشات بين المختلفين ستساعد على صناعة عالم فلسفي أفضل. إلا أن هناك نقص حاد في التوافق بين الفكر التحليلي والقاري، ويرجع ذلك إلى الوضوح النسبي الذي تتمتع به غالب الكتابات التحليلية في مقابل غموض كثير من الأعمال القاريّة.
بسبب التزام الفلسفة التحليلية بالوضوح فإنها تعمل باعتبارها لغةً عامةً فاعلةً لأي أفكار فلسفية. (حتى أصعب الكتاب، مثل سيرل وديفيدسون، يجدون لهم أتباعًا يكتبون شروحات توضيحية). وكذلك فإن هناك طلب مستمر على الشروحات التحليلية للشخصيات القاريّة، ولذا فمن الواضح سبب عدم وجود طلب موازي على الشروحات التوضيحية مثلاً لكواين أو رولز أو كريبكي بمصطلحات هايدجر أو ديريدا أو دولوز. ومع التقدير الكامل لحدود ما لا يمكن أن يقال بوضوح كامل، إلا أن التدريب على الفلسفة التحليلية سيساعد كثيرًا على تحسين كتابة أغلب الفلاسفة القاريين.
وبالتأكيد يمكن أن يستفيد الفلاسفة التحليليون غالبًا من التعرض للأفكار القارية. على سبيل المثال يستطيع الإبستمولوجيون الاستفادة بشكلٍ كبير من التحليلات الفينومينولوجية لهوسرل وميرلوبونتي، وكذلك يمكن للميتافيزيقيين الاستفادة من التأملات التاريخية لهايدجر ودريدا. لكن نظرًا للصعوبة غير الضرورية لأغلب الكتابة القارية، فإنه من الأفضل لغالب الفلاسفة التحليليين الاعتماد على التعرّف غير المباشر من خلال مصادر ثانوية موثوقة ويمكن الوصول إليها بشكلٍ أكبر.
قد تكون أكثر الكتابات القارية غموضًا (مثل كتابات هايدجر المتأخرة وكذلك أغلب الفلاسفة الفرنسيين الرئيسيين منذ ستينات القرن العشرين) أشكالاً من التعبير الأدبي الذي يُنتج شعرًا تجريديًا من تحويلاته الإبداعية للمفاهيم الفلسفية. قد يفسّر ذلك تحوّل الاهتمام الأكاديمي بهذه الأعمال إلى أقسام اللغة الإنجليزية وأقسام اللغات الأخرى. لكن يصعب رؤية أي فقدان لقيمة فلسفية حقيقية في وضوح شروحات التحليليين على هايدجر ودريدا وغيرهم.
هناك علامات مشجّعة مؤخرًا على اتباع الفلاسفة للمشكلات الفلسفية متى ما نوقشت بشكلٍ مثيرٍ للاهتمام بغض النظر عن منهجية المؤلف أو توجهه أو أسلوبه. لكن لا تزال النصوص الأساسية للفلاسفة القاريين الرائدين تمثل تحدياتٍ غير ضرورية لكل من يحاول التعاطي معها. وبالتالي فإن ردم الهوّة بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية لن يبدأ إلا عندما يبدأ النسل الجديد من فلاسفة القارّة بالكتابة على نحوٍ أكثر وضوحًا.
الكاتب: أستاذ الفلسفة في جامعة نوتردام، ومحرر في مراجعات نوتردام الفلسفية. وهو مؤلف الكتاب الأحدث “التفكير في المستحيل: الفلسفة الفرنسية منذ عام 1960″؛ وهو يكتب بانتظام في ذا ستون.
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
Bridging the Analytic-Continental Divide
Gary Gutting
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”