تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١٤ يوليو ٢٠١٢
قدم ألبير كامو عرضاً لسارتر لا يُمكن رفضه، وذلك سنة 1944 حين كان يعمل رئيس التحرير لجريدة كومبا Combat وهي الجريدة الرئيسية للمقاومة الفرنسية، كان العرض أن يعمل سارتر مراسلاً له في أمريكا. على الأرجح أنه في ظل التوتر المستمر والذي تلاه انفصال حاد بين الرجلين، كان كامو سعيداً بإخراج سارتر من باريس. المؤكد أن سارتر ابتهج للرحيل، فقد ضجر من نفاق فرنسا وجفافها في العهد ما بعد الليبرالي، وكانت لديه خيالاته تجاه الولايات المتحدة. أما كامو فسيقوم بالرحلة ذاتها بعد فترة، ليعود بعدئذ بانطباعات مميزة سياسياً وفلسفياً وحتى على الصعيد الشخصي.
بطريقة ما، كانت الوجودية ترجع إلى عقر دارها. فجذور الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين تعود بمشروعيتها إلى موقعها في القارة الأوروبية، في البقعة الخصبة حيث هيجل وكيركجارد ونيتشه وهوسرل وهيدجر. لكنها ليست محصنة بالكامل حيال الاضطراب الميتافيزيقي في الولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر. احتفظت الفلسفة الفرنسية بعناصر براجماتية لدى تشارلز بيرس، والنزعة النفسانية لوليم جيمس (وكلاهما نال ذكراً محموداً في كتاب الكينونة والعدم لسارتر) وبشكل أكثر أهمية، كان سارتر وكامو قد تعلما واستعارا من كُتاب القرن العشرين أمثال فوكنر وهيمنجواي ودوس باسوس، وبالطبع أفلام همفري بوجارت. إن كامو على وجه التحديد هو من نشر لباس المعطف بالطوق المقلوب ووصف نفسه أنه مزيج من بوجارت، وفرنانديل، ومحارب الساموراي.
لما هبط سارتر من الطائرة في نيويورك في شهر يناير عام 1945 بعد شهر واحد فقط من تحرير باريس، كان رأسه يضج بالأفلام والعمارة الأمريكية، وموسيقى الجاز، ولعله أراد أن يشعر بأنه في وطنه الأم. كان فيلسوف الحرية المرموق يطأ بقدميه أرض الحرية، تلك الأمة التي أدمنت الحرية وتأسست عليها دستورياً. أو لم يكن هناك ما يشبه راعى البقر الوجودي وحامل السلاح في أسلوب سارتر الجريء؟ لا بد أن كامو قد أدرك ذلك حين همّ بإيفاد سارتر للولايات المتحدة.
كتب سارتر عشرات المقالات لجريدة كومبا خلال تواجده في الولايات المتحدة، وكثيراً ما هاتف كامو وهو في باريس بهذه المقالات، وأخيراً ذهب سارتر للحديث عن الفلسفة في هارفارد وبرنستون وييل وأماكن أخرى، وأثناء هذه المدة ظفر بحبيبة أمريكية (كتب عنها بكثرة وبشكل صريح لسيمون ديبفوار) وقال: ” قتلتني العاطفة، والمحاضرات”. لكن ثمة مقالة ذات طابع شخصي كتب فيها عن المدينة والريف وهي (مانهاتن: الصحراء الأمريكية الكبرى) دوّن فيها معاناته في الوصول من “نيويورك الشريرة” وهو أمر لم يتعاف منه قط.
سارتر الذي ترك ردهات فندق البلازا وسار في الجادة الخامسة في نيويورك المتجمدة باحثًا عنها دون أن يعثر عليها، فلم يجد شيئاً ليركز عليه نظرته: إنها مدينة ” للنظر البعيد” كما كتب، والمركز الطبيعي فيها هو اللامحدودية وما أعلى الأفق، فافتقد سارتر حميمية أحياء باريس، ولم يجد في نيويورك سوى ” أجواء خاصة بالأفلام، تتمدد فيها حشودٌ لا تميز أولها من آخرها”. قد يتصور المرء أن مثل هذا المكان يليق بفيلسوف وجودي مغترب، ومع ذلك عانى سارتر من التيه بشكل مستعص: “في غموض أرقام الشوارع والجادات، أنا مجرد شخص في مكان ما” لقد جعلته نيويورك يفكر بالسهوب وشجيرات البامبا.
بعد برهة قصيرة أدرك سارتر الاعتراض الأساسي لديه، ففكرة المدينة بكاملها قائمة على تحصين نفسها ضد الطبيعة، ومع ذلك فشلت مانهاتن في ذلك: فالمدينة “المفتوحة” ذات سماء لامتناهية، تترك الطبيعة تدخل مع كل جهة. بالطبع إن مانهاتن جزيرة وبالتالي فهي مكشوفة تماماً على الظواهر الطبيعية: كالعواصف، الأعاصير، الثلج، الحرارة، الريح، والفيضانات. إنها لا تملك أية حماية تجاه أي شيء: “إنني أشعر وكما لو كنت في مخيم وسط الغابة زاحفاً مع الحشرات”. لهذا أُعجب سارتر بها أثناء عبوره لها بالسيارة فحسب، كما لو كان “يقود عبر السهول العظمى للأندلس”.
ناقض سارتر التصور الشائع عن المدينة الأمريكية، وقلب فكرة الحرية الأمريكية رأساً على عقب. في فبراير وإبان سفره جيئة وذهاباً بين الولايات، يتعشى تارة ويحتسي النبيذ تارة أخرى، ويمضي مع الجولات السياحية الدعائية المتعلقة بالمنشئات الصناعية، توصل سارتر إلى استنتاج في مقالة أخرى كتبها لجريدة لي فيقارو Le Figaro وهو أن أمريكا أرض “التماثلية conformism” ووجد أن ما يكمن خلف ارتباطها النظري بالفردية أنها لا تثق فعلياً بالفرد المنعزل. وبغض النظر عن “الاقتصاد الحر” تجسد أمريكا “العقد الاجتماعي” لروسو، حيث تسيطر الإرادة العامة لـ (المجموع) فكل “أمريكي يتعلم بواسطة أمريكان آخرين ثم يعمل بدوره على تعليم الآخرين. الجميع في نيويورك، في الجامعات وما يتلوها من مراحل، يلتحقون بمقررات تعليمية عن الأمركة “. إن المروق الوجودي ممنوع: فأمريكا بلد معيارية للغاية تعمل على استنساخ مواطنيها .
استياء سارتر الأقوى والأكثر تكرراً هو أن الناس يُتعامل معهم كأشياء. في روايته ” الغثيان” المكتوبة في 1930 م، أبرز فيها سارتر الحصى والشجر وأعماق المحيطات، أما نيويورك وطبيعتها بالمجمل فتحولت في الأربعينات والخمسينات ميلادية إلى منتجات صناعية منفرة ولدتها القوى الاقتصادية. لقد فهم سارتر في أمريكا أن الأشياء (ماهو في ذاته) بكل ضخامتها، تهدد بماديتها رخاوة الإنسان (ماهو لذاته) وتفرز ما أسماه في صياغة متأخرة “الجمود العملي Practico-inert”.
لا زال سارتر يأمل آنذاك أن تتحرك نيويورك إلى اتجاه سارتري عام وأقل فداحة. ماذا عن ناطحات السحاب جميعها؟ فمن الواضح أنها ملعونة “إنها منهارة بعض الشيء، ولعلها ستهدم غداً، ومهما يكن من حال فإن بنائها يتطلب إيماناً لم نعد نملكه اليوم”. كان مبنيا كرايسلر والامباير ستيت يظهران لسارتر وكأنهما من الحطام القديم.
كان كامو وبشكل رسمي مبعوثاً ثقافياً للحكومة الفرنسية يتلو خطوات سارتر عام 1946 ويقدم تعليقات لاذعة ضد سلفه سارتر، ففي حين تملك سارتر الهوس بالعمارة فإن كامو كان غير مبال وغافل عن ذلك: “لاحظت أنني لم أرقب ناطحات السحاب، لقد بدت لي طبيعية للغاية”. ولم تكن لكامو أية مشكلة مع رأسمالية السلع. كان معجباً بالألوان، والمواد الغذائية، والعطورات، هكذا كان حال برودواي حيث حانة الجاز في هارلم ودعاية تبغ الجمَل العملاقة والأيقونية التي تقول “ينفث الجندي الأمريكي من فمه سحابة من الدخان الأصلي”.
أحب كامو عدة مرات ومن أشهر حبيباته باتريشا بليك، الطالبة ذات التسعة عشر ربيعاً، والمتدربة في مجلة فوج Vogue وقرأ ما كتبته من صفحات عن روايته (الطاعون) وكانت في المقابل قد لاحظت ولعه بالنمط الأمريكي للموت، وجلبت له أعداداً من مجلات تخص تجارة حفاري القبور، مثل مجلة سني سايد Sunnyside ومجلة التابوت Casket والدورية الشهرية لإمبالمر Monthly Embalmer ونالت دعاية لإحدى قاعات الجنائز إعجابه، جاء فيها ” أنت تموت ونحن نتكفل بالباقي”.
ألقى كامو محاضرة في كلية فاسر Vassar بعنوان ” أزمة البشرية” وكان منبهراً بمشهد “جيش من الحسناوات اليافعات من ذوات السيقان الرشيقة يستلقين في الحديقة” ولكن انشغل باله بما تصوره آنذاك بـ” المأساة الأمريكية”. إنها مأساة الطلاب الذين افتقروا للحس التراجيدي. وفقاً لسارتر كانت المأساة هي (مكننة) و (تشيؤ) الإنسان، أما لكامو كان المأساوي شيء أكثر مراوغة، شيء مفقود في أمريكا.
كان ثمة سياق مختلف بين كامو والطلبة الذين يتحدث إليهم، إنه قادم من أوروبا التي أمضت عدة سنوات في تمزيق نفسها، في حين لم يمس الطلاب أي أذى من الحرب. رُحّب بكامو كنجم أدبي (حيث ظهرت ترجمة رواية الغريب أثناء إقامته هناك) وكذلك رُحب به بطلاً للمقاومة، لكن إدراكه المأساوي للحياة لا يُمكن اختزاله بانشغاله بالسؤال عن الحرب العالمية الثانية، فحينما أبحر عائداً من نيويورك إلى باريس وفي ليلة قضاها وسط المحيط الأطلسي، وإبان افتتانه باندفاع الباخرة، صرح كامو بحبه لـ “تلك الأبحر من النسيان وذلك الصمت اللامحدود الذي يضاهي سحر الموت”.
كان كامو فيلسوفاً للمقاومة والتضامن، واكتشف (أو لعله أعاد اكتشاف) مشكلة العقليات الأخرى في نيويورك، فعلى خلاف سارتر لم يكن لكامو مشكلة مع الأشياء والأشجار أو مبنى الإمباير ستيت أو حتى المُحيط الذي لا هوية له. فقط حين ينظر لوجه إنسان آخر يشعر بإحساس مأساوي. في حين أن سارتر قال إن الآخرين هم الجحيم فإنه خرج بمفهوم “الجماعة المندمجة group in-fusion” بينما نفى كامو بشكل مطلق أمام الطلاب “وجوديته” وأعاد بشكل متزايد تعريف “اللامعقول absurd” بموجب فشل اللغة المحتوم بتجسير الهوة بين الأفراد، ولم تكن المشكلة في كون لغته الإنجليزية غير مؤهلة للتخاطب مع الأمريكان، إذ اعتراه نفس الشعور في كيبيك.
سيتضح الصدام بين سارتر وكامو عند خلافهم السياسي في الخمسينات ميلادية من القرن العشرين، وسيبتلور ذلك عند نشر رواية “المتمرد” لكامو. ولكن حتى أثناء ردود فعلهم المختلفة إزاء الولايات المتحدة وبالتحديد نيويورك، سنجد عوامل الانشقاق بينهما. فلما عاد سارتر إلى أوروبا استدعى كل عنصرية أمريكا وفصلها العنصري وكونه النقيض الحتمي لنزعتها التماثلية. كتب سارتر مسرحية “العاهرة الفاضلة” والتي زادت من درامية ما وقع في حادثة أولاد سكوتس بورو في الثلاثينات ميلادية من القرن العشرين. إن الانقسام بين القوى المتنافسة كالشرق والغرب، والبيض والسود، والبرجوازيين والعمال، والبشر والأشياء، أصبح الاهتمام الفارق لفلسفة سارتر، ويتلخص بعبارة اتفق الجميع على بغضها، جاءت في كتابه (نقد العقل الجدلي) حين عرّف الملاكمة بشكل ينطبق على علاقته بكامو: “ممارسة ثنائية لعدوانية متبادلة”. الوجودية بهذه الصيغة تنحرف عبر الماركسية متسربة إلى النخب الأمريكية المثقفة، لتتشربها فلسفة القوة السوداء (الوجودية السوداء) وتجد صداها لدى كتّاب يائسين أمثال ريتشارد رايت ونورمان مايلر.
في الجهة المقابلة كان كامو يبدو مثل صامويل بيكت، أما سارتر أعقاب الحرب وكما وصف نفسه بأنه “مكينة للكتابة” أكثر من أي وقت مضى. صار كامو مصاباً بالرهاب من الكتابة، ومسكوناً بـ “الاشمئزاز من كافة أشكال التعبير العلني”. وأصبحت فلسفة سارتر ذات طابع اجتماعي وبنيوي في نبرتها الثنائية. بات كامو وحيداً في الليل بين القارات، مبتعداً عن كل شيء، وأقل في صرامته “الأخلاقية” الأسطورية (سماه سارتر “القديس”) وصار أقرب إلى (مابعد البنيوية) حتى قبل ظهورها وذلك عبر قلقه واهتمامه المتعاظم باللغة، وقد ركز على الاختلاف ورفض بلورة نظرية حاسمة وواضحة “إنني صغير السن للغاية كي أمتلك نظاماً معرفياً” وفق ما أخبر أحد الحاضرين من الجمهور. وفي ظل هذه المعاداة للنظام المعرفي الأمريكي حافظ كامو على موقفه ورفضه للإيضاح: “بعد شهور عديدة لا أعرف شيئاً عن نيويورك”.
المفارقة أنه بات من الواضح أن سارتر أخذ فكرته عن العمل الجماعي مما شاهده في الولايات المتحدة وليس من الاتحاد السوفييتي. المعتاد أنه يجدر بسارتر تأطير فكرته عن الحرية ومصير الهوية الفردية من خلال مصطلحات أدبية (أو سياقية textual). احذر من المحرر! لم يعجب سارتر بالطريقة التي مزقت فيها مقالاته حين ظهرت في الصحف الأمريكية وأعلن قلقه مما هو مماثل أي “إعادة الكتابة” لمسرحياته، إذا تم عرضها في الولايات المتحدة. كان مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI أثناء اتهامه لكامو بكتابة “تقارير غير دقيقة” قد أخطأ بالتعرف عليه ووصفه تارة ب”كانو” أو “كوروس”.
كانت علاقة سارتر وكامو ما بين الحب والكراهية، انعكست هذه العلاقة وتجسدت في غرامهما معاً بأمريكا وبغضهما لها. عبّر عن ذلك كامو بقوله “من الضروري أن تقع في الحب.. على الأقل كي تملك عذراً لكل اليأس الذي ستشعر به على أي حال”. والأهم أن هذين المفكرين يشددان على كون أمريكا متوازنة دائماً مثل رجل يمشي على حبل مشدود فوق مسار الجدل الفلسفي.
الكاتب: مُحاضر في جامعة كامبردج. مؤلف كتاب “المُلاكم وحارس المرمى: سارتر ضد كامو”.
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
Sartre and Camus in New York
Andy Martin
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”