تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
الأفكار الكبيرة: ما هي السلطة؟
مصطلح “السلطة” موجود في كل مكان من عالمنا. وإذا فكرنا فيه تخطر ببالنا عبارة “تضخم الكلمة”. إذ يتمحور الكثير مما يصادفنا من كلمات، المطبوع منها أو ما يظهر على التلفاز أو في الإعلانات، حول مفهوم السلطة.
لكن ما هذا المفهوم؟ ما السلطة؟ الحق أن تأويل هذه الكلمة من المستحيلات. إذ يوجد عدد لا حصر له من التعريفات، وتسرد المعاجم عددًا هائلاً من المعاني. لا شك أن السلطة هي السلطة، هي ذلك الشيء الذي يمكّننا من التأثير في مجريات الأمور في حياتنا أو ربما تحديدها في واقع الأمر.
وهي على كل حال كلمة.
تحمل الكلمات سلطة. وقد علمتني تجربتي في الكتابة أن لا سلطة تفوق سلطة الكلمة. وليست اللغة، على كل حال، إلا كلمات.
الكلمات رموز مفاهيمية لها خواص دلالية وتلميحية. تعني كلمة “السلطة” الإكراه والقوة المادية والمقاومة، لكنها تفيد ضمنيًا الإقناع والإيحاء والإلهام والأمن.
تأمل كلمات مارك أنطوانيوس في مسرحية شكسبير “يوليوس قيصر”:
ثم يصرخ “الخراب الخراب” ويرسل على البلاد ذئاب الحرب العادية، وسباعها الفرَّاسة الضارية.
حتى تتصاعد فوق أديم الأرض روائح الجيف العفنة المنتنة،
وتئنّ جيف الرجال وتنادي: ألا دافن يحثو علينا التراب؟!
قد يشقُّ علينا أن نجد كلمات بقوة هذه الكلمات وقدرتها على التحريض وتأجيج المشاعر وبعث العنف والدمار. لكن هناك بلا شك تعبيرات أخرى تتجلى فيها سلطة الكلمات وقوتها.
قد تكون الكلمات ذات طابع شخصي خاص. فقد تلامس أحاسيسنا بطرقٍ مختلفة وفردية، ربما لأن المعاني التي تتداعى مع هذه الكلمات تختلف من شخصٍ لآخر. تخيفني كلمة “الهولوكوست” لأن الناجين من معسكرات الموت النازية رووا لي ما قاسوه؛ ورغم ذلك فإن الكلمة في حد ذاتها قوية ومزعجة.
تسعدني كلمة “طفل”، وتربكني كلمة “حب”، وتحيرِّني كلمة “إله”. لقد عشت حياتي كلها تحت سحر الكلمات التي منحت عقلي قوة.
إن للكلمات قداسة. وهي، في رأيي، عند الأطفال أكثر قدسية منها عند أغلبنا. وأنا أتلمس طريقي أول أمري إلى اللغة قص لي والدي وهو من سكان أمريكا الأصليين وأحد أفراد قبيلة كيوا قصصًا من تراث قبيلته الشفهي. لقد امتلأت بهذه القصص التي فتنتني وأبهرتني وغذت مخيلتي وروحي. وما من شيء، في الواقع، شكّل رؤيتي للعالم أكثر من هذه القصص. لقد فهمت منها أن القصة هي قاطرة اللغة وأن الكلمات لب اللغة.
وجدت نفسي، قبل سنوات، على خشبة المسرح مع عالم الحفريات البشرية الكيني ريتشارد ليكي في شيكاغو. كنا نتحدث عن موضوع الأصول، أصل البشر على وجه التحديد. زعم السيد ليكي أننا صرنا بشرًا عندما صرنا نمشي على قدمين، وكانت حجته مقنعة. لكن كان لي رأيٌ مختلف: فلا شك أننا لم نصبح بشرًا إلا عندما اكتسبنا اللغة، وما زلت على رأيي هذا.
إن اللغة هي ما يميز نوعنا البشري عن الأنواع الأخرى. إنها كما نفهمها اليوم اختراعٌ بشري، نظام تواصل يعتمد على الأصوات والرموز – أي الكلمات المنطوق منها والمكتوب. كان العَالِم والكاتب الراحل لويس توماس في كتابه “الأنواع الهشّة” يتأمل في أصل اللغة، وذكر أن الناس كانوا يعيشون في الكهوف، وذات يوم اجتمعت مجموعتان معًا، ثم تجمع عددٌ كبيرٌ من الأطفال ولعبوا طوال اليوم، وفي نهاية ذلك اليوم صار عندنا لغة.
يبدو من غير المعقول أن يتعلم الطفل اللغة في سن الثانية أو الثالثة، لكن هذا ما يحدث في المسار الطبيعي للأحداث. أظن أن ذلك يحدث لأن الأطفال يحبون اللعب بالكلمات ولا يخافون منها. لكنهم مع مرور الوقت يتعرفون على قوة الكلمات، كونها يمكن أن تجرح أو تُفرِح، ويمكن أن تدعو إلى الحرب وإلى السلام، ويمكن أن تعبر عن الكراهية وعن الحب.
كان من حسن حظي خلال عملي أستاذًا للأدب الإنجليزي والأمريكي أن أدرِّس مقررات حول التراث الشفهي لسكان أمريكا الأصليين. ثمة أثرٌ في هذا التراث يقول “في البدء كانت الكلمة، ثم نُطق بها”.
قد تكون سلطة اللغة الأساسية وقوتها متحققة في التعبير الشفهي. لا شك أن التراث الشفهي أقدم بكثير من الكتابة وهذا يتطلب منا أن نهتم لأمر الكلمات. يجب ألا نضيع الكلمات؛ وأن نتحلى بالمسؤولية إذا تكلمنا؛ وأن نصغي بعناية، ونتذكر ما يُقال لنا.
هناك تعويذة في مأثور شعب النافاجو لجعل العدو مسالمًا، تقول هذه التعويذة:
ضع قدميك في غبار الطلع.
ضع يديك في غبار الطلع.
ضع رأسك في غبار الطلع.
ستصير قدماك غبار طلع.
ويداك غبار طلع.
وكل جسمك غبار طلع.
عقلك غبار طلع.
وصوتك غبار طلع.
ثم يصير أثرك جميلا.
ابق مكانك.
الآن هذه هي القوة.
الكاتب: مؤلف وشاعر وكاتب مسرحي. حاصل على جائزة التراث الأمريكي كين بيرنز لعام 2019. وحصلت روايته “منزل مصنوع من الفجر” على جائزة جائزة بوليتسر للخيال عام 1969.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
The Sacred Spell of Words
N. Scott Momaday
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”