تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
الأفكار الكبيرة: لماذا الفن مهم؟
١٨ مايو ٢٠٢٠
إنه يدوم لفترة أطول من القناع السياسي المثير للنزاع الذي نضعه على كل شيء.
يميل الناس، عندما يتحدثون عن الفن، نحو نوع معين من الأسئلة. مَن كان أول مَن عزف لحنًا؟ مَن يملك أسلوبًا معينا؟ مَن يستطيع أن يحكم عندما يتجاوز الاقتباس الحدّ؟ هذه الأسئلة قد تكون للعالم السياسي والتكنولوجي. إن المناقشات حول الأسود مقابل الأبيض – وإذا ما كان بإمكان شخص ما جني 100 دولار في السنة أو مليون دولار في السنة من فنه – هي في رأيي مجرد طرق نقاش مسدودة. فالتكنولوجيا، كما قال ألدوس هكسلي، هي مجرد طريقة أسرع لفعل ما نجهل من الأمور.
لم تكن التكنولوجيا يومًا المنقِذ لنا؛ إذ يمكننا تناول الطعام والنوم والنظر إلى الشاشات وكسب المال – وفعل جميع مظاهر وجودنا المادي – لكن هذا لا يعني كل شيء. الفن هو عكس ذلك تمامًا، إنه لانهائي، ولن يكون العالم من دونه موجودًا بصورته الحالية. إنه يمثل الروح اللامادية: الحدس، وكل ما نشعر به في وجداننا. يبدو الفن مهمًا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى؛ لأنه يدوم لفترةٍ أطول من ذلك القناع السياسي المثير للنزاع الذي يغلّف كل شيءٍ حولنا.
يمكننا أن نجد في الفن نوعًا متواضعًا من الحكمة. إذ نرى المواضيع والأفكار تتكرر على مدى حيوات متعددة. وهذه الأفكار لا تخص شخصًا واحدًا بعينه، ومع تطورها واختفائها وظهورها من جديد، فإننا نتذكّر أنه بغض النظر عما يحدث الآن، ستكون حياتنا على هذه الأرض دائمًا جزءًا من شيء أكبر. وإذا كان بمقدرة أي عالم فلك أن يخبرك أن ما نعرفه عن الكون يشكل جزءًا بسيطًا مما يجب اكتشافه، فبنفس الطريقة، يلهمنا الفن بأن نخرج من قوقعتنا ونعثر على شيء جديد ونلقي الضوء على ما لا نعرفه.
تُزاح الموسيقى قليلاً من هذا المفهوم، لكنها لا تبتعد عنه كثيرًا. هناك فكرة بديهية تقول أنه لا يوجد شيء اسمه الموسيقى “الأصيلة”؛ فبعد ما يمكننا اعتباره الصوت الأول، من جانبٍ روحاني، ستجد أن “أوم” لدى البعض (مقطع لفظي صوفي، يعتبر الأكثر قداسة في الهندوسية والبوذية التبتية، يظهر في بداية ونهاية معظم التلاوات والصلوات والنصوص السنسكريتية أي اللغة الهندية القديمة “المترجمة”) و”آمين” لدى البعض الآخر، كلاهما متشابه.
يستعير الموسيقيون أجزاءً مختلفة من بعضهم البعض ويؤلفونها معًا لتكون خاصة بهم، لكن لا يوجد شيء جديد حقًا، لا يوجد شيء لم يُعزف من قبل. قد يبدو كلود ديبوسي ويوهان سباستيان باخ مختلفيْن، لكن ما فعلاه كان موجودًا بالفعل بطريقةٍ ما.
كانت نشأتي في هارلم عندما كنت صغيرًا، وحين سمعت أداء فاتس والر (عازف الجاز الأمريكي المشهور “المترجمة”) أدهشني عزفه وأدركت أن الجاز سيكون طريقي في هذه الحياة فهو الموسيقى التفسيرية الرائعة؛ وبالطبع، لم يكن علي أن أبدو مثل والر. ولكن بغض النظر عمَن كنت أبدو مثله، فإن الاختلاف بيننا لن يكون أبدًا أكثر من المستوى السطحي، لأن وراء الأسلوب الشخصي هناك شيء آخر.
لا نستعير بوعي في موسيقى الجاز، بالطريقة نفسها التي قد يستعير بها الفنانون الآخرون. إذ يكمن جمال الارتجال في أنه يتيح لك فعل أي شيء. فأنا لا أعرف ما الذي سأعزفه، وهنا يأتي دور الحدس والتفنّن.
إذا كنت أرغب في الارتجال خلال أدائي مقطوعة “Mary had a little Lamb”، على سبيل المثال، فسأحفظها أولاً؛ لأنني أريد أن أعزف على خشبة المسرح بعقلٍ حرٍّ تماما. ستكون مقطوعة “Mary had a Little Lamb” موجودة، ويمكنني العودة إليها إن أردت، ولكن ما أبتكره أعظم من مجرد الجمع بين الأجزاء – أي القدرة الفنية، والنغمات، والأفكار الموسيقية – التي جمعتها على مدى مشواري. ستكون الأغنية موجودة كخلفية في عقلي، حيث تُخزَّن العديد من الأشياء الأخرى، وبهذه الطريقة تصبح مجرد عنصر آخر يمكنني اللجوء إليه عندما أبدأ العزف. إنّ روح الفن تتلألأ في أدائي عندما أتوقف عن التفكير، عندما أترك الموسيقى تعزف نفسها، وليس الأغنية الوحيدة التي حفظتها فحسب، بل كل الأغاني والتجارب التي تستقر في ذهني. وسأفاجئ حتى نفسي حينئذٍ بتلك الأشياء التي ستبرز لي دون تخطيط مسبق.
أؤمن بالتناسخ الموسيقي (التناصّ)، ممّا يعني أنّ العازف الموسيقيّ لديه الكثير من الأشياء في ذهنه التي قد سمعها بالفعل. إنه يجمعها معًا وبذلك يولِّد أسلوبه الخاص به. قد تتعرف لذلك على أسلوب لويس أرمسترونج، لكنه لايزال مشتقًا من كل نوع من أنواع الموسيقى الموجودة. فأيّ تجارب كانت لديه، أو أي مقطوعات عزفها، سيأخذها ويطويها داخله وستصبح عند خروجها شيئًا جديدًا. وقد تكوَّنت أساليب أشخاص مثل تشارلي باركر، وديزي جيليسبي، وجون كولترين في النهاية من العديد من أرواح العازفين التي تمتد حتى هذا الصّوت الأول. وهذه المواد متاحة لجميع الموسيقيين والفنانين ويمكنهم الوصول إليها. إنها تراكم للحكمة، للسياق الذي يقدمه لنا الفن الذي يضع الحياة في منظورها الصحيح.
إنني أنتقل إلى حالة أخرى عندما أذهب إلى المتحف وأتأمّل إحدى القطع الفنية. لا أعرف كيف يحدث ذلك أو أين، لكني أعلم أنني انتقلتُ إلى جزء ليس من العالم المادي. إنه يتجاوز الروح السياسية والتكنولوجية للثقافة الحديثة. فنحن لسنا هنا لنعيش إلى الأبد، إذ يموت البشر وتفنى الماديات، لكن لا يوجد احتضار في الفن.
كما أُخبر لـ إيان كارلينو.
الكاتب: سوني رولينز عازف ساكسفون حائز على جائزة جرامي، عضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم وحاصل على الميدالية الوطنية للفنون لعام 2010.
المترجمة: أستاذة النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة.
Sonny Rollins: Art Never Dies
Sonny Rollins
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”