مَثل أجيال البشر كَمَثل أوراق الأشجار
هوميروس
من ذا الذي يعرف ما إذا كانت الحياة هي الموت
وأن ما يعتقد الفانون في أنه الموت هو الحياة؟
يوريبيديس
ماذا لو توقف سيزييف وشرب قهوة؟ يبدو هذا السؤال لمن تَريض كثيرًا على تاريخ الفلسفة بدون معنى وسوف يسارع حتمًا إلى وصف سؤالٍ كهذا “بالنزعة الشعرية” ومن ثم تأخذه النزعة التأصيلية فيقرر بأن كاتب هذا المقال يميل للفلسفات القارية وهكذا يغرق في بحورٍ من الأحكام دون أن يصغي “للواقع” مرةً واحدة. على كل حال سيزييف الذي حُكم عليه بدفع الصخرة ومن ثم سقوطها ليعاود الكرة بإستمرار ماذا لو أنه توقف قليلًا وأشعل نارًا وقام بصنع قهوته؟ هذا السؤال اعتراض جذري على مفهومٍ ظل ينخر تاريخ الفكر بعامة وأعني مفهوم “الغاية الأسمى” أو بلغة تطوير الذات ومدربي الحياة “أهداف الحياة” وما سوف أحاجج عنه في هذه المقالة هو التالي : إن وضع غاية قصوى للعيش هو علة شقاء سيزييف وغودو وغثيان سارتر؟ لنتأمل قيلًا : أصل الشقاء السيزيفي كامن في تطلعه لغاية أسمى وأكثر سموًا من دحرجة صخرة ولو أنه أدرك ببساطة بأن الحياة هي هذه اللحظات التي يقضيها في عمله الدؤوب فحسب، ولو تأمل صيرورة الكون والفساد من حوله لما صرخ بمعاناته، لنتخيل سيزييف توقف بعد خمس جولات وشرب قهوة بكل بساطة؟ هنا يعي بأن الحياة تكمن في التفاصيل وليس الشيطان(كما يُفهم من هذا الإسم بوصفه رمزًا للشر) يرتبط هذا المفهوم الفلسفي “الغاية الأسمى” بمفهوم فلسفي آخر وهو “الكلي” أو “الكليات” فلا تكفي الحياة في جزء كالقهوة بل لابد من معنى للمعنى، ومن المهم أن نتخلى عن ثنائية كُلي/جزئي فهي مضللة ولا يمكن أن تصف لنا “الواقع” سيزييف لو تأمل فقط في وجود القهوة بالقوة دون وجودها بالفعل لأنزلق الزمن من تحته دون أن يشعر ، ولأصبح كائنًا ذو كينونة قهوية! هذه المرويات الحديثة سيزييف وغودو والغثيان هي نتيجة لهذا التصور أي “الغاية الأسمى” وكذلك “الكليات دون الجزئيات” إن أفضل وصف للواقع هو أن نقول “ذريات” من ذرة ثم نقفز على طريقة أبيقور ونقول بما أن الذرات لامتناهية فهناك عوالم لامتناهية. سيزييف السعيد ذلك الذي توقف وشرب قهوته حتى انفك تاريخ العالم بأسره على مقدمة لسانه. لكن ماذا عن إنتظار غودو؟ المعضلة هنا كسابقتها فغودو ينتظر لكن من فَرض عليه الإنتظار؟ أقصى ما ينتظره الكائن هو الموت مع ذلك لا يعني بأننا مقيدين بهذا الإنتظار بل علينا أن نشرب قهوتنا دون أن ننتظر زوالها، وأكثر من ذلك البداية والنهاية لكل شيء ليست إلا وهم فما هو بداية عندك نهاية عند آخر وهكذا. إذن هذه المقالة تدافع عن أمرين:
⁃ لا وجود لغاية أسمى في الحياة وهذا المفهوم هو نتيجة ظهور ميثولوجيات سيزييف وغودو والغثيان
⁃ نحن بحاجة إلى خطاب يضع الكلي والجزئي جانبًا ويدافع بشيء من التحفظ عن “الذري”
لنفهم أخيرًا بأن هذه المقالة هي دفاع عن القهوة ولو سألتني ما القهوة ؟ لقلت لك هي ذرة من بين ذرات عدة توقفت عندها قليلًا ولا شيء أكثر من ذلك، ولك أن تقف عند ذراتك كما تشاء، فلسفيًا أقول : الغاية الأسمى شيءٌ يتجاوز تناهي الإنسان فليس هناك “أسمى” ولكن هناك غايات لحظية تنتهي بعد أن نفرغ منها، كما أن الغاية الأسمى مفهوم يفترض الكلي ويفترض عدم التغير كذلك يفترض حظًا سعيدًا وهو مما لا نملك قدرة عليه، أرسطو تأثر كثيرًا بالمسرح التراجيدي كما تذكّرنا مارتا نوسبوم حيث وجد بأن السعادة لا تتحقق لو كان حظنا سيئًا، كما في المسرح التراجيدي تلك الشخصيات التي حَكم عليها القدر بالمعاناة الجذرية، ومهما فعلت فهي تُقاد إلى معاناتها دائمًا. لا نحتاج إلى أهداف ولا كليات تحطم جمالية العالم، بل ما نطمح إليه هو أن نتعلم كيف نعيش، ولتعلم هذا الأمر نحتاج إلى دورة سيزيفية أبدية. يبقى أن أطرح سؤالًا أخيرًا : هل دورة سيزييف متناهية أم لامتناهية؟ هنا علينا أن نفهم أمرًا في غاية الأهمية وهو لو كانت لامتناهية فهل هي كذلك بوصفه سيزييف “هو هو” أم كائن أخر؟ لنتأمل فكرة العود الأبدي عند نيتشه فكل شيء يعود كما كان عليه إلى الأبد مع ذلك لدي اعتراض وهو : نعم كل شيء يعود ولكن بلا هُوية. سيزييف سيموت بوصفه سيزييف ولكن ما يعود هو شيءٌ آخر لا أدري ما هو لأنني لا أملك بدوري “هُوية”..
أتوقف الأن لأشرب قهوتي وأظنها تجمدت!