الأنا والأنت والهو
شايع الوقيان
الجزء الأول:
(الآخر بوصفه لي)
“الآخر هو كلُّ من ليس أنا. هو كل العالم بما فيه، كل شيء لا ينتمي إلى هويتي الذاتية.”
الهوية نوعان: الهوية الفردية وهي الأساس المادي الراسخ والمضطرد الذي تجري عليه مغامراتي الوجودية. ويعد الجسد المكون الأبرز للهوية الفردية.
والنوع الثاني الهوية الشخصية، وهي ما يميزني عن غيري من الأشخاص ككائنات اجتماعية. فالفرد عموماً يتحول إلى “شخص” بفعل التربية والتنشئة الاجتماعية، علاوة على التحقق الفعلي للاستعدادات والمهارات الذاتية. وهكذا فهويتي الشخصية ليست أنا كفرد مجسّد ذي ملامح وتركيبة جينية معينة، بل تتسع لتشمل انتمائي الاجتماعي وعقائدي وخصائصي العقلية ومزاجي النفسي وذكائي وغبائي وبتعبير أدق: هي خبرتي الوجودية في كلّيتها.
بعد هذا الإيضاح يبدو أن تعريف الآخر الذي بدأنا به المقال يحتاج إلى إعادة نظر.
“الآخر هو كل ما ليس أنا، هو كل ما لا ينتمي إلى هويتي الذاتية.” هذا التعريف يضمر تعريفاً للأنا: الأنا هي كل ما ليس الآخر! ويبدو أننا أمام ما يسميه فخته بالتعيين المتبادل (mutual determination). لكن الإشكالية تتجلى في عبارة “هويتي الذاتية”. فلقد عرفنا أن الهوية الذاتية نوعان: فردية ويعبر عنها نصيبي المادي في كون فيزيائي-فسيولوجي معين (هو كوننا المادي كما نعرفه). وهذا “النصيب” أو القسط المادي يربطنا – وراثياً- بأسلافي. ولكنه يظل ملكاً لي وحدي، ولا يمكن لجسدي أن يكون لغيري (= إلا بشكل مصطنع؛ تبعاً لإرغامات الثقافة: تذكرْ الختان والوشم وثقب الآذان و.. إلخ).
النوع الثاني هو الهوية الشخصية، ومن الجلي أن المجتمع يتدخل بعنف لتحديد ملامح هذه الهوية (= التربية/ اللغة/ الدين/ السياسية/ …)
فالآخرون (الذين ليسوا أنا) يلعبون دوراً كبيراً في تحديد هويتي الشخصية. وبالتالي فثمة “قسط” من الآخر يكمن في ذاتي. هذا “الآخر المحايث” هو انعكاس لـ”الآخر المفارِق”. فأبي وأمي ومعلمي وأصدقائي وأحبائي وأعدائي يقعون خارج جسدي، ولكنهم يحضرون في ذاتي بوصفهم “آخر مباطناً” أو “محايثاً”. وهذا الآخر المحايث جزء من ذاتي. ويعبر عنه فرويد بالهو والأنا العليا. ومع ذلك فثمة فرق واضح بين الآخر المحايث والآخر المفارق. فالأول يتحول إلى جزء من ذاتي ومن طريقتي في التفكير، ويمكن، في ضوء هذا، أن يكون قابلاً للتعديل والتغيير، وربما الإزاحة والإلغاء. فيمكن لي أن أتخلى عن ديني وعن معتقداتي الاجتماعية. فهي صارت ملكي. وحضور أثر الآخر في جسدي (عبر الوشوم والختان والثقوب والوسوم..) لا يلغي ملكتي له، وقل مثل ذلك في اللغة والدين وقواعد الأخلاق. فالدين ليس لي، ولكنه بمجرد أن يصبح “محايثاً” فإنه يصبح لي. وكذلك اللغة. والشاعر المبدع أوضح تعبير عن الكيفية التي يتحول بها الكلي أو العمومي إلى فردي. فالمتنبي أو محمود درويش يستعمل أرشيف اللغة من أجل “خلق” فني جديد. فاللغة هنا تصبح لغة الشاعر الخاصة.
صحيح أني لا أملك جسدي بشكل مطلق، وكذلك لغتي. فجسدي يخضع لقوانين كلية عصية على المقاومة كقوانين الطبيعة. واللغة بدورها، فمهما كانت لي، فإن بها شيئاً كلياً، كقواعد النحو وأنساق التواصل ( =الحد الأدنى للفهم المتبادل).
إن التعيين المتبادل ضروري لتشكل الهوية الشخصية، وبالتالي فالآخر حاضر في الأنا. وأسميناه “الآخر المحايث”. لكن مما يجدر ذكره أن هذا “الآخر” يظل لي: إنه “آخري”.
وهكذا نعيد صياغة التعريف ليكون كالتالي:
الآخر هو الآخر المفارق.
والتعريف السلبي للأنا: هي كل ما ليس آخر مفارق.