تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٩ أكتوبر ٢٠١٥
هذه هي أحدث سلسلة مقابلات مع فلاسفة عن العرق أجريها لصالح ذا ستون The Stone. محادثة هذا الأسبوع مع سيلا بن حبيب أستاذة يوجين ماير للعلوم السياسية والفلسفة في جامعة ييل. لها العديد من المؤلفات منها : “الكرامة في الشدائد: حقوق الإنسان في الأوقات العصيبة”.
جورج يانسي: كيف ترين أهمية المجال العام كموقع للنقاش النقدي للقضايا المتعلقة بإصرار العرق وواقعها في أمريكا؟
شيلا بن حبيب: نجري هذا الحديث عقب إطلاق النار على الكنيسة في ساوث كارولينا. الخدمات التذكارية المؤثرة والملهمة للضحايا وإزالة علم الكونفدرالية من أراضي مبنى الكابيتول في ولاية كارولينا الجنوبية. لقد أثارت هذه الأحداث بعض النقاشات الهامة حول الرمزية العرقية في المجال العام لأمريكا الشمالية. لقد تم تذكيرنا جميعًا بوجود الماضي، ولإعادة صياغة مقولة ويليام فولكنر أقول: “الماضي لم يمت أبدًا. إنه ليس من الماضي”.
لم أكن أعرف مثلًا أنَّ العلم الكونفدرالي قد تم إحياؤه في الولايات الجنوبية أثناء حركة الحقوق المدنية وبعدها في تحدٍّ واضح للمساواة العرقية والتكامل. لم يكن هذا مجرد علم حاربه جنود الكونفدرالية وماتوا تحته. لقد أصبح -كما أخبرنا بعض ممثلي جنوب كارولينا- رمزًا للتحدي والكراهية، وتذكيرًا بأنَّ الحرب الأهلية ربما تكون قد انتصرت، لكنَّ معركة التغلب على التحيز العنصري لم تنته بعد.
ج.ي.: نعم. نجد في عالمنا أنه رغم عدم حصرنا بعلامات الكراهية ورموزها، فإننا نتعرض للعلامات والرموز العنصرية.
س.ب: نحن نعيش في مجتمعات تلفزيونية تغرق في الرسائل والصور والرموز التي تنتشر بضغطة زر. ينشئ الإنترنت صورًا أيقونية من فوره، ويمكن أن يكون لها قوة جلفنة للخير والشر. فكر في صورة ندى الفتاة الإيرانية التي التُقطت صورتها عام 2009م خلال المظاهرات المناهضة للنظام في طهران، أو محمد البوعزيزي بائع الخضار التونسي الذي أضرم النار في نفسه عام 2011م، وأدى موته إلى اندلاع ما يسمى بالربيع العربي. تشير مثل هذه الصور إلى قوة الاتصال الإلكتروني والتليفزيوني في الثقافة العامة .
هذه التقنيات الجديدة في المجال العام تتحدى أيضًا المجتمعات الديمقراطية؛ حيث إنَّ سرعة تداول الصور كثيرًا ما تطغى على العمليات التواصلية والتداولية التي يجب أن تتم بين جميع المتأثرين لتحليل ما تنطوي عليه هذه الصور وفهمه، سواء كانوا يقصدون الشيء نفسه لجميع المعنيين أم لا، وإذا لم يقصدوا ذلك، فكيف أو لمَ لا؟ تجد في المجتمعات التي لا تزال منقسمة بشدة على أسس عرقية وإثنية -وإن لم يكن من الناحية القانونية والدستورية- أنَّ هذه المحادثة العامة تصبح أكثر أهمية لتعلم التعايش. كما رأينا في قضية مذبحة ساوث كارولينا، أحيانًا يكون الحزن والأسى الذي مزق نسيج الحياة اليومية مدرسين أقوياء يمكنهم توليد التعاطف والتضامن غير المتوقعين.
ج.ي.: كثيرًا ما نفشل في فهم بعضنا بالانقسامات العرقية. قد يؤدي خطاب “ما بعد العرق” إلى عرقلة الجهود المبذولة للقيام بذلك. كيف نخلق مساحات لفهم ظروف الآخرين لا سيما في سياق الحدود العرقية التي تفرقنا؟
س.ب .: اسمحوا لي أن أبدأ بذكرى شخصية. لقد أتيت إلى هذا البلد أول مرة من إسطنبول -تركيا- كطالب مبتعث أجنبي عام 1970م إلى جامعة برانديز. البرنامج الذي رعاني -وهو برنامج Larry Wien الدولي- حقق نجاحًا كبيرًا في التوعية في البلدان الأفريقية، وكان هناك كثير من طلاب Wien الأفارقة. ومع ذلك، لمَّا جلسنا في كافتيريا الطلاب، كان الطلاب الأفارقة يجلسون بجوار الطلاب الأمريكيين من أصل أفريقي، ونفصل عن أنفسهم في إحدى أكثر المؤسسات تقدمًا في البلاد آنذاك.
ج.ي.: ماذا كان ردك على هذا؟
س.ب .: لقد شعرت بالإهانة تقريبًا من هذا. لقد جئت من بلد مقسم على أساس كل أنواع الخطوط العرقية والدينية، لكن ليس خط اللون. بعد أن كنت ناشطة في الحركة الطلابية عام 1968م وما بعده، كان مما لا أفهمه أنَّ إخواننا أولئك على الأقل الذين يشاركوننا وجهات نظر سياسية متشابهة لا يمكن أن يكونوا أصدقاء وزملاء. كان برانديز مثل كثيرين من أمريكا الشمالية في ذلك الوقت، في قبضة أشكال من الانفصالية السوداء. كانت أنجيلا ديفيس طالبة لدى هربرت ماركوز في برانديز، وقد جئت للدراسة مع ماركوز ، ولم أدرك أنه قد غادر إلى جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. لم يكن ذلك حتى التحقت بكلية الدراسات العليا بجامعة ييل وتكوين صداقات مع لورينزو سيمبسون وروبرت جودينج ويليامز حتى بدأت أفهم شيئًا عن عمق وتأذي خط الألوان في هذا البلد.
أشارككم هذه الحكاية لأنه -كما ذكّرتنا إيريس ماريون يونغ- لفهم بعضنا بالانقسامات العرقية وكثير من التقسيمات الأخرى، يجب أن نبدأ بـ “التحية” و “سرد القصص”. من أسوأ جرائم العنصرية أنها تعمينا عن هوية الفرد، فيصبح لون بشرتك القناع الذي أراه -وغالبًا لا أريد أن أراه- خلفه الشخص الحقيقي. وكما يذكرنا Du Bois تلميذ هيجل، فإنَّ الذي يوجد في الوضع المسيطر على دراية بمنظور السيد الذي يقول: إنها تدرك نفسها كما يراها الآخر. هذا هو الوعي المزدوج الذي يجب أن نتعلم كيف نفهمه. يجب أن نتعلم أن نرى بعضنا ؛ لاستخدام المصطلحات التي قدمتها في “وضع الذات” على أنها “العامة” و “الأخرى الملموسة”.
نحن –كبشر- مثل بعضنا، ولنا حق الاحترام والكرامة نفسه، لكننا نختلف أيضًا عن بعضنا بسبب تاريخنا النفسي الملموس، وقدراتنا، وخصائصنا العرقية والجندرية، إلخ. تتعلق الأخلاق والسياسة بالتفاوض على هذه الهوية في الاختلاف عبر جميع الانقسامات. نحن نعيش في مجتمع “ما بعد العرق” فقط بمعنى أننا جميعًا معممون في نظر القانون. ولكن كما نتعلم بشكل مؤلم، فلسنا في أعين القائمين على تطبيق القانون. كاتب البنك الذي يقرر الحصول على قرض عقاري أو حتى لاستخدام مثال كورنيل ويست الشهير، وسائق سيارة الأجرة في نيويورك الذي يرفض اصطحاب الرجل الأسود. إنَّ تاريخ التمييز والهيمنة والصراع على السلطة بين الآخرين الملموسين يفوق وجهة نظر الآخر المعمم.
ج.ي.: لاحظت في “المزاعم النسوية: تبادل فلسفي”، “ولكن في أعمق فئاتها، تمحو الفلسفة الغربية الاختلافات بين الجنسين؛ لأن هذه تشكل خبرات الذات وذاتية”. هل صحيح أيضًا أنَّ الفلسفة الغربية تمحو الاختلافات العرقية؟ وكيف تشكل هذه الفئة الاجتماعية تجارب غير البيض؟
س ب: الفلسفة الغربية المتميزة عن الأسطورة والأدب والدراما والعديد من أشكال التعبير البشري الأخرى، تتحدث باسم الكوني. تظهر الفلسفة عندما أظهر سقراط وأفلاطون كيف يتعين علينا تحرير أنفسنا من “أصنام المدينة”، وعندما يسأل من قبل سقراط عن ماهية المادة والكون، رافضين الإجابات التي قدمتها الأساطير اليونانية الشركية. هناك شيء تخريبي في هذا الدافع الفلسفي، وحتى عندما يعيد أفلاطون تدوين الاختلافات في المواهب الطبيعية والقدرة على ترتيب المدينة، فإنه يفعل ذلك عن طريق تخريب النظام المعمول به في السياسة اليونانية، حيث لا يوجد إلا أرباب الأسر الذكور الأحرار الذين كانوا مالكي عبيد أيضًا، وكانوا مواطنين أحرارًا. وحسب موقع “الجمهورية” ، فإنَّ الاختلافات في المدينة لن تكون على أساس الوضع الاجتماعي والاقتصادي، بل على المواهب والقدرات التي يظهرها الأطفال بشكل متفاوت عند الولادة، فبعضها برونزي، وبعضها من الفضة، وقليل منها ذهب.
ج.ي.: نعم. هذه كذبة أفلاطون النبيلة.
س.ب .: نعم. من المهم التمسك بهذه اللحظات في ولادة نظامنا؛ لأننا بدلًا من شجب التقليد الفلسفي الغربي باعتباره الشريعة التي أنتجها “الرجال البيض الأموات”، نحتاج إلى تذكر لحظة الانفتاح والإغلاق والتخريب والاستعادة للحرية والهيمنة الموجودة في هذه النصوص التي نحبها من “الجمهورية” إلى “فلسفة الحق” لهيجل، ومن “السياسة” لأرسطو إلى “رسالة لوك الثانية عن الحكومة المدنية” ومن “العقد الاجتماعي” لروسو و “إميل”؛ فإنَّ ديناميكية الانفتاح والإغلاق هذه صامدة. وفي سياق ديناميكية الحرية للبعض والسيطرة على الآخرين، نحتاج إلى فهم الجنس والاختلاف العنصري.
ج.ي.: ربما يمكننا التفكير هنا في ادعاء هيجل أنَّ السود ليس فيهم جيولوجي (تقريبًا روح أو وعي)، واستثمار لوك في تجارة الرقيق.
س.ب .: كان جون لوك أيضًا مدرسًا وسكرتيرًا لإيرل شافتسبري، وكتب له دستور كارولينا. لوك مستعمر يعتقد أنَّ عمل الرجل الأبيض في الاستيلاء على الأرض والعمل بها سيخلق حالة تعود بالنفع على الجميع. ولكن من الذي يعمل في الأرض؟ ليس السيد بل الخادم، ونعلم تاريخيًّا أنه لم يكن هناك فقط خَدَمٌ بيض مُعاقَب عليهم متعاقبون أثناء فترة لوك في المستعمرات البريطانية، ولكن تم استعباد السود أيضًا. في ضوء وجود هؤلاء “الآخرين” الذين يطاردون النص، ما الذي نصنعه بنظرية لوك في الموافقة والمساواة والعقلانية؟ ما مقدار “تلوث” هذه المُثل بوجود الآخر الذي لا يُفترض أبدًا أنَّ عقلانيته سوية؟ هذا هو نوع السؤال الذي يقودنا التحقيق النقدي للعرق في هذه النصوص إلى طرحه.
هيجل -على عكس لوك صاحب نظرية الحقوق الطبيعية- يتمتع بإحساس عميق بالتاريخ، وهو واقعي اجتماعي عظيم. لا أعرف أبدًا ماذا أفعل في “محاضرات حول فلسفة التاريخ”، حيث يناقش إفريقيا، ويدَّعي أن السود ليس فيهم أيُّ جيولوجي. يبدو أنه كان جاهلًا. كانت هذه محاضرات شائعة، وكانت شديدة التسهيل. هيجل -على عكس لوك الذي كان على دراية بحقائق الاستعمار وتجارة الرقيق- يناقش “الربوبية والعبودية” بطريقة أكثر تساميًا وتجريدًا في “ظاهرة الروح” دون الإشارة كثيرًا إلى استعمار العالم الجديد. ومع ذلك، لديه كثير ليقوله عن حقيقة أن الأشخاص لا يمكن أن يكونوا ممتلكات، وأنَّ العبودية ضد حرية الإنسان والعقل في “فلسفة الحق”.
كل هذا يعقد السؤال عن كيفية قراءة هيجل، والأهم من ذلك كيفية ملاءمته بين الفلسفة النقدية وبين نظرية العرق. من الواضح أنَّ دو بوا فعل ذلك ببراعة من خلال فصل قوة الفئات الهيجلية عن المعرفة التاريخية المحدودة لهيجل والتحيز الشخصي. حتى إنَّ Du Bois في “The Souls of Black Folk” نشر مفهوم “Volksgeist” للسود، للتحقيق في إنجازاتهم وروحهم الجماعية.
ج.ي.: أعتقد أنه من المهم أن نذكر أنه ضمن التقاليد الفلسفية الغربية، يكون للعقل المرمز إلى الأبيض والذكر، امتياز على الجسد ذو سر أنه أنثى أو دلالة على السواد، وهذا يخلق ممارسة زائفة غير جسدية.
س.ب .: بالطبع، أنا أتفق معك. يُظهر السيد أيضًا “السيادة” على مشاعره وعواطفه، حيث تعني الهيمنة على الآخر الهيمنة على الآخر في الداخل. وكما جادل أدورنو وهوركهايمر ببراعة في “جدلية التنوير”، فإنَّ العقل يُفهم في الفلسفة الغربية على أنه “نسبة”، باعتباره عقلًا أدائيًّا، وهو العقل الذي ينوي في كلمات ديكارت الشهيرة أن يجعلنا “سادة الطبيعة وأصحابها”. هذه النسبة هي أداة الهيمنة الاجتماعية للآخرين. والعبد -سواء كان أسودًا أو أبيض- يتم تمثيله دائمًا كجزء من نظام الطبيعة الذي يحتاج إلى السيطرة والقهر. مثل هذا الفهم للعقلانية يجلب معه ازدواجية العقل / والجسد.
ومع ذلك، علينا أيضًا أن نتذكر أنَّ هناك وجهة نظر مختلفة لعلاقة العقل بالعواطف، وعلاقة الجسد بالروح، وهي علاقة أكثر اتصالًا بالتعليم والتكوين والتشكيل، لا الهيمنة. أود أن أزعم أنه من أرسطو إلى هيوم إلى سميث وحتى هيجل الأوائل، نجد نموذجًا آخر للعقلانية على أنه “الذكاء المتجسد”، مثل تشكيل العاطفة عن طريق العقل بدلًا من هيمنتها. جون ديوي أكثر الفلاسفة إيضاحًا لهذا الفهم البديل للعقلانية.
ج.ي.: بصفتك منظّرة سياسيّة، هل تعتقدين أنَّ الديمقراطية قادرة حقًّا على تحقيق المساواة للسود، لترجمة حقوق الإنسان العالمية بالكامل إلى تغيير حقيقي لهم، لا سيما أنهم ظلوا مئات السنين يعتبرون أشخاصًا فرعيين؟
س.ب .: لا أعتقد أنَّ الديمقراطية هي التي تخذل السود في الولايات المتحدة، لكنَّ الهجوم على الديمقراطية نفسها من خلال قوى رأسمالية الشركات العالمية يسير في فوضى. وصعود حركة انتقامية وعنصرية محافظة هو الذي يتفكك. الميثاق المدني. الديمقراطية مستحيلة دون أحد أشكال المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين المواطنين. بل تجد في الولايات المتحدة في العقدين الماضيين أن قد اتسعت الفجوة بين أعلى 1 في المائة والباقي، وتمت محاصرة حقوق التصويت وحقوق النقابات. هناك إهمال إجرامي متفش للسلع العامة، مثل: الطرق السريعة والسكك الحديدية والجسور، ناهيك عن الهجوم الوقح للأموال الضخمة لشراء الانتخابات منذ قرار المحكمة العليا “المواطنون المتحدون”. لقد أصبحنا ديمقراطية جماهيرية تنتج الجمود في المؤسسات التمثيلية على وجه التحديد؛ لأنه من مصلحة رأسمالية الشركات العالمية جَعْلُ المؤسسات التمثيلية غير فعالة.
أخشى على مستقبل الديمقراطية في الولايات المتحدة، وأنا ممتنّة؛ لأنَّ لدينا -على عكس البلدان الأخرى- جيش يؤمن بالديمقراطية ولا يميل إلى الانقلاب. لكنَّ هناك قوى أخرى تعمل على تقويض المؤسسات الديمقراطية. لا يمكن للديمقراطية أن تحيا إلا كديمقراطية اشتراكية، وهذا ما نفتقده في الولايات المتحدة. وفي ظل ظروف تزايد عدم المساواة وهجمات الأثرياء على الديمقراطية، فإنَّ أكثر السكان ضعفًا مثل مجتمعات السود في المناطق الحضرية أو الريفية، هم الأكثر تضررًا.
أجريت هذه المقابلة عن طريق البريد الإلكتروني وتم تحريرها. المقابلات السابقة في هذه السلسلة (مع ليندا مارتن ألكوف، وجوديث بتلر، ونعوم تشومسكي، وتشارلز ميلز، وبيتر سينجر، وكورنيل ويست، وآخرين).
المُحاور: جورج يانسي أستاذ الفلسفة في جامعة إيموري، كتابه الأخير هو “عبر الفضاءات السوداء: مقالات ومقابلات من فيلسوف أمريكي.”
المترجم: باحث متخصص في العلوم الإنسانية، مهتم بالفلسفة والتاريخ.
?Whom Does Philosophy Speak For
George Yancy and Seyla Benhabib
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”