تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١٧ فبراير ٢٠١٣
في شهر أغسطس من عام ١٥٦٣، تعرّف الكاتب الفرنسي المشهور ميشيل دي مونتين على ثلاثة برازيليين من آكلي لحوم البشر والذين قدموا لزيارة مدينة روين في فرنسا استجابة لدعوة من الملك تشارلز التاسع. لم يغادر هؤلاء الرجال البرازيل من قبل، وحقق معهم الملك (والذي كان يبلغ من العمر الثالثة عشر في ذلك الوقت) بشكل مطول، وإذا لم يُصيبوا بالفعل ببعض الأمراض الأوروبية الخطيرة، فإنهم بالتأكيد يكابدون حالة شديدة من التصادم الثقافي. وعلى الرغم من ذلك، كان لديهم قدر كافٍ من الهدوء للرد بوضوح على أسئلة مونتين عن أفكارهم حول محيطهم الجديد.
تمتاز الملاحظات التي شاركها البرازيليون الأصليون بخاصية فكاهية. نظرًا لأنهم واجهوا المجتمع الفرنسي مجددًا بمنظور مختلف، فإن ملاحظاتهم تجعل المألوف يبدو تافهًا. ولكنها أيضًا تُظهر جوانب من النواحي الأخلاقية. أولاً عبّر البرازيليون عن تفاجئهم بأن “الكثير من الرجال الملتحين، وجميع الرجال الأقوياء والمسلحين” (كحرّاس الملك) كانوا مستعدين لأن يتلقوا الأوامر من طفل صغير: وهذا أمرٌ محال في مجتمعهم. وثانيًا، كان البرازيليون في صدمة من عدم المساواة الحادة للمواطنين الفرنسيين، حيث ذكروا في تعليقهم بأن بعض الرجال “كانوا مشبعين بشكل كامل بأمور عديدة ومختلفة” بينما كان آخرون “يتسولون عند أبوابهم، هزيلين بسبب الجوع والفقر”. لأن البرازيليين نظروا لجميع البشر على أنهم “أنصاف من بعضهم البعض . . . فقد وجدوا أنه من الغريب أن هذه الأنصاف المصابة بالفقر تعاني من مثل هذا الظلم، وأنهم لم يهاجموا أحدًا حتى الآن ولم يحرقوا بيوتهم”.
يسجّل مونتين هذه الملاحظات في مقال بعنوان “آكلي لحوم البشر” “Des Cannibales”. يتحدى المقال قبل زمنه بوقت طويل التحيّز المتغطرس تجاه آكلي لحوم البشر الذي كان شائعًا بين أقران مونتين، ولكن ليس من خلال الجدل بأن أكل لحوم البشر بحد ذاته ممارسة مقبولة أخلاقيًا. بدلاً من ذلك، يقدّم مونتين ادعاءً أكثر تحفيزًا، وهو أنه حتى وإن بدا هؤلاء البرازيليون بأنهم وحشيين فإن وحشيتهم لا تُقارن بوحشية الشعب الأوروبي في القرن السادس عشر. لدعم حجته، يستشهد مونتين بأدلة عديدة: البساطة الرزينة والنُبل الأساسي للبرازيليين الأصليين؛ حقيقة أن بعض أشكال التعذيب الأوروبية، والتي تضمنت إطعام الناس كلابًا وخنازيرًا وهي مازالت حية، كانت بالتأكيد أكثر فظاعة من ممارسات البرازيليين الأصليين المتمثلة في أكل أعدائهم بعد موتهم؛ حيث ظهر الطابع الإنساني العادل للوعي الأخلاقي للبرازيليين في ملاحظاتهم المسجلة.
على الرغم من كل هذا، كانت حقيقة أن شعوب أوروبا الغربية في القرن السادس عشر ظلت متيقنة بشأن تفوقها الفكري والأخلاقي بشكل عميق، بالنسبة لمونتين، دليلاً على ظاهرة أكثر عمومية. يكتب قائلاً:
نطلق على أي شيء يُخالف عاداتنا وصف “وحشي” (بربري). يبدو بالفعل أننا لا نمتلك أي معيار آخر للحقيقة والعقل غير نوع وفصيلة الآراء والعادات الدارجة في البلاد التي نعيش فيها. دائمًا ما نرى فيها الدين الأمثل والنظام السياسي الأمثل والطريقة المُثلى والأكثر إتقانًا للقيام بكل شيء.
لم يكن مونتين بالتأكيد أول شخص يلاحظ ميلنا لافتراض وبشكل مباشر تفوّق المعتقدات والممارسات المحلية. المؤرخ الإغريقي هيرودوت من القرن الخامس قبل الميلاد، دوّن ملاحظات مشابهة للغاية في تاريخه، يُشير فيها بأن جميع الشعوب “اعتادوا على اعتبار أن عاداتهم هي الأفضل وبلا منازع.” يرثي القديس اللاهوتي أوغستين في رسالته التاسعة والثلاثون والتي تعرض جدالاً مبكرًا ضد التسامح الديني، الطريقة التي تصدر بها العادات القديمة مقاومة ضيقة الأفق لمعتقدات وممارسات بديلة، يجادل بأن من الأفضل إيقافها من خلال التهديد بالعقاب. عندما أطلق عالم الاجتماع وليام قراهام سومنر William Graham Sumner من القرن التاسع عشر على هذه الميول “بالمركزية العرقية” (ethnocentrism)، أصبح المصطلح والإدعاء الذي يصاحبه ترنيمة للأنثروبولوجيا الثقافية الخاصة بالقرن العشرين.
المركزية العرقية هي نزعة ثقافتنا لتحريف تقديرنا للأمور لصالح المعتقدات والممارسات المحلية وضد أي بدائل أجنبية. اعتبرها ظاهرة لا تحتاج إلى تأكيد امبريقي إضافي. من الواضح جدًا أن جميعنا يتصرّف بمركزية عرقية لدرجة معينة على الأقل. أنا كندي وعشت في ظل رعاية صحية مجانية مقدّمة من الحكومة. يبدو هذا النظام عادلاً ومعقولاً لأغلب الكنديين، بما فيهم أنا. لذلك أجد صعوبة في فهم شراسة الكثير من المعارضين من أجل إصلاح الرعاية الصحية في الولايات المتحدة. ولكن بشكل متساوٍ فإن شخصًا ما نشأ في منطقة تكساس من المرجح أن يجد إحساسي بما هو “عادل” مشكوك فيه للغاية.
لطالما كان الفلاسفة على وعي لفترة طويلة بدور الثقافة والتنشئة في تسهيل التفاوت الأخلاقي من هذا النوع. وبدأ علماء النفس الأخلاقي مؤخرًا في تقديم اعتبارات نافذة البصيرة للقوى النفسية التي تجعل من هذه الاختلافات منغلقة عن الحلول من خلال نقاشات متعقّلة. على سبيل المثال، يجادل جوناثان هيدت Jonathan Haidt في كتابة الأخير “The Righteous Mind: Why Good People Are Divided by Politics and Religion” أن بعيدًا عن كونه طريقة للتمسك بمعتقداتنا الأخلاقية لدرجة الاستقراء النقدي، فإن التفكير الأخلاقي هو بشكل عام شيء نستخدمه لمجرد إقناع الآخرين بمعتقدات تمسكنا بها لفترة طويلة ولا ننوي التخلي عنها. إذا ما تأملنا ماذا تعني المجادلة مع آخرون يختلفون معنا بشأن أمور سياسية أو أخلاقية بشكل جذري، فيبدو أن هيدت فهم شيئًا ما بشكل صحيح. لا يمكن في كثير من الأحيان لأي قدر من التفكير المقنع أو الحجة الواضحة أو كشف التناقض أن يحولنا عما نعتقده بالفعل.
في ضوء التصعيد المؤخر للحزبية في الولايات المتحدة، ناهيك عن التصدعات الأيدلوجية العالمية الأخرى الآخذة في التوسع، أعتقد أنه من المهم أن نتأمل ولو بشكل مختصر كيفية التعامل مع هذه الحقيقة، فيما يتعلق بمركزيتنا العرقية الخاصة بنا. هل حُكم علينا بالمركزية العرقية؟ هل يمكننا تجنبها؟ إن كان الجواب نعم، هل يجب علينا تجنبها؟ هل هل سيئة أصلاً؟
استجاب الفلاسفة للتأثير المنتشر للثقافة على معتقداتنا الأخلاقية بطرق عديدة. الكثير تبنى شكل ما من الشكيّة. ولضرب مثال معاصر، أشار جون ج. ماكي (١٩١٧-١٩٨١) إلى المركزية العرقية كدليل لعدم وجود حقائق أخلاقية موضوعية، أو على الأقل لا يمكننا الحصول عليها. جادل ماكي بأن لو كانت اعتقاداتنا الأخلاقية مفروضة علينا من قِبَل ثقافتنا أو طريقة عيشنا فإنه من غير المعقول التفكير بأنفسنا على أننا قادرين على تمييز الحقائق الأخلاقية الموضوعية. ما هي المساحة المتبقية لمثل هذه الحقائق لتؤثر على وعينا؟ يعتبر ماكي نفسه “منظّر للأخطاء” لأنه وكما يرى، في أي وقت نطلق فيه حكمًا أخلاقيًا يدّعي بأنه حقيقي موضوعيًا سنكون حتمًا مخطئين. ولكن هناك طرق شكوكية أخرى للرد على حقيقة المركزية العرقية. جادل الكثيرون على سبيل المثال بأن تأثير الثقافة على معتقداتنا الأخلاقية ليس دليلاً على نظرية الخطأ بل على النسبية الأخلاقية، فكرة أن الحقيقة الأخلاقية لأي شعب تحددها ثقافتهم مجموعة الممارسات المشتركة والمعتقدات التي يلتزمون بها. نعلم من عدة مصادر بما فيها محاورات أفلاطون، أن بعض الإغريق القدامى دافعوا عن مثل هذه الرؤية. والفلاسفة المعاصرون مثل ديڤيد ونق David Wong وغيلبرت هارمان Gilbert Harman هم ضمن مؤيديها الجادين.
قد تبدو ردود الأفعال المشككة بشأن النزعة العرقية مغرية للوهلة الأولى، إلا أن هناك أسبابًا مهمة يتردد بسببها المرء. أولاً، حتى وإن كان من الواضح أن الثقافة تلعب دورًا هامًا في تعليمنا الأخلاقي، فإنه من الصعب جدًا إثبات أن معتقداتنا الأخلاقية تُحدد بشكل كامل من قِبَل ثقافتنا، أو استبعاد احتمالية أن الثقافات ذاتها تأخذ بعض التوجهات من الحقائق الأخلاقية الموضوعية. بما أن هذه الحجج الصعب إثباتها هي من يحتاج ماكي ومنظري الخطأ الآخرين أن يتبنوها لبناء حججهم، يجب علينا أن نتردد قبل القفز على متن نفس المركب. ثانيًا، النسبية الأخلاقية من جهتها تبدو أنها استجابة غريبة وغير مبررة للمركزية العرقية. لأنه ليس من الواضح على الإطلاق لماذا يجب أن يؤخذ تأثير الثقافة على معتقداتنا الأخلاقية كدليل على أن الثقافات تؤثر على الحقيقة الأخلاقية نفسها. لذلك، وعلى سبيل المثال، ستكون التضحية بالأطفال مسموح بها أخلاقيًا في أي مجتمع به عدد كافٍ من الأعضاء الذين يؤمنون بأنها كذلك. لا يبدو هذا الاستخلاص غير مدفوع بالظاهرة التي نناقشها هنا فقط، بل انه سيحوّل المركزية العرقية إلى نوع من الفضيلة (لأن استيعاب رؤية ثقافة المرء سيكون طريقة للاستفادة من الحقيقة الأخلاقية)، والتي تتعارض مع الفهم الإزدرائي العام للمصطلح.
الأكثر أهمية من كل هذا هو حقيقة أن هناك طرق أخرى أكثر مباشرة وأقل شكوكية للرد على المركزية العرقية. على رأس هذه الطرق في رأيي هو الاعتراف البسيط والمتواضع بأن المركزية العرقية خطر يواجهنا جميعًا ولكنه لا يجب أن يفقدنا عزيمتنا في البحث عن الحقيقة برمتها. هذا هو نوع الرد على المركزية العرقية الذي يجده المرء على سبيل المثال في أعمال فيلسوف القرن التاسع عشر الفيلسوف الإنجليزي جون ستيورات ميل. يعترف ميل بشكل سريع “بالتأثير السحري للعادات” على فكرنا وكذلك بالطريقة التي تظهر لنا المعتقدات والممارسات المحلية على أنها “بديهية تبرر ذاتها” ولكنه لا يعتبر هذا الأمر سببًا للوقوع في الشكيّة. بدلاً من ذلك وبشكل متعقّل للغاية فإنه يعتبر هذا التأثير دليلاً على كسلنا الفكري وعرضتنا للخطأ، وعلى الاحتمالية الحاضرة أبدًا بأن معتقداتنا يمكن أن تكون خاطئة. تربكنا حقيقة أن معتقداتنا العميقة قد تكون مختلفة لو أننا ولدنا في مكان آخر على هذا الكوكب (أو حتى في بعض الأحيان لآباء مختلفين يقطنون في آخر الشارع) ويجب أن تجعلنا هذه الحقيقة أكثر انفتاحاً لاحتمالية خطئنا وتحفزنا على تقييم معتقداتنا وممارساتنا بصرامة في مقابل بدائل أخرى. ولكن هذه الحقيقة يجب ألا تسبب خيبة أمل.
يعترف مونتين في لحظة أكثر صراحة في “آكلي لحوم البشر” “Des Cannibales” وهي من ضمن لحظات كثيرة من هذا النوع في كتاباته، يعترف أنه قد نسي ملاحظة ثالثة شاركها البرازيليون الأصليون ردًا على سؤاله. نسيان مونتين خسارة، ليس لأنه فقط يسلبنا من نافذة تطل على مواجهة ثقافية تبلغ من العمر ٥٠٠ عام، مواجهة مذهلة بحد ذاتها، ولكن لأنه يسلبنا أيضاً من فرصة محتملة لفعل مايوصي به ميل تمامًا وهو إعادة النظر في معتقداتنا وممارساتنا والانتباه إلى نقاط الضعف والتناقض في طريقة تفكيرنا، واكتشاف ما هو ممكن من وجهة نظر ثقافية غير مألوفة، وبذلك نصبح أفضل من المخلوقات ذات المركزية العرقية التي نحن عليها.
الكاتب: آدم إيتنسون زميل دراسات عليا في ميلون Mellon في مركز الدراسات العليا في جامعة المدينة في نيويورك. ظهرت أعماله في المجلات العلمية التالية: The Journal of Moral Philosophy, Human Rights Quarterly, Res Publica and Dissent.
المترجمة: باحثة دكتوراه في الأدب. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
Of Cannibals, Kings, and Culture: the Problem of Ethnocentricity
Adam Etinson
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”